في نهاية عام 1969 … وفي ذروة الصراع العربي الإسرائيلي وبعد عامين من نكسة 1967، أعلنت إسرائيل عن عزمها علي التنقيب عن البترول في سيناء، وقامت بالفعل باستئجار حفار أمريكي ليقوم بالتنقيب عن البترول في خليج السويس تحت سمع وأبصار المصريين وبدا واضحاً للجميع أن الغرض من شراء هذا الحفار اقتصاديا وسياسياً في ذات الوقت،، فإسرائيل كانت في حاجة بالفعل إلي البترول في تلك الأيام، بالإضافة لذلك فهذا الحفار سيدعم خططها في محاولات إذلال مصر وإظهارها أما العالم بمظهر العاجز عن حماية أرضه وموارده الطبيعية، والضغط علي مصر من ناحية أخري للتخلي عن دورها الريادي في مناصرة القضية الفلسطينية ووصلت المعلومات إلي المخابرات الحربية بوجود حفار بالفعل واسمه كينتنج 1 وأنه يعبر المحيط الأطلنطي في طريقه للساحل الغربي لأفريقيا ليتوقف في أحد موانيها للتزود بالوقود ثم اتخاذ طريقه إلي الجنوب ليدور حول القارة الأفريقية ويتجه إلي البحر الأحمر ثم إلي خليج السويس.
وكان القرار من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بتدمير الحفار قبل وصوله إلي خليج السويس أيا كان الثمن وبأية وسيلة. وكان لابد من التحرك الفوري لمعرفة الميناء الذي سيتجه إليها الحفار للعثور عليه وتدميره. وكانت المشكلة أن تدمير الحفار سيثير أزمات سياسية مع أكثر من دولة فالحفار قامت ببناؤه شركة إنجليزية، وتملكه شركة أمريكية، ومؤجر لإسرائيل، وتقوم بسحبه في مياه المحيط قاطرة هولندية والمفروض أن يتم تدميره في ميناء أفريقي !! أي أن إسرائيل خططت لكي يكون الحفار إنجليزي أمريكي هولندي إسرائيلي !! ولكن كان القرار قد اتخذ بالفعل وكان لابد من تدمير الحفار أياً كان الثمن.
عملية تدمير الحفار كانت من أروع وأعظم العمليات التي تمت من خلال سيمفونية رائعة الجمال تم عزفها بتناغم وانسجام جميل بين كل من المخابرات العامة والمخابرات الحربية والقوات البحرية ووزارة الخارجية، عملية متكاملة أدي فيها كل شخص دوره علي أكمل وأجمل ما يكون.
وبعد 28 عاماً كاملة نفتح ملفات عملية الحفار وقد يكون الاستماع إلي الأحداث أو قراءتها في كتبا أو مشاهدتها في فيلم شئ، ومعرفة البطل الحقيقي والاستماع منه إلي قصة بطولته وجهاً لوجه شئ آخر.
ومع البطل الحقيقي .. قائد عملية الحفار كان هذا اللقاء ليتحدث البطل لأول مرة بعد 28 عاماً. وكانت البداية حينما عاد العقيد متقاعد أنور عطية قائد عملية تدمير الحفار الإسرائيلي كينتنج 1 بذاكرته 29 عاماً إلي الوراء وبالتحديد لنهاية عام 1969 وبدأ يحكي
في البداية كيف تم اختيارك للقيام بالمهمة ؟؟
في نهاية عام 1969 كنت رائداً بالمخابرات الحربية ومسئولاً عن البحرية الإسرائيلية في فرع المعلومات في المخابرات الحربية، ووصلت لي معلومة أن إسرائيل قامت باستئجار حفار بترول من شركة أمريكية ليقوم بالتنقيب عن البترول المصري في خليج السويس وأن هذا الحفار يعبر المحيط الأطلنطي في طريقه إلي الساحل الغربي لأفريقيا وبدأت أتتبع أخبار هذا الحفار حتي علمت أنه قد رسا بميناء "دكار" بالسنغال وأن هذا الحفار تقوم بسحبه قاطرة هولندية، وعلي الفور أبلغت اللواء محرز .. مدير المخبرات الحربية وقتها والذي ابلغني بأن أذهب لإلقاء محاضرة عن الحفارات البحرية في هيئة الخدمة السرية بالمخابرات العامة وحينما ذهبت اكتشفت أنها لم تكن محاضرة ولكنه كان اجتماعاً علي أعلي درجة من السرية وكان يضم رئيس هيئة الخدمة السرية في المخابرات العامة ورئيس هيئة المعلومات والتقديرات وأحد ضباط المخابرات الحربية وكان متخصصاً في أعمال النسف والتدمير وبعد التعارف بدأ رئيس هيئة المعلومات والتقديرات في افتتاح الاجتماع وقال تقرر التعامل مع الحفار كينتنج 1 الموجود في دكار وسألني رئيس هيئة الخدمة السرية ما هي خطة المخابرات الحربية فقلت له إني غير جاهز بالخطة الآن وأن لي تحفظاً علي تدمير الحفار في هذا لوقت وهذا المكان (وكنا وقتها في شهر يناير 1970) وشرحت له وجهة نظري وهي أننا سنستكمل دفاعنا الجوي في شهر مارس عام 1970 وأننا حالياً غير قادرين علي استيعاب رد فعل إسرائيل للتصعيد البترولي كما أننا في غني عن استعداء دول أخري مثال السنغال وهولندا مالكة القاطرة. فقال لي رئيس هيئة المعلومات أن تدمير الحفار قد تقرر علي المستوي الأعلي ومطلوب خطة المخابرات الحربية لتدميره فرجعت لإدارتي وقابلت مدير المخابرات الحربية ورويت له ما حدث ووافقني علي ما قلته وبدأت بعدها في التخطيط لعملية التدمير.
خمس خطط لتدمير الحفار :
ويستطر العقيد أنور عطية قائلاً : كان لابد من وضع عدد من الخطط لتدمير الحفار لكي نضمن نجاح العملية فإذا فشلت خطة انتقلنا للخطة التالية، وعند وضع الخطط كان الله معي في كل خطوة والخطط كانت تعتمد علي التعاون والتنسيق الكامل بين المخابرات الحربية والمخابرات العامة والضفادع البشرية ووزارة الخارجية.
وكانت الخطة الأولي هي أن يتم اختيار مجموعة من الضفادع البشرية ونستعين بألغام قامت بتطويرها القوات البحرية المصرية بإضافة ساعة توقيت لها علي أن تسافر مجموعة التنفيذ تحت سواتر مختلفة وكل فرد فيها يسافر بصفة تختلف عن الآخر ونتسلل إلي الميناء الموجود به الحفار ونضع الألغام تحت جسم الحفار لتفجيره والخطة كانت تعتبر بدائية حداً وساذجة ولكنها هي التي نفذت.
وقمت بوضع ثلاث خطط أخري بديلة للخطة الأولي في حالة فشلها. وكانت الخطة الثانية هي القيام باستدعاء أحد سفن الصيد المصرية من أعالي البحار وتضع عليها طاقم الضفادع البشرية والألغام ونتتبع الحفار لاسلكياً في المحيط وحينما ندخل أي ميناء ندخل ورائه ونلغمه وندمره.
حفلة ماجنة في المحيط
وكانت الخطة الثالثة هي أن نستأجر يخت في الميناء الموجود بها الحفار ونقيم حفلة ماجنة فوق اليخت وأثناء الحفلة ينزل أفراد الضفادع لتلغيم الحفار ثم نرحل باليخت. أما الخطة الرابعة فتقرر تنفيذها في حالة هروب الحفار منا وهي أن يتم ضرب الحفار بالمدافع في الآر - بي - جي عند دخوله البحر الأحمر وكان لدينا في الصاعقة البحرية والضفادع البشرية أفراد مدربين علي هذه المدافع تدريب عالي جداً وكان المقرر أن تُحمل المدافع علي قوارب الزود ياك.
وأضاف رئيس هيئة المعلومات والتقديرات خطة خامسة وهي أن تخرج طائرة مصرية تتمركز في ميناء عدن ويتم ضرب الحفار بالطيران في حالة هروبه من كل المراحل السابقة.
والمخابرات العامة المصرية في هذه العملية لعبت دوراً عظيماً لا يستطيع أي شخص أن ينكره، وفي كل مراحل العملية كان هذا الدور بارزا ولكني لم أكن أعلم بالطبع عن الخطوات التي قاموا بها إلا علي قدر حاجتي من المعرفة.
وواجهتني في البداية مشكلة أني لم يكن لدي أي معلومة عن الحفارات البحرية ولم يكن لدنيا معلومات متوفرة عن هذه الحفارات وهيكلها وبناؤها فخطرت لي فكرة وقمت بتنفيذها علي الفور فارتديت الزي العسكري وذهبت إلي المهندس علي والي رئيس هيئة البترول في ذلك الوقت وقلت له إني مهندس بحري وأعد رسالة ماجستير عن بناء السفن وينقصني جزء خاص بالحفارات البحرية وليس لدي أي فكرة عنها.
- سبحان الله
كانت هذه هي الكلمة التي رددتها حينما حصلت علي كل المعلومات التي أريدها ليس عن الحفارات البحرية قط بل عن الحفار كينتنج 1 الذي ابحث عنه، والعجيب أن من أمدني بتلك المعلومات هو شخص "أمريكي الجنسية" !! فقد اتصل المهندس علي والي وأنا أجلس معه بمديري شركة "إسو" للبترول بالقاهرة وكان أمريكي الجنسية وطلبت منه أن يساعدني فيما أطلبه وذهبت له بالفعل وأدخلني إلي مكتبته فوجدت كتاباً عن كل الحفارات الموجودة بجميع أنحاء العالم ومنها الحفار (كنيتنج 1) بمواصفاته ومقاساته وصورة وبالطبع مل يكن ذلك إلا توفيق من الله.
وبدأت بعد ذلك في جمع المعلومات عن المناطق التي يتوقع أن يتواجد فيها الحفار، فتوجهت إلي مكتبة القوات البحرية بالإسكندرية وجمعت معلومات عن منطقة الساحل الأفريقي الغربي بأكمله بكل موانيه وجغرافيتها والتيارات البحرية فيها والأعماق وكل شئ حتي العملة السائدة واقتصادها. وبدأت في حساب الوقت الذي يمكن أن تستغرقه القاطرة والحفار حتي تصل لأقرب ميناء وقدرت أن القاطرة لن تسير بسرة أكثر من 1.8 كم في الساعة لأنها تسحب وراءها حفاراً ضخماً وكان هذا هو توقعي وتقديري.