التعاون العسكري الخليجي: إنجازات ملموسة أم نتائج محدودة ؟
|
|
ملخص
قد يكون أحد أسباب تراجع التعاون العسكري الخليجي في أدبيات مجلس التعاون عائدًا إلى الطبيعة المتكتمة للجهد العسكري نفسه، أو إلى ربط أمن الخليج العسكري بأكثر من نظام أمني خارجي. رغم ذلك قد نجحت دول مجلس التعاون الخليجي في تحقيق درجة عالية من التنسيق العسكري في مجالات عدة منذ العام 1981 تحت شعار إقامة بنية تنسيق دفاعية. لقد تم الاعتماد على "الاستراتيجية الدفاعية" التي تحدد السياسات والمفاهيم العامة التي تحكم وتحدد التوجهات الدفاعية، وهذا المستوى من الاستراتيجية عادة ما ترسمه الدول العظمى ذات التطلعات والأنشطة التي تتجاوز حدودها إلى مجالاتها الحيوية، كما ترسمها المنظمات الدولية والإقليمية مثل حلف الناتو لتحديد وتنسيق أنشطتها الدفاعية والتزاماتها المتفق عليها. لقد قامت اتفاقية الدفاع الخليجي المشترك، الموقَّعة في المنامة في ديسمبر/كانون الأول2000، على أكثر من كونها مجرد إضفاء طابع رسمي على التعاون العسكري الخليجي؛ حيث تم تأسيس "درع الجزيرة" قبل الاتفاقية، إلا أن الاتفاقية مهدت لظهور هياكل التعاون العسكري الكبرى كوضع الرؤية الاستراتيجية الدفاعية الموحدة، والقيادة العسكرية الخليجية الموحدة، والدرع الصاروخي الخليجي، وردم الفجوة القائمة على مستوى القدرات بإنشاء قوة مشتركة للتدخل السريع. لعل في الطموح النووي الإيراني وعدم استقرار العملية السياسية في العراق والثورة السورية المستمرة منذ قرابة الأربع سنوات وظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام وتوسع جماعة الحوثي في اليمن والاستمالة الأميركية نحو طهران، لعلَّ في ذلك ما يُشكل حافزًا على تعزيز التعاون العسكري والأمني بين دول منظومة مجلس التعاون الخليجي. وإذا كانت دول الخليج قد انتقلت مؤخرًا من مرحلة إدراك المخاطر إلى خطوات إيجاد الآليات لمواجهة تلك المخاطر والتعامل معها بمهنية عسكرية، فإن أكبر معوقات التعاون العسكري الخليجي التي لا تزال قائمةً هي صعوبة دحض اعتقاد صانع القرار الخليجي بأن أمن الخليج مصلحة دولية، ولابد من حمايته بقوة عسكرية أقوى من التجمع العسكري الخليجي الحالي. |
مقدمة
لم يأتِ النظام الأساسي لمجلس التعاون الخليجي على ذكر التعاون العسكري حين حدد أهداف المجلس لتحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين دوله، رغم حرصه على تسمية مجالات التعاون الأخرى كالاقتصادية والمالية، والتجارية والجمارك والمواصلات، وفي الشؤون التعليمية والثقافية، والاجتماعية والصحية، والإعلامية والسـياحية، والتشـريعية، والإدارية. إذًا لم يذكر التعاون العسكري رغم سير قطار التعاون الخليجي بهيئة عسكرية منذ تحركه في العام 1981، الذي تمَّ صبغه بالألوان الرملية والبنية والمبرقَّعة تمويهًا من غارات الجيران أثناء حربهم. لقد كان للحذر التاريخي دور في صيانة نظرية الأمن الخليجية؛ ففي ضباب دخان الحرب العراقية-الإيرانية 1980-1988، عُقد الاجتماع الخليجي الأمني الأول في 24 فبراير/شباط 1982؛ حيث تحددت منطلقات ومبادئ وأهداف التعاون لتوقيع اتفاقية أمنية شاملة بين الدول الأعضاء.
حينها قفز التاريخ منبهًا المجتمعين بقِدَم وحدة وترابط أمن دول مجلس التعاون، ومحذرًا بضرورة الالتزام بمبدأ الأمن الجماعي كطريق للخروج من قلق ذوبان هذه الكيانات الصغيرة في الجوار الإقليمي سيئ الطباع بالغزو العسكري أو بفرض النفوذ. ففي نصوص ذلك الاجتماع جاء ما يوحي بأن الاعتداء العسكري من الجارتين إيران والعراق متوقع. كما ذُكر أن التدخل في الشؤون الداخلية لدول الخليج وارد وإن كان مرفوضًا جماعيًّا.
وإذا تجاوزنا الحذر الذي طبع التعاون العسكري الخليجي فقد يكون سبب تراجع التعاون العسكري الخليجي في أدبيات مجلس التعاون راجعًا إلى الطبيعة المتكتمة للجهد العسكري نفسه بشكل عام، أو لربط أمن الخليج العسكري بأكثر من نظام أمني خارجي كجرعة علاج لالتهاب فراغ القوة المزمن في المفاصل الخليجية؛ مما يجبر المراقب الخليجي على سبر أغوار التعاون العسكري لتبيان الإنجازات الملموسة والنتائج المحدودة.
ردع التحديات الخارجية
تكفلت اتفاقية الدفاع الخليجي المشترك، الموقَّعة في المنامة في ديسمبر/كانون الأول 2000، بردع التحديات الخارجية عبر التحول من مرحلة التعاون العسكري لمرحلة الدفاع الخليجي المشترك؛ فاتفقت الدول الأعضاء على أن أي اعتداء على أي منها هو اعتداء عليها كلها، وأي خطر يتهدد إحداها إنما يتهددها جميعًا، ويوجب المبادرة لمساعدة المعتدى عليها باتخاذ أي إجراء ضروري بما في ذلك استخدام القوة العسكرية. كما تضمنت الاتفاقية دعوة لتحقيق الاكتفاء الذاتي وتطوير قوة درع الجزيرة وتأمين التعاون العسكري بين قواتها بإجراء التمارين المشتركة، لتوحيد الفكر العسكري ثم تعزيز التسليح عبر تطوير قاعدة الصناعة العسكرية الخليجية. وتنسيق أوجه التعاون من خلال مجلس للدفاع المشترك تحت توجيه وإشراف المجلس الأعلى لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، حيث تتبع مجلس الدفاع اللجنة العسكرية العليا التي ينسق اجتماعاتها الأمين العام المساعد للشؤون العسكرية.
بل إن بعض المحللين ذهب إلى أن بنية النظام العالمي الجديد تتضمن مجموعة من العناصر، منها الأحلاف العسكرية والاتفاقيات الأمنية مثل حلف الناتو ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا واتفاقية الدفاع الخليجي المشترك أيضًا؛ مما يجعل عسكرة مجلس التعاون من الهياكل التي ستستمر في النظام العالمي الجديد.
درع الجزيرة: قيادة مركزية بقوات لا مركزية
يعتبر إنشاء "الدرع" كما يسميه منتسبوه واسطة العقد ومحاولة مهمة في التعاون العسكري الخليجي برغم قصورها عن التمام؛ حيث تمت موافقة المجلس الأعلى في دورته الثالثة نوفمبر/تشرين الثاني 1982 على إنشاء "قوة درع الجزيرة" بحجم لواء مشاة من 5 آلاف رجل من دول مجلس التعاون الست. وبعد ما يقارب ربع القرن، وفي دورة المجلس الــ 26 في منتصف ديسمبر/كانون الأول 2005 جرى توسع في حجم القوة ونوع تسليحها فأصبحت "قوات درع الجزيرة المشتركة" فرقة مشاة آلية مكونة من المشاة والمدرعات والمدفعية وعناصر الدعم القتالي. ولم يتوقف الدرع منذ إنشائه عن تنفيذ التدريبات والتمارين المشتركة بشكل دوري مع القوات المسلحة في كل دولة من دول المجلس، وقد أقيم أول تمرين لهذه القوة على أرض دولة الإمارات العربية المتحدة عام 1983، لتتمركز منذ عام 1986 في مدينة الملك خالد العسكرية في حفر الباطن شمال شرقي السعودية.
وقد تعرضت قوات درع الجزيرة للكثير من النقد، ووُصفت بأنها قوات رمزية، ثم دخلت قوات درع الجزيرة في دوامة التردد الخليجية وتحول الرأي من النقيض إلى النقيض؛ حيث افتتح دوامة التردد أمين عام مجلس التعاون السفير عبد الله بشارة في 1984 قائلاً: إن قوة "درع الجزيرة" تشكَّلت بسبب ظروف الحرب العراقية-الإيرانية، وإنها ستنتهي بانتهاء الظروف التي أوجدتها. لكن تغير الظروف دفع قادة دول المجلس عام 2000 لزيادة قوة درع الجزيرة، إلى 22 ألف رجل. وعادوا لتأكيد هذا التوجه في مسقط في أكتوبر/تشرين الأول 2002؛ حيث تم دعم قوات الدرع في تشكيل قتالي في دولة الكويت في فبراير/شباط 2003 إبان الاستعدادات للحرب التي خاضتها الولايات المتحدة الأميركية على العراق، إلا أن يوسف بن علوي وزير الشؤون الخارجية العُماني صرَّح في نوفمبر/تشرين الثاني 2005 بأن قوة درع الجزيرة لم يعد لها حاجة بعد زوال نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين(1).
لقد أيدت الرياض بدايةً هذا الطرح، من خلال فكرة إشراف كل دولة على وحداتها المخصصة للقوات التي يمكن استدعاؤها في حال الضرورة، لكنها عادت في نوفمبر/تشرين الثاني 2006 لتقترح توسيع قدرات الدرع وإنشاء نظام مشترك للقيادة والسيطرة. وفي مايو/أيار 2008 تم الاتفاق على تمركز قوات درع الجزيرة في بلدانها الأصلية ودعمها بقوات بحرية وجوية لرفع كفاءتها، ثم تقرر تعزيزها بقوة تدخل سريع عام 2009.
إنَّ هذ الاضطراب في التعاون العسكري الخليجي خلق حيرة حيال ما يجري إن كان انفراطًا للشراكة العسكرية الخليجية أم إعادة تعريف لها. وقد أثبت "الدرع" نفسه أن الدعوات لتفكيكه فيها افتقاد للحس الاستراتيجي؛ حيث كان دخول قواته لمملكة البحرين في 14 مارس/آذار 2011 لتأمين المنشآت الاستراتيجية في البلاد ناجحًا بمقاييس عسكرية عدّة؛ فقد حقق مبادئ الحرب كقوة محترفة تميزت بوضوح الاتجاه، والتصميم، وخفة الحركة، وتحقيق الضغط المطلوب من خلال تنفيذ الحشد والمفاجأة بدقةٍ عالية، ولصد الخطر الخارجي الذي دفع القوة للدخول تنفيذًا لاتفاقية الدفاع الخليجي المشترك وتلبية لدعوة المنامة حقق "الدرع" حسن التوزيع والثبات، والأمن، حتى ليخال للمراقب أن ما جرى كان فرصة لدرع الجزيرة للتكفير عن موقفه المرتبك حين اجتاحت جحافل جيش نظام الرئيس العراقي صدام حسين دولة الكويت ف يأغسطس/آب 1990.
يتجاوز حاليًا عدد منتسبي قوات درع الجزيرة 30 ألف عسكري، ولهم أهلية لخوض حروب المعركة المشتركة، إلا أن هناك معوقات تحول دون تحقيق هذه القوة الهدف المنشود من قيامها كضعف الصلاحيات الممنوحة لدرع الجزيرة، وقد بدأ المجلس بخطوات لتلافي ذلك بوضع الاستراتيجية الدفاعية الموحدة، والقيادة المشتركة؛ مما يعني حرية العمل ضمن ضوابط هذه التنظيمات دون الحاجة لمراجعة صانع القرار السياسي في كل الأمور التكتيكية. كما أن مشروع تطوير درع الجزيرة أخذ فترة طويلة، بل إن تقلبات الرأي بين الدول الست تجعل صمود مشروع التطوير أمرًا قابلاً للتأويل.
الرؤية الاستراتيجية الدفاعية الموحدة
لا شك بأنَّ دول مجلس التعاون الخليجي قد نجحت في تحقيق درجة عالية من التنسيق العسكري في مجالات عدة منذ العام 1981 تحت شعار إقامة بنية تنسيق دفاعية. لكن تلك الهياكل العسكرية كانت تخدم شكل التعاون أكثر مما تخدم المضمون؛ فقد غابت عنها الخطط المطلوبة لتحقيق هدف التعاون نفسه على المدى البعيد بالإمكانات المتوفرة، أو ما يسمى "الاستراتيجية"؛ فأين الاستراتيجية المنشودة؟
لم يكن هذا السؤال من الأسئلة التي تُطرح من أجل جواب فوري بل من أجل القيام بمهمة؛ فلكون مجلس التعاون الخليجي مكونًا من ست دول تختلف أشكال التحديات التي تواجهها كما تختلف الأهداف الجزئية؛ لذا كان من الصعب بناء قدرات موحدة لتحقيق تلك الأهداف فتم الابتعاد عن وضع "استراتيجية للأمن القومي" أو الوطني أو الاستراتيجية العظمى، والتي تتطرق إلى كافة الجوانب السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية والثقافية وغيرها لتحقيق رؤية الدولة. كما تم تحييد "الاستراتيجية العسكرية" التي تغوص في تفاصيل عسكرية أكثر من حيث البناء والاستخدام، لتنوع السلاح والعقيدة القتالية بين دول مجلس التعاون الست.
لقد تم الاعتماد على "الاستراتيجية الدفاعية" التي تحدد السياسات والمفاهيم العامة التي تحكم وتحدد التوجهات الدفاعية، وهذا المستوى من الاستراتيجية عادة ما ترسمه الدول العظمى ذات التطلعات والأنشطة التي تتجاوز حدودها إلى مجالاتها الحيوية، كما ترسمها المنظمات الدولية والإقليمية مثل الناتو ومجلس التعاون لتحديد وتنسيق أنشطتها الدفاعية والتزاماتها المتفق عليها(2). وفي ذلك قصور من جانب صانع القرار الذي ترك قطار التعاون العسكري يتحرك لمدة ثلاثة عقود دون استراتيجية دفاعية موحدة؛ حيث لم تر النور إلا في قمة الكويت في 30 ديسمبر/كانون الأول 2009، حين أقر المجلس وضع استراتيجية دفاعية خليجية موحدة، فاتضحت الرؤية للعمل بعد أن حددت الاستراتيجية الأسس والثوابت التي تنطلق منها لبناء قدرات لردع العدوان والتعاون لمواجهة التحديات من خلال البناء الذاتي وإجراء التقييم الاستراتيجي الشامل للبيئة الأمنية الاستراتيجية، والتهديدات والتحديات والمخاطر بصفة دورية(3).
القيادة العسكرية الخليجية الموحدة
وحدة القيادة هي أول مبادئ الحرب، وقد شغل موضوع القيادة العسكرية الخليجية الموحدة حين طُرح في ختام القمة الخليجية الـ33 بالمنامة 24-25 ديسمبر/كانون الأول 2012، حيزًا كبيرًا من النقاش والتحليل، فتشكيل القيادة العسكرية الموحدة رسالة ذات أبعاد إقليمية ودولية، وهو جزء من جهد عسكري خليجي تراكمي يرتفع يومًا بعد يوم ليصل إلى الهدف العسكري الخليجي الأعلى بتحقيق الدفاع الذاتي عبر مبدأ الأمن الجماعي « Collective security»(4).
وكما هي الحال في تأخر طرح الاستراتيجية الدفاعية الموحدة، أتى تشكيل القيادة العسكرية الخليجية الموحدة بعد أن تحقق العديد من الإنجازات العسكرية وكان يجب وضعها في إطارها الصحيح بدل ما هو موجود في هيكل الأمانة العامة من لجنة للتمارين ولجنة فنية للأسلحة ومراكز القوة الجوية والتنسيق البحري ودرع الجزيرة وسواها من مكونات التعاون العسكري المتشرذمة هنا وهناك؛ فخلق قيادة مشتركة خطوة مستحقة، وعليه فمن المتوقع أن يُعيَّن مواطن سعودي لرئاسة القيادة العسكرية الخليجية الموحدة، وكما هي الحال في حلف الناتو حيث القيادة من نصيب الدولة ذات الإسهام الأكبر سيكون مقرها الرياض، كما يعيَّن فيها ضباط محترفون من أعلى المستويات على أن لا تنضم أية قوات عسكرية بصفة مستديمة إلى هذه القيادة، بل تبقى كل قوة في بلدها، وتُستدعى فقط عند تنفيذ التدريبات المشتركة أو مجابهة الأخطار، وتحدد صلاحياتها ومسؤولياتها بناءً على توجيهات قادة المجلس ووزراء دفاعهم. كما ستُمنح القيادة العسكرية الصلاحيات الحقيقية، لكي تبدي آراءها وتخطط وتتصرف في الشؤون العسكرية حسب مقتضيات الظروف سواء في أوقات السلم أو في أوقات الحرب.
ففي حالة الحرب، تكون مهمة القيادة الدائمة ممارسة القيادة العملياتية على قوات المجلس لردع أي عدوان محتمل أو دحر أي عمل عدائي. أما في حالة السلم، فتكون مهمتها تقييم الأخطار وإعداد الخطط لمواجهتها، وإعداد السيناريوهات لكل حالة، وتحقيق التنسيق بين قوات المجلس عبر تعاون رؤساء الأركان، وتقديم المشورة في شأن العقائد العسكرية، والحصول على الأسلحة والمعدات، لزيادة إمكانات القوات المختلفة على العمل العسكري المشترك، وإنشاء مركز مشترك للاتصالات والاستخبارات والعمليات العسكرية، والإشراف على تنفيذ التمارين، وتدريب وحدات القيادة المشتركة والتفتيش عليها وتقييمها، ورفع التقارير عنها، لتحقيق أعلى مستوى من الاستعداد القتالي، وتقديم المشورة في شأن تجهيز البنية الأساسية لمسرح العمليات، وتحديد الإسهام العسكري لكل دولة.
الدرع الصاروخي الخليجي
لم تستطع دول الخليج غضَّ الطرف عن خطر الترسانة الصاروخية الإيرانية، ليس لتعدد أنواعها فحسب بل لطول مدياتها ولوصول إيران لدرجة متقدمة في صناعة الصواريخ البالستية؛ مما جعل التفكير الخليجي محسومًا لصالح إقامة درع صاروخي من شبكات حماية مكونة من أنظمة صواريخ أرضية، قادرة على إسقاط أي صاروخ بالستي يستهدف المدن والقواعد العسكرية ومصافي النفط وخطوط الأنابيب بالخليج.
وحين نتحدث عن النفط ندخل في المصالح الأميركية والأوروبية بالمنطقة والتي تدفعهم لمساعدة شركائهم الخليجيين في سدِّ احتياجاتهم الدفاعية، ضد أي تهديد صاروخي يواجهونه. المنظومة الصاروخية الدفاعية الخليجية هي نتيجة سعي الطرفين لتعميق التعاون بمجال الدفاع الصاروخي، وقد سبق وأن تم طرح فكرة النظام بعد حرب تحرير الكويت عام 1990 وتم تأجيل المقترح من قبل الخليجيين، ثم عاد للواجهة في ربيع عام 2012 بعد زيادة التوتر الإيراني-الدولي حيال مشروعها النووي. من المتوقع أن يتكوّن الدرع الصاروخي الخليجي في جُلِّه من أنظمة قواذف صاروخية ورادارات ومحطات مراقبة أميركية موجود معظمها أصلاً في دول الخليج كنظام باتريوت من الجيل الجديد "باك-3" ونظام "ثاد" عالي الارتفاع. وحتى يتم الإعلان عن اكتمال عملية الربط والاحتفال بتشغيل النظام تبقى هناك محاذير يجب الإشارة إليها، أهمها:
ليست فكرة الدرع الصاروخي جديدة؛ فقد سبق أن حاولت الولايات المتحدة الأميركية تسويق فكرة الدرع على السعودية وحدها، ولم تجد حماسًا لتلك الفكرة في الرياض، فتم تعويم المشروع للأفق الخليجي الأوسع.
ما زال بعض صنَّاع القرار الخليجيين يشكُّون في جدية الادعاء الأميركي بوجود خطر صاروخي إيراني حتمي على التجمعات السكانية الخليجية بدرجة تساوي تهديد أمن الدولة الصهيونية، ودور تل أبيب وموقعها في هذا النظام الصاروخي؛ فالخطر الإيراني هو في خلاياه في بعض شوارع الخليج.
غير الإرهاق المالي، يتساءل الخليجيون عن مدى جدوى الدرع إذا ما حُلَّت أزمة النووي الإيراني وعادت المياه إلى مجاريها بين واشنطن وطهران؛ حيث سرعان ما سيتبدّد هذا الوهم الاستراتيجي المسمى المظلة الأميركية! وهل توجه الخليجيين مؤخرًا إلى روسيا والصين ضغط للحصول على الأفضل أم رسالة بأن الخليجيين أخذوا في البحث عن علاقات يمكنها تعويض الحضور الأميركي كما فعلت الرياض حين حصلت على الصواريخ الصينية "رياح الشرق" في الثمانينات كردة فعل على التعنت الأميركي.
لقد اتسم النصف الثاني من القرن الماضي بالمشاريع الصاروخية الأميركية الصاخبة، فمن أزمة الصواريخ الكوبية إلى أزمة الصواريخ الكورية إلى أزمة إزالة الصواريخ السوفيتية والأميركية متوسطة المدى، إلى أزمة الدرع الصاروخي في بولندا والتشيك، ثم أزمة الدرع الصاروخي في تركيا. فهل يخلق الدرع والانعكاسات المترتبة عليه مناخًا شبيهًا بأجواء الحرب الباردة، ليكون الخليج مسرح السجال الغرائزي الجديد بين إيران وتكتل روسيا والصين في مواجهة أميركا؟
فروسيا ترى الدرع امتدادًا للدرع الصاروخي الموجه ضدها وليس موجهًا ضد إيران فحسب والتي كانت ردة فعل وزير الدفاع الإيراني أحمد وحيدي من أن الدرع مشروع صهيوأميركي وكل من يشارك فيه يلعب لعبتهم، ناصحًا الخليجيين بعدم الدخول في اللعبة. وهي نفس ردة الفعل الإيرانية ضد كل المشاريع الأمنية الخليجية منذ قيام مجلس التعاون حتى الدعوة للوحدة الخليجية مؤخرًا؛ ما ينبئ بجولة مماحكات سياسية جديدة مع طهران(5).
لقد روجت أجهزة إعلامية موالية لإيران إلى وجود خلافات خليجية حول موقع القيادة المركزية للمنظومة لتتيح عملية أخذ القرار بدرجة أسرع، متناسيةً أنه بالإمكان إقامتها منفردة، ودمجها معًا في حالة الطوارئ خلال دقائق. كما ذهب محللون إيرانيون(6) إلى أن دول الخليج ليست متوجسة فحسب من تقاسم المعلومات فيما بينها بل أيضًا مع الولايات المتحدة الأميركية لأن هذه الدول تخشى من أن المشاركة الأميركية المباشرة في الدرع قد تعني أن تربط أميركا أنظمتها بأنظمة الرادار في الدول الخليجية دون أن تقدم بالمثل المعلومات التي تحصل عليها أجهزتها.
ردم الفجوة القائمة على مستوى القدرات
كان صدى القنابل التي تدك مغارات الحوثيين في جنوب شبه الجزيرة العربية لا يزال يُسمع، يرافقه تنامي المخاوف الخليجية من انسحاب استراتيجي أميركي من المنطقة. ورغم ذلك كان الإعلان عن إنشاء "قوة مشتركة للتدخل السريع" في القمة الـ 30 للمجلس في منتصف ديسمبر/كانون الأول 2009 خارج بورصة القرارات المتوقعة في قمة الكويت؛ فإنشاء قوات التدخل السريع للتعامل مع الأزمات الطارئة، التي يصعب التفاعل معها وفق الوقت الاعتيادي، الذي يستغرقه تحرك الجيوش من ثكناتها، باتجاه مسرح العمليات.
ولم يكن ضمن طموح دول المجلس في ذلك الوقت الدخول في عمليات عسكرية خارج الإقليم بحيث تتطلب فتح قواتها على مسافات بعيدة. لكن النظرة الاستراتيجية لصاحب قرار إنشائها أصابت هذه المرة بدرجة كبيرة مقارنة بمشاريع وحدوية عديدة لم توفق، ويكفي أن نرى ما سبَّبه تنظيم داعش من إرباك مشين للقوات النظامية في عدد من الدول لا سيما في العراق وسوريا، بل وحتى لقوات بعض فصائل المعارضة لنعرف ضرورة وجود قوات تدخل سريع جيدة التدريب.
ولأن الحرب الحديثة أصبحت حرب أسلحة مشتركة؛ فقد أصبح من العسير على دولة واحدة من دول مجلس التعاون أن تملك وحدات متمكنة لكافة أشكال المعارك، وهنا يأتي دور قوة خليجية مشتركة للتدخل السريع لردم الفجوة القائمة على مستوى القدرات العسكرية بين دول المجلس. كما أن قوة التدخل السريع هي حل لردم الفجوة في اختلال توزيع القوى البشرية، كما تترجم هذه القوات صورة الدفاع المشترك في حال تشكَّلت من قبل عدد من دول المجلس. وحتى الآن لم يرشح شيء عن تفاصيل هذه القوة لكنها لن تقلَّ في البداية عن حجم لواء قوات خاصة مدعوم بحريًّا وجويًّا على أن يتم التوسع في إنشاء أكثر من قوة تدخل سريع من مبدأ إمكانية خوض معركتين في آن واحد للدفاع عن حقول النفط والمنشآت الحيوية في ظروف طبيعية قاسية وباستعداد يكافئ قوة عدو من دول الجوار. ورغم أنه من المبكر استقراء أبعاد ودلالات قيام هذه القوة إلا أن من الممكن القول بأنها خطوة في إطار التعاون العسكري الخليجي.
توحيد للهياكل العسكرية بلا حدود
لقد قامت اتفاقية الدفاع الخليجي المشترك، الموقَّعة في المنامة في ديسمبر/كانون الأول2000، على أكثر بكثير من كونها مجرد إضفاء طابع رسمي على التعاون العسكري الخليجي؛ فقد قام "درع الجزيرة" قبل الاتفاقية، إلا أن الاتفاقية مهدت لظهور هياكل التعاون العسكري الكبرى كوضع الرؤية الاستراتيجية الدفاعية الموحدة، والقيادة العسكرية الخليجية الموحدة، والدرع الصاروخي الخليجي، وردم الفجوة القائمة على مستوى القدرات بإنشاء قوة مشتركة للتدخل السريع، بالإضافة إلى "حزام التعاون" للإنذار المبكر بحزام الألياف البصرية بين القوات كافة ومراكز العمليات.
كما غيّرت الاتفاقية من طبيعة العلاقة الخليجية-الخليجية بشكل جذري، بتعزيزها الأمن والاستقرار عبر تعاون عسكري آخر في مجالات عدة؛ فالتمارين والمناورات المشتركة البرية والبحرية والجوية والاتصالات والدفاع ضد الأسلحة الكيميائية والبيولوجية والنووية والمشعة والحرب الإلكترونية والخدمات الطبية، والاستخبارات والأمن العسكري والمساحة العسكرية وقوات درع الجزيرة المشتركة لم تتوقف منذ أن جرت أول مناورة مُشتركة بين دول الخليج في 4 يوليو/تموز 1975 وكانت بين قوات سعودية وبحرينية. ولتحقيق التوافق والتنسيق وتوحيد الأسس والمفاهيم بين القوات المسلحة بدول المجلس قفز التعاون في مجال التعليم العسكري قفزات واسعة شملت تبادل العسكريين كطلبة وكمعلمين، وإنشاء أكاديمية خليجية للدراسات الاستراتيجية والأمنية، كما وحَّدت دول الخليج أكثر من 100 كراسة عسكرية، وجرى توحيد أكثر من 100 منهج من مناهج الدورات العسكرية المختلفة لمدارس التدريب العسكري ومراكزه. بل تم انشاء النظام الموحد لمد الحماية التأمينية للعسكريين الخليجيين، والاستفادة من ذوي الخبرات والكفاءات من العسكريين والمدنيين المتقاعدين من مواطني دول المجلس للعمل في المؤسسات والجهات الحكومية وشبه الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص بدول المجلس الأخرى.
شرف الغاية ووضوح الرؤية
إن شرف الغاية يحتاج إلى وضوح الرؤية لدى رجال يملكون إدراكًا جادًّا لمحيطهم بما يحويه من آفاق تعاون رحبة وعقبات يجب تجاوزها؛ فقد تطور التعاون العسكري بين دول المجلس بشكل نوعي وكمّي جرَّاء العمل الجاد، منذ بدء تشكيل المجلس وحتى اليوم. فهناك تعاون فعّال في الهياكل العسكرية لوحدات المناورة كما في مجال الإسناد والتعليم العسكري وحتى مجال توحيد الفكر العسكري.
ولا يُفتح باب الحديث عن العسكرية الخليجية إلا وتحدث منتقدوها بمثالب مرتبة في أرفف من المغالطات؛ فقلة القوى البشرية الخليجية -في نظرهم- قد أصابت هذا التجمع العسكري في مقتل وجعلته رمزيًّا وفي أقل الأحوال مشلولاً غير قادر على حماية دول الخليج، دون وعي بأن دول الخليج قد تجاوزت هذا القصور بالاعتماد على وسائل التقنية الحديثة لتعويض النقص بأسلحة ذات قوة نارية كثيفة تدار من قبل قلة من العسكريين. فدول الخليج تمتلك من العدة والعتاد حاليًا ما لا تمتلكه دولة أخرى في العالم من حيث النوعية، كما تأتي دول الخليج في المرتبة الثانية في العالم بعد حلف الناتو من حيث التسليح.
وإن كانت دول الخليج ما زالت في حاجة إلى قرارات ثورية أخرى لتلافي تحديات نقص العسكريين بفتح الباب لسد النقص في القوى البشرية لأصحاب الخبرات والكفاءات العسكرية من المتقاعدين الخليجيين؛ لأن الخبرات لا تتقاعد. أو بالعمل الجاد ببرامج التجنيد الالزامي للشباب من الفتيان والفتيات، أو بفتح أبواب التطوع المباشر للشباب الخليجي للانضمام لقوات "درع الجزيرة" التي تعبِّر بالأساس عن رؤية شاملة لمفهوم الأمن الجماعي.
كما يعوق التعاونَ العسكري الخليجي عدمُ تحديد مصدر التهديد بدرجة مربكة، بل إن بعض دول المجلس ترى الخطر في الخلافات الحدودية البينية، وما زالت تكرره بين فينة وأخرى، لكنها لم تدمن هذا الطرح إدمانًا لا شفاءَ منه؛ حيث إن بناء شعور خليجي موحد بالخطر هو الحل، وقد يعجِّل بخلقه مؤثر خارجي كما فعلت الحرب العراقية-الإيرانية واحتلال الكويت.
ولعل في الطموح النووي الإيراني وعدم استقرار العملية السياسية في العراق والثورة السورية المستمرة منذ قرابة الأربع سنوات وتنظيم داعش والاستدارة الأميركية نحو طهران خير حافز. كما أن من المعوقات التمسك بمبدأ السيادة بدرجة مفرطة حتى أصبح تحقيق بعض متطلبات التعاون العسكري يعني إهدار السيادة لدول لديها إحساس بعدم الثقة بالأخوة الخليجية، ولعل في تبعات الربيع العربي ما غيَّر بعضًا من ذلك الإحساس الذي يعوق التعاون العسكري الخليجي.
تعاني دول مجلس التعاون من غياب سياسة تسلح موحدة، وهي معضلة على مستوى صنَّاع العقيدة القتالية إلا أنه بالإمكان جعلها ميزة باعتبار أن تنوع مصادر التسلح يلغي الارتهان لمصدر واحد(7). كما يعاني التعاون العسكري الخليجي في البعد اللوجستي وأبسطه توحيد أعيرة ذخيرة الأسلحة الصغيرة، فتسلح دول المجلس بذخائر من عيارات متماثلة يفسح المجال لطلبات شرائية أكبر حجمًا وأقل كلفة، بالإضافة إلى ضرورة توحيد نظم تخزين الأسلحة والذخائر باعتماد العلامات وأوصاف البيانات لكي لا نهدر فرصة تزود قوات خليجية بما تحتاجه من معدات مماثلة من النظام اللوجستي لدولة خليجية أخرى.
خاتمة
لقد أتت الاستراتيجية الخليجية الموحدة كقفزة في مجال توحيد الفكر العسكري الخليجي؛ ولأن في معسكرات دول مجلس التعاون ما يزيد على 20 نوعًا من ناقلات الجند و10 أنواع من الدبابات و25 نوعًا من الطائرات، مشكِّلة جحيمًا لرجل العمليات وكابوسًا لرجل الإمداد والتموين لذا يجب إنجاز قفزة مماثلة في مجال العمل على الأرض عبر وضع "العقيدة العسكرية الخليجية الموحدة"؛ حيث إن كل جهد تعبوي يتطلب وجود عقيدة قتالية تُعني بكيفية قتال هذه الأسلحة مع بعضها البعض وأولوية ودور كل سلاح في معركة الأسلحة المشتركة. فبدون العقيدة القتالية يبدو الجهد العسكري كخبط عشواء يصيب مرة ويخطئ أكثر من مرة.
وإذا كانت دول الخليج قد انتقلت مؤخرًا من مرحلة إدراك المخاطر إلى خطوات إيجاد الآليات لمواجهة تلك المخاطر والتعامل معها بمهنية عسكرية راقية، فإن أكبر معوقات التعاون العسكري الخليجي بحق لا يزال قائمًا وهو صعوبة دحض مقولات محددة كادت تتحول إلى ثوابت في ذهن صانع القرار الخليجي وتتمثل في اعتقاده أن أمن الخليج مصلحة دولية أيضًا، ولابد من حمايته بقوة عسكرية أقوى من التجمع العسكري الخليجي الحالي؛ مما يصيب نظام الأمن الجماعي الخليجي في العمق.
http://studies.aljazeera.net/reports/2014/11/2014112510224430877.htm