اتبعت لجنة المختصين , التي شكلها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في 23 آب (أغسطس) 2007م, في عملها لإعداد استراتيجية الدفاع والأمن القومي, المنطق الاستراتيجي القائم على مقارنة بين الوضع, الفرنسي والاقليمي والدولي, الذي كان سائدا عام 1994 – تاريخ الاعلان عن آخر خطة مماثلة – وبين الوضع على ما هو عليه في العام 2008, ثم قامت بتحليل واستشراف ما سيكون عليه الوضع في السنوات الـــ 15 القادمة .
عشرة أشهر من العمل استمعت اللجنة إلى عدد من الشخصيات الفرنسية : سياسية ودينية واجتماعية تمثل تيارات متعددة الانتماء في قضايا الدفاع, ولم تهمل الجانب (الأجنبي), فتم الاستماع إلى باحثين من آفاق مختلفة؛ ثم قدمت نتيجة عملها إلى الرئيس ساركوزي الذي أعلن عنها بدوره أمام نحو ثلاثة آلاف من موظفي وزارة الدفاع في السابع عشرمن حزيران (يونيو) هذا العام .
ونُشرت الخطة تحت اسم (الكتاب الأبيض), علما أن تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة عرف ثلاثة كتب بيضاء, أولها كان عام 1972 وتركز البحث فيه على مفهوم ( الردع ) , وثانيها عام 1994 وتمحور حول ( الاحتراف) في الخدمة العسكرية, أما الصادر حديثا فظهر فيه (المعرفة والاستباق )؛ ومن المعروف أن الكتب البيضاء تشكل اطارا عقائديا وقاعدة معلومات لقوانين البرمجة العسكرية التي تحيلها الحكومة, عبر مشاريع قوانين, الى البرلمان لمناقشتها واقرارها .
قدمت اللجنة تصورها للعالم اليوم فوجدت أنه ( يتميز بعدم الاستقرار, فلا العولمة أقامت, منذ عقدين, عالما أفضل ولا أخطر, بل هناك (أطر لنظام دولي غير مستقر وغير مسيطر عليه تماما , اذاً هو مقلق . . . لتعدد أنواع المخاطر التي يجب مواجهتها من الإرهاب الى المخاطر البيئية والانتشار النووي), وتتوزع هذه المخاطر في مختلف أصقاع العالم؛ وبما أن فرنسا جزء من العالم الغربي الذي يجب الدفاع عنه, ليس بالطرق التقليدية لزوال الخطر السوفياتي وذراعه العسكرية , حلف وارسو, من على الساحة الاوروبية, بل بوسائل أكثر حداثة وأكثر تطورا تتناسب مع تنوع المخاطر وتعدد أساليبها .
مقترحات للتطوير
واستنادا إلى هذه القراءة , قدمت اللجنة المقترحات التالية التي أهمها :
اولاً: ضرورة قيام جيش فرنسي حديث وقليل العديد, أكثر سرعة في الحركة والتحرك , لذا يجب إلغاء 54 ألف وظيفة من أصل الوظائف الحالية البالغ عددها 320 ألفا في الدفاع, من عسكرية ومدنية وذلك خلال السنوات الست أو السبع المقبلة. يضيف وزير الدفاع الفرنسي, شارحا هذا الاقتراح , بقوله: على هذا الجيش أن يصبح قادرا على إرسال 30 ألف جندي بدلا من 50 ألفا و70 طائرة مقاتلة خارج الحدود الفرنسية على مسافة تقا رب الثمانية آلاف كيلو متر , وكي تبقى فرنسا إحدى القوى العسكرية الأربع الكبرى مع الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا, عليها الاحتفاظ بقوة احتياط للتدخل السريع قوامها خمسة آلاف جندي .
إلا أن اللافت في هذا المجال, هو التركيز على الاستخبارات، فلدى تقديمه هذه الخطة, قال الرئيس ساركوزي: إن فرنسا لم تستهدف خلال السنوات الماضية بــ(اعتداءات ارهابية), وذلك بفضل فاعلية القوات الأمنية الفرنسية, مضيفا أن (التهديد مازال قائما وحقيقيا ويمكن أن يتخذ أشكالا مختلفة جديدة أشد خطورة بوسائل متطورة: إشعاعية وكيميائية وبيولوجية), فإعطاء الاولوية للاستخبارات تبقي الساحة الفرنسية محصنة في وجه هذه المخاطر . وتقترح اللجنة في هذا الخصوص ( مضاعفة الموازنة السنوية للاستخبارات من 350 مليار يورو الى 700 مليار , كما تقترح استحداث مجلس وطني للاستخبارات يرتبط برئيس الجمهورية، ومجلس استشاري يزود الرئيس بالتوصيات والمقترحات) .
أما وزير الدفاع فيقول ,
إن (زيادة وسائل الاستخبارات) تعني أن فرنسا تحتفظ بالاستقلالية في (التقدير والتقرير ), ففي عالم متغير وغير مستقر علينا أن نعرف وأن نسبق ) . . .
ثانياً: سياسة الدفاع الأوروبية المشتركة: استندت اللجنة في مقترحاتها في هذا الخصوص على المواقف والتصريحات التي أطلقها الرئيس الفرنسي. لقد أشار ساركوزي , في القمة الأطلسية التي عقدت في الأول والثاني من نيسان (أبريل) الماضي في بوخارست وبعد أن أزال التحفظ الاميركي, إذ إن الادارة الاميركية كانت تخشى من منافسة السياسة الدفاعية الاوروبية المشتركة لسياسة التحالف الأطلسي, إلا إن من أولويات الرئاسة الفرنسية, لدى توليها رئاسة الاتحاد الاوروبي في الأول من تموز (يوليو) الماضي هو دفع سياسة الدفاع الاوروبية المشتركة الى الأمام .
واستنادا لدعم مقترحات اللجنة قال ساركوزي في تقديمه نتائج عمل اللجنة:(على فرنسا القيام بالخطوة الاولى نحو إحياء حقيقي للدفاع الأوروبي المشترك في المرحلة المقبلة). أما أحد أعضاء اللجنة التي أعدت الكتاب الأبيض فإنه ربط ذلك بتحقيق شرطين لنجاح السياسة الفرنسية في هذا المجال: الأول إعادة إطلاق مشروع العام 1999 الذي يعتمد على قيام قوة عسكرية أوروبية قادرة على العمل في الخارج تضم 60 ألف جندي أوروبي, والثاني إمكانية قيادة عمليات وتخطيط على المستوى الاوروبي, وذلك انسجاما مع الشعار الذي ترفعه الرئاسة الفرنسية: (ما هو صالح لأوروبا , صالح للتحالف الاطلسي) .
ثالثا: عودة فرنسا إلى القيادة العسكرية العليا لمنظمة حلف شمال الأطلسي: هنا أيضا تعود اللجنة إلى مواقف الرئيس ساركوزي وتشير إلى أنه كان قد أعلن أمام مجلس العموم البريطاني, عندما كان في زيارة دولة لبريطانيا في آذار (مارس) الماضي, أن فرنسا تنوي العودة الى القيادة العليا، ووضع شروطا لذلك أهمها تولي ضباط فرنسيون المراكز التي يستحقونها في هذه القيادة, ثم عاد وأكد ذلك في القمة الأطلسية في رومانيا وقرر إرسال كتيبة فرنسية إضافية لتنضم إلى قوات التحالف الأطلسي العاملة في أفغانستان. يقول الكتاب الأبيض: إن كثيرا من الفرنسيين يجهلون بأن هنالك آلافا من الجنود الفرنسيين يعملون تحت قيادة التحالف الأطلسي في كوسوفو وفي أفغانستان وتشارك في العمليات الخارجية ولها ضباط في مراكز عديدة في المنظمة؛ أما بشأن العودة إلى القيادة العليا فإن ذلك يخضع للقرار السياسي المتعلق برئيس الدولة . وشرح الرئيس ساركوزي رؤيته لهذا الموضوع قائلا: (لا شيء يتعارض مع مشاركتنا في البنى العسكرية لحلف الاطلسي), وفي النهاية، إن فرنسا هي (حليف مستقل وشريك حر), مشيرا الى ضرورة المحافظة على (استقلالية القرارالفرنسي ..., ففرنسا ستحافظ في جميع الظروف على حرية التقدير الكامل في إرسال قواتها في مهمة ما), وإنها (لن تضع أي كتيبة تحت إمرة القيادة الأطلسية في زمن السلم)؛ واختتم ساركوزي بقوله: (إن القدرة النووية الفرنسية ستبقى وطنية حصرا ) .
ويطرح أحد المشاركين في إعداد هذا الكتاب التساؤلات لشرح اللبس العالق في أذهان الرأي العام بقوله : ( هل تتيح العودة , لنا, إلى القيادة العسكرية العليا للتحالف الأطلسي زيادة تأثيرنا في المنظمة الأطلسية, ونملك وجودا أوروبيا أكثر أهمية؟). ويضيف: (نحن , بدون شك , الوحيدون في العالم الذين يعتبرون أن وجودنا في البنى العسكرية للأطلسي هو تقليص لاستقلالنا ؟ لننظر الى تركيا التي لم تشارك في العمليات العسكرية ضد العراق ولم تسمح , حتى , بمرور القوات العسكرية الاميركية على أراضيها . . . ), ويخلص إلى القول بـــ (إن الاحتفاظ بالاستقلال ليس شرطا خاصا بفرنسا) .
هذا وقد أعلن الرئيس الفرنسي عودة بلده إلى القيادة العسكرية العليا للأطلسي خلال انعقاد القمة الأطلسية في الرابع من شهر أبريل الجاري، ولدى الاحتفال بالذكرى الــ 60 لإنشاء المنظمة الأطلسية, وبذلك تنتهي المقاطعة الفرنسية التي بدأت عام 1966 بقرار من الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول واستمرت 43 عاماً.
المصدر: مجله الحرس الوطنى
موضوع: فرنـسا واستراتيـجية الدفاع والأمن القومي 
الخميس 11 يونيو 2009 - 15:27
