ناقشنا في الحلقة السابقة خطورة احتمال لجوء العراق للخيار الكيماوي او البيولوجي، و ناقشنا تحليل الادارة الامريكية لقدرات العراق و تقديرها لنواياه، و احتياطاتها من هذا الخيار و الذي لم يشر اي طرف من الجانب العراقي ممن كتبوا او تحدثوا عن الحرب لوروده على قيادتها اثناء الحرب.
نعود الان للمشكلة الموجودة، و هي استهداف العراق لاسرائيل ببضعة صواريخ كل يوم، قلبت ليل الدولة العبرية لنهار، و ادخلتها في الحرب قسرا. و لك ان تتخيل شعور الاسرائيليين و هم يرون جيشهم العتيد "يحتفظ بحق الرد" يوما بعد يوم. و كان الجميع يعلم، و على رأسهم الادارة الأمريكية، ان صبر الحكومة الاسرائيلية على ما يحصل محدود. فبدأ العقل الأمريكي يفكر و يخطط بحلول لمشكلة القصف العراقي الصاروخي على المستويين الاستراتيجي و التكتيكي.
على المستوى الاستراتيجي تفتقت عقلية مستشار اﻷمن القومي و قتها (ديك تشيني) عن خطة ارسال قوات لاحتلال غرب العراق، و بالتحديد القطاع بين نقطتي ال H2 و ال H3. حيث:
1- سيمنع ذلك العراقيين من تهديد اسرائيل
2- يقطع عمليات التهريب التي تسرب للعراق بعض ما يحتاجه من مواد.
3- تشكل ورقة ضعط على العراق للخروج من الكويت
لم يكن لتشيني اي خبرة عسكرية احترافية، حتى انه لم يخدم في فيتنام. لكنه كان قارئا نهما للتاريخ العسكري، و كان يسمع كل شاردة و واردة في الاجتماعات الحربية، و يحضر ضباطا كبارا ليعلموه اصول العمل العسكري و كان يملك اكبر مجموعة خرائط رأها اي عسكري في الجيش اﻷمريكي، و بالتالي جاء الاقتراح ممزوجا ببعض العلم العسكري. و لم يكن من السهل على الجيش اهمال مقترح مستشار اﻷمن القومي، و بالتالي تم دراسة الموضوع و تم ايجاد عدة عيوب في هذا الاقتراح:
1- انها لا تخدم الهدف الاساسي من الحرب "تحرير الكويت"
2- قد تعرض الحلفاء لاحراج سياسي فيما لو قال صدام: احتلال باحتلال، خذوا الغرب و لي الجنوب!
و تم افهام تشيني ان احتلال منطقة بهذه المساحة (100 * 200 كيلو متر مربع) سيتطلب فرقتين و سيكون كابوسا لوجستيا بدون مردود واضح، و قليلا قليلا اختفت الخطة عن الساحة. و لكن الرسالة وصلت لقيادة اﻷركان: حلوا هذا الموضوع بسرعة. فتم التخطيط لعملية قصف غرب العراق سيتحدث عن تبعاتها الاعلام كثيرا. غارة على نقطة ال H3 لاسكات الصواريخ الأرضية، و كان القرار ان تأتي الغارة من حاملة الطائرات سرقسطة (ساراغوسا) ليلة 17-18 يناير. ضمن اول اسبوع من الحرب.
من بين طائرات الغارة كان سرب من طائرات ال A-6 بقيادة الكابتن مينيث، صاحب ال 3500 ساعة طيران على هذا السرب، من ضمنها 1000 هبوط على حاملة الطائرات، وهو امر في غاية الصعوبة لدرجة ان الجميع يجزم ان معدل دقات قلب الطيار اثناء الهبوط الليلي على حاملة الطائرات يكون اعلى كثيرا من معدل تلك الدقات في اي معركة جوية.
كان الجو غير مشجع على الطيران فقد كان هناك اضطرابات جوية و عواصف وصلت لارتفاعات عالية في الجو. حتى ان التزود بالوقود من الجو كان اصعب من العادة.
اثناء الطيران بدأ الكابتن مينيث يتذكر تفاصيل العملية. كانت اول مفاجأة ان قائد العمليات لم يقيده بأي ارتفاع لتخطيط العملية، فقد كانت العادة ان يطلب قائد العمليات منهم ان يخططوا لقصف على ارتفاعات عالية لضمان اكبر فرصة في وجه الدفاعات الجوية. و لعدم وجود تقييد، و لضمان دقة الضرب، قرر مينيث ان يكون ارتفاع السرب بين 1 و 2 كم عن الأرض وقت القصف. و كان هناك مدرستان في خصوص القصف الجوي: مدرسة ترى ان تكون قريبا جدا من الارض و مدرسة ترى ان تكون بعيدا جدا و ان تعوض عن قلة الدقة بتكرار القصف. و كان المخطط اﻷمريكي يفضل الخيار الثاني، خصوصا بعد حرب فيتنام، حيث كانت 70% من خسائر الطيران من نيران م م ط التي لا تصيب غير الطائرات القريبة نسبيا. و كانت التعليمات بشكل عام ان تكون كل الطائرات على ارتفاع 4 كم على الاقل (باستثناء طائرات F111 و F15). و قد تدخل قائد العميات الجوية في اول يوم و طلب من قادة السرب تعديل الخطط و الالتزام بالارتفاع العالي، لكنه لم يعلق على خطط ذلك اليوم - و تبين انه انشغل عن مراجعة الخطة. و كانت فكرة مينيث ان يفاجئ العراقيين الليلة بهجوم منخفض الارتفاع و ان يتخلص من تهديد صاروخ ال SA-6 و هو اكثر ما كان يخيف الطيران اﻷمريكي من العتاد العراقي.
درس مينيث خارطة القاطع منذ شهور و حفظ تفاصيلها: قاعدة ال H3 تبعد عن الأردن حوالي 50 كم و توجد فيها ست بطاريات SA-6 (متوسط المدى) و بطاريتا رولاند (قصيرة المدى) و عدة بطاريات م م ط و بعض الطائرات المقاتلة. أما موقع ال H-2 فهو في شمال شرق هذه القاعدة و فيها 6 بطاريات رولاند و نفس كمية م م ط. و كانت حطة مينيث هي الموقع الاول و تم ترك الموقع الثاني لطائرات حاملة الطائرات كينيدي. كان سلاح الجو قد ضرب الصواريخ قبلها بيوم، و كانت مهمة طيران البحرية هي ضرب الهناجر و المستودعات اماكن التزويد و الوقود.
و صلت طائرة مينيث برفقة 3 طائرات بعد التزود بالوقود. و كانوا على ارتفاع منخفض جدا جدا. و بدأت المضادات العراقية بالعمل حتى قبل وصول الطائرات للهدف ب 25 كم! و سمع مينيث على الراديو ان طائرات الحاملة كينيدي فشلت في التزود بالوقود من الجو و عادوا ادراجهم دون قصف لكنه قرر الاستمرار في عمليته.
كما حصل في اول ليلة، كانت الدرونات تسبق سرب مينيث في محاولة لكشف الرادات العراقية للطائرات صائدة الرادارات، و انقسم السرب لقسمين كل اتجه نح القاعدة من جهة، و لكن كان موعد اﻷمريكان مع المفاجآت هذه المرة: فقد غطى العراقيون ارض القاعدة الجوية بالمشاعل التي اضاءت الطائرات المغيرة و كشفتها تماما بسبب ارتفاعها القريب! و ما نفع التشويش على الرادار اذا كان طاقم الدفاع الجوي يراك يعينه.
راوغ مينيث شلالات نيران م م ط و القى القنابل و هرب. و بعد دقيقة انتبه ان الطائرة الثانية معه اختفت، حيث تبين ان صاروخ رولاند استهدفها و انفجر قريبا منها مما اسقط الطائرة و تم اسر الطيارين. الطائرة الثالثة نجت و لكن الرابعة اصيبت و عادت بصعوبة لتهبط خلف الحدود مع السعودية.
وصلت عدة تعليمات صارمة لتذكر حول الارتفاعات المسموحة للطائرات، و لكن الحقيقة ان الموضوع كان اقرب الحظ منه للخطأ. فالطائراتان المصابتان ضربتا بصواريخ و ليس م م ط. و كان من الممكن ان تصابا على اي ارتفاع او ان تضربا من طائرات العراق لو صدف ان كانت احداها هناك. و كان الاسقاط ايضا من نصيب طائرة F-15 ذهبت لتقصف البصرة، حيث كشفت نيران مصفاة بترول ضربت قبلها بساعات الطائرات المغيرة لأطقم الدفاع الجوي، لن يعرف اﻷمريكان مصير الطيارين حتى سلم العراق جثثهم بعد وقف اطلاق النار.
كان حظ اﻷمريكان - و البريطانيين - سيئا في الطيران المنخفض، و ادى نجاح العراق في هذه المواجهات لتغيير التكتيكات بشكل صعب مهمات تتطلب دقة شديدة مثل قصف منصات الصواريخ. و جولة اخرى تحسب للعراقيين في هذا الملف (شبه اليتيم) الايجابي لهم. و سنرى في الحلقة القادمة تطور التكتيكات الامريكية لحل المشكلة.
المصدر:R. Atkinson, Crusade