الزعامة ليست تصريحات عنترية أو عبارات إنشائية ولن تختصر في خطب حماسية
أو حناجر أمام الميكروفونات والعدسات.. الزعامة تتجلي في أوضح صورها في فن
إدارة الأزمات وتوقيت التدخل والتحرك لاحتوائها بالمنطق والاقناع.. أهم
مافي إدارة الأزمة هو بناء جسر تفاهم سريع بين طرفيها وتقوية هذا التفاهم
بما يكفل إنهاء الأزمة بسرعة.
الرئيس مبارك استاذ إدارة الأزمات الأول وهو السياسي العربي الوحيد الذي
نجح في وساطته بين المغرب والجزائر وكان وقتها نائباً لرئيس الجمهورية
وتمكن من خلال مفاوضات مقنعة مع الملك الحسن الثاني والرئيس بومدين من فك
اشتباك القوات.. ونجح في مصالحة السعودية وقطر بعد أن كانت الأمور بينهما
قد بدأت تأخذ منحي الاستعداد للحرب.. وأقنع مبارك الملك فهد رحمه الله
والشيخ خليفة حاكم قطر السابق بالالتقاء في منتصف الطريق.. الرئيس مبارك
وليس غيره هو الذي وقف مع ليبيا أثناء الحصار الاقتصادي لها بعد أزمة
لوكيربي وكان لجهوده أثر كبير في تخفيف الضغط علي ليبيا ونذكر رحلاته
الشاقة بالسيارة الي ليبيا أثناء الحظر الجوي عليها..
أما سوريا فقد أنقذها الرئيس مبارك من الاجتياح التركي عام 1998 وكانت
مفاوضاته مع الرئيس ديمريل صعبة جداً وتتم في مطار أنقرة في جو شتوي قارس
البرودة.. وانتهت الأزمة باقناع سوريا برفع دعمها عن حزب العمال
الكردستاني وزعيمه عبد الله أوجلان الذي كاد يتسبب في ضياع بلد عربي.
وتأملوا معي توقيت زيارة الرئيس مبارك يوم الاثنين الماضي للخرطوم وجوبا
التي أسفرت عن أهم نتيجة لإنهاء صراع الشمال والجنوب في السودان.. أمس
أعلن الرئيس السوداني عمر البشير وقفاً فورياً وغير مشروط لاطلاق النار في
دارفور كما أعلن وقف الحملات الإعلامية وتعويض المتضررين ونزع أسلحة
الميليشيات وتقييد استخدام السلاح من جانب القوات الحكومية.
كل مطالب الجنوب التي كان البشير يرفضها. استجاب لها بعد 48 ساعة فقط من زيارة الرئيس مبارك للسودان.
الرئيس مبارك اختار توقيت الزيارة لتجئ قبل أن يتسلم البشير التقرير
القومي لأهل السودان والذي تسلمه أمس.. مبارك ببعد نظره أراد تسوية الأزمة
بين الشمال والجنوب قبل أن يتسلم البشير تقرير حل مشكلة دارفور ولتتاح
للرئيس السوداني الفرصة لإعلان التسوية.
التحرك الذكي للرئيس مبارك قطع الطريق أمام الضغوط الدولية التي كانت
ستمارس ضد السودان في محاولة لتركيعه وجر رئيسه لمحكمة دولية - حتي إذا لم
تتم - فإنها ترفع سيف حقوق الإنسان بالباطل ضد العرب.
الرئيس مبارك أراد أن يفهم العالم أن السودان علي قلب رجل واحد وأن اللعب علي فصل الجنوب عن الشمال لن يؤدي لشيء.
كانت نصيحة مبارك للبشير الاستجابة لمبادرة ملتقي أهل السودان من تعويضات
ووقف إطلاق نار وإنشاء قري نموذجية فيها الخدمات الأساسية. ليتأكد العالم
أنه لا خلاف بين السودانيين في الشمال والجنوب.. وبالتالي فإن المدعي
العام للمحكمة الجنائية الدولية لن يجد أدلة يستند إليها.. الأهم أن مبارك
شخص الأزمة جيداً وقال إنها أزمة ثقة بين الطرفين.. فإذا أبدي الطرفان حسن
نوايا متبادلا ستوافق الحكومة السودانية علي كل طلبات الجنوب.. ولاشك أن
وجود مبارك في جوبا كان له وقع السحر علي الإسراع بحل الأزمة وبعث الثقة
لدي أهل دارفور والجنوب بأن مصر ستمدهم بكل الخدمات التي يحتاجونها في زمن
قياسي.
أما زملاؤنا الذين يبحثون عن الدور المصري فلا يجدونه كما يقولون. فعليهم تغيير عدسات نظاراتهم فوراً.