ميراث النبوة
قالوا : رويتم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إنا - معشر الأنبياء - لا نورث ، ما تركنا صدقة.
وهذا خلاف قول الله - عز وجل - حكاية عنزكريا: وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا يازكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا، وخلاف قوله : - عز وجل - : وورث سليمان داود.
قالوا :وقد طالبتفاطمة-رضي الله عنها -أبا بكر-رضي الله عنه - بميراث أبيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما لم يعطها إياه ، حلفت لا تكلمه أبدا ، وأوصت أن تدفن ليلا لئلا يحضرها ، فدفنت ليلاواختصمعليوالعباس-رضي الله عنهما - إلىأبي بكر-رضي الله عنه - في ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لم يورث الأنبياء مالا:
قالأبو محمد:ونحن نقول إن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :إنا معشر]ص:428 [الأنبياء لا نورثليس مخالفا لقولزكريا-عليه السلام - : فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب؛ لأنزكريا-عليه السلام - لم يرد يرثني مالي ، فيكون الأمر على ما ذهبوا إليه .
وأي مال كانلزكريا-عليه السلام - يضن به عن عصبته حتى يسأل الله تعالى أن يهب له ولدا يرثه ؟
لقد جل هذا المال إذا ، وعظم - عنده - قدره ، ونافس عليه منافسة أبناء الدنيا الذين لها يعملون وللماليكدحون ، وإنما كانزكريا بن آذننجارا ، وكان حبرا كذلك .
قال وهب بن منبه:وكلا هذين الأمرين يدل على أنه لا مال له .
زهديحيىوعيسى-عليهما السلام- :
وكذلك المشهور عنيحيىوعيسى-عليهما السلام - أنه لم يكن لهم أموال ولا منازل يأويان إليها ، وإنما كانا سياحين في الأرض .
ومن الدليل أيضا على أنيحيىلم يرثه مالا ، أنيحيى-عليه السلام - دخلبيت المقدسوهو غلام صغير ، فكان يخدم فيه ، ثم اشتد خوفه فساح ولزم أطراف الجبال وغيران الشعاب .
قالأبو محمد:وبلغني ، عن الليث بن سعد ،عن ابن لهيعة ،عن أبي قبيل ،عن عبد الله بن عمرو بن العاصقال : دخليحيى بن زكريابيت]ص:429 [المقدسوهو ابن ثماني حجج ، فنظر إلى عبادبيت المقدسقد لبسوا من مدارع الشعر وبرانس الصوف ونظر إلى متهجديهم قد خرقوا التراقي وسلكوا فيها السلاسل وشدوها إلى حنايابيت المقدس ،فهاله ذلك ورجع إلى أبويه فمر بصبيان يلعبون ، فقالوا :يا يحيىهلم فلنلعب ، قال : إني لم أخلق للعب . فذلك قوله تعالى : وآتيناه الحكم صبيا.
فأتى أبويه فسألهما أن يدرعاه الشعر ففعلا ، ثم رجع إلىبيت المقدس، فكان يخدم فيه نهارا ويسبح فيه ليلا حتى أتت له خمس عشرة حجة وأتاه الخوف ، فساح ولزم أطراف الأرضوغيران الشعاب ، وخرج أبواه في طلبه فوجداه حين نزلا منجبال البثنيةعلىبحيرة الأردن، وقد قعد على شفير البحيرة وأنقع قدميه في الماء ، وقد كاد العطش يذبحه وهو يقول : وعزتك لا أذوق بارد الشراب حتى أعلم أين مكاني منك . فسأله أبواه أن يأكل قرصا من الشعير كان معهما ، ويشرب من ذلك الماء ، ففعل ذلك وكفر عن يمينه ، فمدح بالبر .
قال الله تعالى : وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا، ورده أبواه إلىبيت المقدس.
فكان إذا قام في صلاته بكى ويبكيزكريالبكائه حتى يغمى عليه ، فلم يزل كذلك حتى خرقت دموعه لحم خديه ، فقالت له أمه :يا يحيىلو أذنت لي لاتخذت لك لبدا يواري هذا الخرق .
قال : أنت وذاك فعمدت إلى قطعتي لبود فألصقتهما على خديه ،]ص:430 [فكان إذا بكى استنقعت دموعه في القطعتين فتقوم أمه فتعصرهما ، فكان إذا نظر إلى دموعه تجري على ذراعيأمه قال : اللهم هذه دموعي وهذه أمي ، وأنا عبدك وأنت الرحمن .
فأي مال على ما تسمع ورثهيحيى ؟وأي مال ورثهزكريا ؟وإنما كان نجارا وحبرا ،وقد قال ابن عباسفي روايةأبي صالحعنه في قوله - جل وعز - : فهب لي من لدنك وليا يرثنيأي : يرثني الحبورة . وكان حبرا.
ويرث من آل يعقوبأي : يرث الملك . وكان من ولدداودمن سبطيهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم-عليهم السلام - ، فأجابه الله - جل وعز - إلى وراثة الحبورة ولم يجبه إلى وراثة الملك .
وكانزكريا-عليه السلام - كره أن يرثه ذلك عصبته وأحب أن يهب الله تعالى له ولدا يقوم مقامه ويرثه علمه .
وقال الله - جل وعز - : وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه.
وراثةسليمانلداود:
وأما قوله : وورث سليمان داودفإنه أراد ورثه الملك والنبوة والعلم ، وكلاهما كان نبيا وملكا ، والملك : السلطان والحكم والسياسةلا المال .
]ص:431 [ولو كان أراد وراثة ماله ما كان في الخبر فائدة ؛ لأن الناس يعلمون أن الأبناء يرثون الآباء أموالهم ، ولا يعلمون أن كل ابن يقوم مقام أبيه في العلم والملك والنبوة .
ومن الدليل أيضا على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يورث ، أنه كان لا يرث بعد أن أوحى الله تعالى إليه ، وإنما كانت وراثته أبويه قبل الوحي .
قالأبو محمد:حدثنا زيد بن أخزم الطائيقال : ثناعبد الله بن داودأنأم أيمنمما ورثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمه ،وشقرانمما ورثه عن أبيه ،وكيف يأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التراث وهو يسمع الله - جل وعز - يذم قوما فقال : كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما.
حدثنا إسحاق بن راهويهقال : حدثنا وكيعقال : حدثنا مسعرعن عبد الرحمن بن الأصبهاني ،عنمجاهد بن وردان ،عن عروة بن الزبير ،عنعائشة-رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أتى في ميراث مولى له وقع من نخلة ، فسأل هل ترك ولدا ؟ قالوا : لا ، قال : فهل ترك حميما ؟ قالوا : لا ، قال : فأعطوه رجلا من أهل قريته.وكأنه تنزه - صلى الله عليه وسلم - عن أكل ميراثه ، فآثر به رجلا من أهل قريته .
]ص:432 [، وأمامنازعةفاطمةأبا بكر-رضي الله عنهما - في ميراث النبي-صلى الله عليه وسلم - فليس بمنكر ؛ لأنها لم تعلم ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وظنت أنها ترثه كما يرث الأولاد آباءهم ، فلما أخبرها بقوله كفت ، وكيف يسوغ لأحد أن يظنبأبي بكر-رضي الله عنه - أنه منعفاطمةحقها من ميراث أبيها وهو يعطي الأحمر والأسود حقوقهم ؟
وما معناه في دفعها عنه وهو لم يأخذ لنفسه ولا لولده ولا لأحد من عشيرته ، وإنما أجراه مجرى الصدقة، وكان دفع الحق إلى أهله أولى به ، وكيف يركب مثل هذا ويستحله منفاطمة-رضي الله عنها - وهو يرد إلى المسلمين ما بقي في يديه من أموالهم مذ ولي ؟
وإنما أخذه على جهة الأجرة ، فجعل قيامه لهم صدقة عليهم ،وقاللعائشة-رضي الله عنها - : انظري يا بنية ، فما زاد في مالأبي بكرمذ ولي هذا الأمر فرديه على المسلمين ، فوالله ما نلنا من أموالهم إلا ما أكلنا في بطوننا من جريش طعامهم ، ولبسنا على ظهورنا من خشن ثيابهم ، فنظرت فإذ بكر وجرد قطيفة لا تساوي خمسة دراهم وحبشية ، فلما جاء به الرسول إلىعمر-رضي الله عنه - قال : رحم اللهأبا بكر ،لقد كلف من بعده تعبا.
ولو كان ما فعلهأبو بكرمن هذا الأمر ظلمالفاطمة-رضي الله عنها - لردهعليرضي الله عنه - حين ولي - على ولدها .
]ص:433 [وأمامخاصمةعليوالعباسإلىأبي بكر-رضي الله عنهم - في ميراث رسول الله-صلى الله عليه وسلم - فليس يصح لي معناه ، وكيف يتخاصمان في شيء لم يدفع إليهما ؟ أو يتحاقان شيئا قد منعاه ؟
وكلاهما لا يخفى عليه أنهما إذا ورثا كان بعد ثمن نسائهلعليمن حقفاطمة-رضي الله عنها - النصفوللعباس-رضي الله عنه - النصف معفاطمة، ففي أي شيء اختصما ؟
وإنما كان الوجه في هذا أن يخاصماأبي بكر ،وقد اختصما إلىعمر-رضي الله عنه - لما ولاهما القيام بذلك وإلىعثمانبعد ، وهذا تنازع له وجه وسبب ، رحمة الله عليهم أجمعين .