المقدمة:
الحرب، ظاهرة اجتماعية قديمة، قدم الوجود الإنساني على الأرض، وساد الاعتقاد بأن الحرب هي جوهر الحياة، وأبرز ظواهرها الاجتماعية، وأن التاريخ تصنعه المعارك الكبرى. ومع استمرار ظاهرة الحرب، وتعاظم تأثيرها على تطور الحياة البشرية، وعلى مصائر الدول والشعوب، جاءت أهمية دراسة الحرب، وبحث طرق إدارتها عبر التاريخ. وقد أثبت التاريخ أن طرق إدارة الحرب عملية ديناميكية، أي في حركة ذاتية صاعدة، تتطور من البسيط إلى المعقد، ومن أسفل إلى أعلى، وأصبح تطور فن الحرب الشيء الواقع الملموس، الذي ارتبط بتطور الإنتاج والبناء الاجتماعي والسياسي للدولة، والدول المحيطة بها.
يشمل تاريخ فن الحرب، التطور التاريخي للقوات المسلحة، وطرق إدارة الحرب، خاصة المسائل، التي أحدثت تغيراً جذرياً في التنظيم والتسليح، أوالفكر العسكري. كما أن تاريخ فن الحرب، يكشف النقاب عن الجديد الذي سيصبح موضع
تجربة في المستقبل، والحكم على صلاحيته، ووضع تصور عن التطور المنتظر لهذا الجديد.ومن مهام تاريخ فن الحرب، دراسة تطور النظريات العسكرية وأهميتها. فالنظرية العسكرية الحديثة تأتي من تاريخ الحروب، الذي يحتوي على خبرات قتالية سابقة، وتاريخ نظم التسليح، وفكر عسكري يشمل النظريات العسكرية، التي طبقت عبرالتاريخ،وعندما تأتي النظرية العسكرية الحديثة، فإنها تمر بمراحل اختبار عملية، ودراسة تحليلية لتطبيقها، لتكون إستراتيجية عسكرية، في إطار عقيدة عسكرية خاصة، وما تفرضه أو تتطلبه من تطوير في القوات المسلحة من حيث التسليح أو البناء التنظيمي. (اُنظرشكل بناء النظرية العسكرية)
أولاً: النظريات العسكرية عبر التاريخ
ترجع أصول النظريات العسكرية الحديثة، إلى أكثر من ثلاثين قرناً مضت، وقد ظهرت تلك الأصول الأولى، بفضل إلهام القادة العسكريين التاريخيين العظام وفطنتهم وعبقريتهم، ثم تأكدت تلك الأصول وتبلورت وتكاملت تدريجياً، وتراكمياً على مر العصور. وقد تأثر نشوء النظريات العسكرية وتطورها، تأثراً مباشراً بعوامل سياسية، وأيديولوجية، واجتماعية واقتصادية وتقنية وجغرافية وبيئية وعوامل أخرى عديدة، وتبعاً لطبيعة تأثير تلك العوامل، تعرضت النظرية العسكرية لعثرات وسقطات عديدة. كما تعرضت لارتقاءات وقفزات متباينة، ولكنها كانت دائماً كالبنيان المرصوص، حيث تأتي النظريات الحديثة، لتكمل وتحدث القديم منها، وكانت النظرية العسكرية، عبر عصور التاريخ، ذات خصائص وسمات، تتمشى مع زمان عصرها، وفي كل عصر لها أشكالها، حيث تطورت عبر أربعة عصور متتالية، تشمل العصر القديم، والعصر الوسيط، وعصر النهضة، والعصر الحديث.
ثانياً: العصر القديم (حتى القرن الخامس الميلادي)
يضم هذا العصر التاريخ العسكري الإمبراطوريات العظمى القديمة مثل وهما الرومانية والصينية وممالك اليونان، حتى القرن الخامس الميلادي، والذي امتد لأكثر من ثلاثين قرناً من الزمان، ترسخت خلالها المبادئ والقواعد الأساسية لفن الحرب. ومنذ تلك الأزمان السحيقة، ظهر نموذجان للحرب، هما النموذج المباشر، والنموذج غير المباشر، ويهدف الأول منهما إلى سرعة القضاء على الخصم، بواسطة المعركة، وقيادة هذه المعركة بأعمال هجومية، حيث تندفع
القوات إلى عمق الخصم، إلى أن ينهار تماسك تشكيله القتالي، وكان نجاح الهجوم يتوقف على قوة صدمة الكتلة المهاجمة. أما النموذج الآخر فكان يهدف، أولاً، إلى تفتيت الخصم واستنزافه مادياً ومعنوياً، ثم تأتي المعركة بعدها، إجراء أخيراً؛ للإجهاز عليه، وكان نجاح هذا الأسلوب يتوقف على خفة حركة القوات، وكانت الحرب غير المباشرة، امتيازاً للإمبراطوريات الشرقية، ولم تلجأ إليها الإمبراطوريات الغربية إلا مضطرة، ويرجع نموذجا الحرب هذان إلى أسباب جغرافية، وبيئية، ونفسية، أوجدت توافقاً للحضارة الغربية، مع الحرب المباشرة، والحضارة الشرقية، مع الحرب غير المباشرة.
إن مصادر العصر القديم رغم كثرتها، لم تحدد نظريات القتال التي كانت السائدة، بصورة مباشرة، وإنما ظهرت أصول قواعدها، في سياق وصف سير المعارك ونتائجها، وكان على الفكر العسكري، أن يحلل أحداث الحروب القديمة، ويستنبط منها قواعد الحرب، التي طبقت، وقد جرى ذلك في عصور لاحقة، واعتمدت الحروب على موهبة
القادة، وكانت قواعد الحرب، "النظريات العسكرية"، تظهر معالمها، نتيجة لعبقرية القادة القدامى، وممارستهم العملية في ميادين القتال. وقد أكد نابليون بونابرت هذه الحقيقة، فيما بعد، عندما قال: "إن شخصية القائد لا تقدر بقيمة، فهو رأس الجيش وكل شيء فيه، إذ لم يغز بلادَ الغال فيالق الرومان؟ بل غزاها قيصر؛ ولم تضطرب روما أمام جيوش قرطاجنه، بل اضطربت أمام هانيبال. ولم يكن فرسان مقدونيا هم الذين توغلوا في بلاد الهند، بل هو الإسكندر الأكبر، وهكذا ارتبطت نتائج الحروب بأسماء بعض القادة البارزين.
ظهر كثير من الأنباء عن نماذج الحرب المباشرة وغير المباشرة، في بعض الملاحم الأسطورية، وبعض الأعمال الأدبية، مما وفر لمحة عارضة، عن فن الحرب في العصر القديم، ولكنها محدودة الفائدة من الناحية الموضوعية. بيد أن المصريين القدماء سجلوا حروبهم، بغاية الدقة والتفصيل على جدران المعابد، وفي لفائف البردي، وتعد موقعة قادش عام 1285م أقدم العمليات العسكرية، التي توافرت لها تسجيلات مفصلة، وقد وقعت بين جيوش "رمسيس الثاني"، فرعون مصر، والحيثيين، وسجلت أحداثها على جدران معابد الأقصر، والكرنك وأبي دوس، وأبي سمبل، وفي لفافة بردية، تعرف بملحمة أو قصيدة بنتارو، الكاتب الذي نسخها، وقد بينت موقعة قادش معلومات دقيقة عن بعض قواعد القتال، التي استخدمت في المعركة، من الطرفين، حيث كان أبرزهاالآتي:
1. إستراتيجية الاقتراب غير المباشر.
2. قوة الصدمة للكتلة المهاجمة.
3. بعض المبادئ والقواعد القتالية، مثل "وضوح الهدف، والمفاجأة والمبادأة، والمناورة والمرونة وخفة الحركة، والخداع، والقيادة والسيطرة، والتنسيق والتعاون".
وفي بلاد الصين، وضع "صن تزو" 512 ق.م، أقدم المصادر العسكرية الوثيقة الصلة بالنظريات العسكرية، في كتابه عن "فن الحرب، والذي يُعدُّ أول الأبحاث المعروفة، حول الموضوع، والتي لم
يستطع أحد أن يتخطاها، في الشمول والعمق. ومن أبرز ما تعرض له صن تزو الآتي:
1. عن إستراتيجية الاقتراب غير المباشر حيث يقول صن تزو:
أ. "إن أخذ البلاد سالمة هو أفضل من تدميرها".
ب. "إن إخضاع العدو، بدون قتال، هو أفضل ما يكون، ولذلك من الأفضل في الحرب ضرب إستراتيجية العدو، ثم ضرب تحالفاته، ثم ضرب جيوشه".
ج. "المقاتل الجيد يستدرج العدو إلى أرض المعركة، ولا يدع العدو يستدرجه".
د. "من اختار الطرق الملتوية في التقدم يحرز النصر".
هـ. "بإمكان الجيش أن يشابه الماء، وكما أن الماء الجاري يتحاشى الأعالي، وينساب في المنخفضات، كذلك على الجيش أن يتجنب النقاط القوية، ويهاجم النقاط الضعيفة، وكما أن الماء يكيف انسيابه مع تضاريس الأرض، كذلك الجيش، في عملياته للوصول إلى النصر حسب وضع العدو، وكما أن الماء ليس له شكل معين، كذلك الجيش ليس له ترتيبات دائمة".
2. الحرب الخاطفة
وفيها يقول صن تزو الآتي:
أ. "إذا قررنا شنَّ حرب، فلابدّ أن تكون هذه الحرب خاطفة وحاسمة" وفيها وضع شرطاً لاختصار فترة الحرب، إلى أقل فترة ممكنة.
ب. "في الميدان، كن سريعاً كالريح، بطيئاً كالغابة، مدمراً كالنار، ثابتاً كالجبل، مبهماً كالظل، مباغتاً كالصاعقة".
ج. "عندما يتوغل الجيش في أرض العدو بعمق، يجب على القائد حثّ جيشه على السير قدماً إلى الأمام كإطلاق السهم".
3. في الهجوم بالنار
قال صن تزو: هناك خمس طرق للهجوم بالنار: "أن تحرق المعسكرات، وأن تحرق صوامع الغلال، وأن تحرق مستودع العتاد، وأن تحرق دار الصناعة (الترسانة)، وأن تحرق معبر النقل".
أما الحروب الإغريقية، فقد تأثرت بتكوين الجيش وظهوره في أثينا، وما حدث من تحول اجتماعي وعسكري في المجتمع الأثيني، خلال القرن السادس قبل الميلاد، وهذا ما أضفى على الجيش طابعاً طبقياً خاصاً، وتسليحاً، وتكتيكاً محدداً. وقد ظهر تفوق فن الحرب والتنظيم العسكري الإغريقيphalanx ،على نظيره الفارسي في الحروب العديدة، التي نشبت بين الفريقين، إلا أننا لا نستطيع أن نستنبط أياً من نظريات الحرب التي استمرت بعدها. إلا أن الحروب التي نشبت داخل الدويلات الإغريقية، حملت بعض الدروس المهمة، خاصة في مرحلة الحرب البلوبونيزية (431 ـ 404) ق.م، وذلك ارتباطاً بما حدث من تطور في الجيوش الإغريقية، في مجال التسليح والتنظيم، أو التحول إلى جيوش المرتزقة.
إذا حللنا التاريخ، وجدنا أن استخدام الحركة الإستراتيجية في البحر، بهدف إجراء هجوم غير مباشر، ترجع إلى "بيريكليس"، الذي استخدم أسلوباً خاصاً، يتلخص في تجنب الاشتباك البري، بغيه استخدام التفوق البحري اليوناني بشكل أفضل، وقتل رغبة العدو الهجومية، بسلسلة من الغارات، وأطلق على هذا الأسلوب "إستراتيجية بيريكليس"، أو الإستراتيجية البحرية، التي تهدف إلى تفتيت قوة العدو باستمرار، حتى يصل إلى الاعتقاد بأنه عاجز عن القيام بعمل يفيده.
وفي عام 371 ق م، أحدث "أيبامينونداس" الطيبي، في معركة الكترا، ثورة في فن الحرب، حيث وضع قاعدة تكتيكية عظيمة، مازالت مستخدمة حتى الآن، وهي "قاعدة تركيز الجهود"، وتشمل التوزيع غير المتساوي للقوات، على المواجهة، إذ لا يمكن أن تكون قوياً في كل مكان، وإذا حاولت ذلك فستكون ضعيفاً في كل مكان. والعاقل من ركّز التجميع الرئيس لقواته في الاتجاه، أو القطاع الحاسم، (اُنظر شكل معركة الكترا) وعندما أصبح فيليب الثاني ملكاً على مقدونيا، عام 395 ق.م، وضع قاعدة سياسية عسكرية تشمل الآتي:
أ. "الخداع قبل القوة، ثم اللجوء إلى القوة أخيراً".
ب. الإدراك الواعي الجغرافي، وخفة الحركة، والتعاون الوثيق بين الأسلحة".
حقق فيليب الثاني انتصارات عظيمة، وتوسعات كبيرة لمقدونيا، بتبنيه لهذه القواعد، وفي عام 336 ق.م، قتل فيليب، وترك مشروعه لابنه الإسكندر، الذي قام بتطوير قواعد فيليب، وتميزت معارك الإسكندر الأكبر، بعبقريته العسكرية
وانتصاراته العديدة، التي مكنته، من توسيع إمبراطوريته في مصر وسوريا، وشرقاً حتى تخوم الهند، وطبق في معاركه العديد من القواعد والنظريات أبرزها:
أ. "إستراتيجية الاقتراب غير المباشر".
ب. "الحرب الخاطفة" التي برزت في اعتماده على الخيالة؛ لتوفير خفة الحركة، والتوسع في أعمال قتال المفارز، على أجناب الخصم ومؤخرته.
ج. "تطبيق قواعد أيبامينونداس، الخاصة بتركيز الجهود".
د. "تشكيل قوات احتياطية في شكل نسق ثان"، لدفعها في اتجاه النجاح