عامل المفاجأة:
ضمن خطة محكمة تستقريء خطط الخصم وجه خالد اللواء الأول بقيادة القعقاع بن عمرو إلى الحصيد، ووجه في الوقت ذاته اللواء الثاني بقيادة أبي ليلى إلى الخنافس؛ وأمرهما أن يتصديا لجيوش الفرس فيهما في وقت واحد وبسرعة، وتحرك كل من القعقاع وأبي ليلى في طريقين منفصلتين، وكانت المسافة إلى الحصيد أقصر من المسافة إلى "الخنافس"، فلما اقترب القعقاع من الحصيد فوجئت القوات الفارسية بقيادة "روزبه" بضخامة قوات جيش المسلمين على غير ما كانت تتوقعه، فظن روزبه أن كل الجيش المسلم قد توجه إلى الحصيد، فأرسل يطلب النجدة من قائد القوات الفارسية في الخنافس زرمهر، مؤكداً له أن كل جيش المسلمين قد اجتمع في الحصيد، وهو ما شكل حيرة وارتباكاً أيضاً لزرمهر، فالمعطيات التي عنده تقول: إن هناك قوات لجيش المسلمين في الخنافس، وزميله روزبه يؤكد له أن كل الجيش المسلم موجود في الحصيد، وسرعان ما انتقلت الحيرة إلى قائد الجيش الفارسي بهمن عندما أرسل إليه زرمهر يستأذنه بتحريك قواته للحصيد، ووسط هذه الحيرة وغموض حقيقة الموقف بالنسبة للجيش الفارسي اتجه بهمن نفسه للحصيد ليقف على حقيقة الأمر(6).
معركة الحصيد:
وصل القعقاع بن عمرو بقواته إلى الحصيد بتاريخ 12/8/10 ه هجرية، وبناء على أوامر خالد بن الوليد بدأ فوراً بمهاجمة قوات الفرس فيها، وكانت قوات الفرس تفوق قوات المسلمين من ناحيتي العدد والعتاد، وعندما وصل بهمن لتفقد حقيقة الموقف وجد نفسه في أتون معركة عنيفة يظهر فيها المسلمون ضروباً من الشجاعة تقابلها معنويات قواته المنهارة، ولم يكن أمامه أي وقت لاستجلاء حقيقة وضع الجيش المسلم، هل هو موجود كله في الحصيد يحارب فيها، أم أن قسماً كبيراً منه في الخنافس، ولم يستطع اتخاذ قرار باستدعاء قواته من الخنافس، وانعكس ذلك على القوات الفارسية، إذ لم يكونوا يدرون إن كانوا يقاتلون كامل الجيش المسلم أم أن هناك قوات كبيرة منه قادمة لتخوض المعركة ضدهم!!
واستمرت المعركة حامية الوطيس، واستطاع القعقاع بن عمرو أن يقتل بسيفه قائد القوات الفارسية في المعركة روزبة، ثم قتل أحد الجنود المسلمين قائدهم الثاني زرمهر، فانهارات معنوياتهم نهائياً، وصار كل واحد منهم ينشد النجاة بنفسه، ويطلب الفرار بجلده، فانسحبوا إلى "الخنافس" تاركين وراءهم أعداداً كبيرة من القتلى، وتحقق النصر للمسلمين في تلك المعركة.
معركة الخنافس:
لعلها أطرف معركة يخوضها المسلمون آنذاك دون أن يحاربوا فيها عبر المفهوم التقليدي للمعركة، ومع ذلك حققوا انتصاراً باهراً؛ فبعد هرب الناجين من معركة الحصيد التجأوا إلى الخنافس؛ وكان وصولهم إليها قبل وصول قوات أبي ليلى بوقت قصير، فشكلوا قوة إضافية لا يستهان بها في الجيش الفارسي بقيادة "مهبوزان"؛ وكان جيشاً كبيراً متحصناً وراء الأسوار المنيعة للخنافس، وقد صمم مهبوزان والجيش الفارسي على التصدي للجيش المسلم، ثأراً لهزيمتهم في الحصيد، وقد سمعوا بتقدم جيش المسلمين إليهم وظنوا أنه الجيش الذي حارب في الحصيد، وهو بحسب اعتقادهم جيش متعب منهك من المعركة.
وبدأت المفاجآت تظهر للجيش الفارسي من جديد، فقد تبين لهم أن هذا الجيش هو القوات المسلمة التي كانت موجودة في الخنافس، وليست القوات التي حاربت في الحصيد، وهي بقيادة أبي ليلى، ولم يساورهم الشك بأن القوات الأخرى بقيادة القعقاع بن عمرو قادمة إليهم أيضاً، وعندها سيكون من المستحيل عليهم الصمود أمام جيش هزمهم في الحصيد سينضم إلى جيش لم يحارب بعد، وهو بكامل قواه وجاهزيته، وسرعان ما انهار أفراد القوات الفارسية، وصاروا يفرون جماعات وأفراداً من الخنافس قبل وصول جيش المسلمين إليها، ولم تنجح كل الإجراءات التي اتخذها قائد الفرس مهبوزان في منع فرارهم، فاضطر إلى الانسحاب بدوره مع من تبقى من قواته، والخروج من الخنافس متجنباً خوض المعركة مع الجيش المسلم، وعندما وصل أبو ليلى إلى الخنافس وجدها خالية من الفرس، فأقام بها مدة، ثم أرسل إلى خالد بن الوليد ينهي إليه أنباء استيلائه على المدينة، ويخبره بفرار الفرس(8).
وهكذا انتصر المسلمون أيضاً في معركة الخنافس دون أن يخوضوا معركة هذه المرة.
الدروس المستفادة:
من الواضح بعد ما ذكرناه أن معركة الحصيد تقدم كماً كبيراً من الدروس التي ما زال الفكر العسكري المعاصر يستفيد منها، وفي مقدمة هذه الدروس دور القائد في تحقيق النصر، فقد توفرت لجيش المسلمين قيادة عبقرية تمثلت بالقائد خالد بن الوليد رضي الله عنه، وتقدم هذه العبقرية بدورها دروساً يجب أن يستند إليها القائد دائماً،
ومن هذه الدروس:
1-التقدير الصحيح للمواقف: فقد كان خالد بن الوليد رضي الله عنه لا يخوض المعركة إلا بعد تقدير كامل وصحيح لقوات الطرفين، واستقراء خطط العدو، ووضع الخطط المضادة بشكل عقلاني وصحيح.
2- التعامل مع المستجدات بروح الابتكار ضمن المعطيات المتوفرة.
3- طاعة أولي الأمر والطاعة العسكرية: فعلى الرغم من حساسية الموقف العسكري نفذ خالد بن الوليد رضي الله عنه أمر الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وتوجه بالقسم الأكبر من قواته لنجدة الجيش المسلم في دومة الجندل، وهو أمر يدخل في باب طاعة أولي الأمر من الناحية الشرعية، كما أنه يدخل في باب أهمية الطاعة العسكرية ودورها المهم في تحقيق الانضباط في الجيش ككل، وهو أمر تبدى أيضاً في تنفيذ القعقاع بن عمرو وأبي ليلى لأوامر خالد في توجههما للحصيد والخنافس، ودخول المعركة كما رسمها وخطط لها؛ مما كان له دور بارز في تحقيق النصر.
4- العامل النفسي: إن طاعة أولي الأمر، والطاعة العسكرية مع توفر القائد، والإيمان بعدالة القضية التي يحارب الجيش من أجلها، تشكل بمجملها أسلحة نفسية يمتلكها الجيش في مجال تحقيق النصر.
5- عامل المفاجأة: بما يعنيه ذلك من نقل المعركة إلى أرض العدو بدون توقع منه، وهو ما فعله خالد بن الوليد رضي الله عنه في معركة الحصيد، ثم في معركة الخنافس كما رأينا.
6- المناورة: بما تعنيه من سرعة تجميع ونشر القوى والوسائط بحسب المستجدات الميدانية، كما فعل خالد بن الوليد رضي الله عنه بتجميع قوات الجيش في عين التمر بسرعة، وتقسيمها إلى ألوية، وتوجيهها إلى الأماكن المختارة للمواجهة.
7- القوات الاحتياطية: أي أن يترك القائد دائماً قوات في المؤخرة بكامل جاهزيتها؛ لدعم القوات المحاربة في ميادين القتال إذا تطلب الموقف تدخلها، وتكون هذه القوات أيضاً حماية للعمق في حال تبدل الموقف القتالي، وهذا ما رأيناه في نهج خالد بن الوليد رضي الله عنه، فبعد تجميعه للجيش في عين التمر قسمه إلى ثلاثة ألوية، وجه لوائين إلى الحصيد والخنافس، وأبقى لواء في عين التمر، ولم يزجه في المعركة، وبذلك بقيت بيد خالد قوات احتياطية يستطيع بها التعامل مع أي مستجدات غير محسوبة أثناء المعارك.
مجد وإشراق:
من المؤكد أننا عندما نستعيد وقائع معركة الحصيد وغيرها من معارك المسلمين المظفرة، لا نريد التغني بأمجاد سابقة، ولكن لنؤكد أن تاريخنا العربي المسلم يشكل أمجاداً واشراقات ما أحوجنا إلى الأخذ بأسبابها، وفي مقدمتها: عودتنا الصحيحة القوية إلى تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف، تلك التعاليم التي شكلت عقيدة قوية لدى أجدادنا، استطاعوا بها تحقيق الانتصارات الرائعة، ونشر مبادئ الحب والخير والتسامح والعدل في العالم، مبادئ الإسلام الحنيف.
وها نحن مرة أخرى نستذكر حديث العقيد الروسي بروميكوف عن عبقرية القائد خالد بن الوليد رضي الله عنه بقوله: "إن الكثير من الخطط الحربية التي نتباهى بها كعسكريين لا تضاهي الخطط الرائعة التي وضعها وقادها خالد بن الوليد، خاصة في قتال القوات في الصحراء.."(9).
المصادر:
1-قتال الصحراء حتى نهاية الحرب العالمية الثانية - العقيد ب.ي بروميكوف - ترجمة محمد حسين - دار التنوير - بيروت - 1980م.
2- سيف الله خالد بن الوليد - العقيد الركن صبحي الجابي (ترجمة) - مؤسسة الرسالة - بيروت - 1982م .
3- نفس المصدر .
4- البداية والنهاية - عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي - تحقيق الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي - دار هجر - القاهرة - 1998م.
5- سمري حلبي - معركة الحصيد وانكسار الفرس - موقع "إسلام أونلاين".
6- نفس المصدر.
7- المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: أبو الفرج عبدالرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي - دراسة وتحقيق: محمد عبدالقادر عطا - مصطفى عبدالقادر عطا - دار الكتب العلمية - بيروت.
8- نفس المصدر.
9- العقيد بروميكوف - مصدر