حملت الأشهر القليلة الماضية تقلبات استراتيجية لآسيا. حيث سددت الصين مبكرا من هذا العامضربة قوية للريادة الأمريكية في المنطقة عندما نجحت في إدراج الاقتصادات الأوروبية الرائدة، وكذلك الحلفاء الأمريكيين في آسيا، ضمن الأعضاء المؤسسين للبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، الذي سيكون مقره الرئيسي ببكين. ذهب وزير الخزانة الأمريكي السابق لاري سامرز إلى زعم أن ما حدث بصدد البنك ربما سجل "اللحظة التي فقدت فيها الولايات المتحدة دورها كضامن للنظام الاقتصادي العالمي".
وجدت إدارة أوباما، التي ضغطت بقوة ضد البنك، نفسها معزولة ومهزومة. إلا أنه لم يمر الكثير من الوقت قبل أن تجد الصين نفسها معزولة ومهزومة على نحو مشابه، عندما انتقد الكثيرون بالمنطقة، ومنهم دول محايدة بشكل دائم في المنطقة مثل سنغافورة - بشكل مباشر أو غير مباشر – نشاطات البناء الموسعة الخاصة ببكين في بحر الجنوب الصيني خلال حوار "شانجري لا". وأعلنت الصين مؤخرا أنها في المراحل الأخيرة من مشروعها واسع النطاق لاستصلاح الأراضي في سلسلة جزر سبراتلي.
إلا أنه في الآونة الأخيرة، تعرضت الولايات المتحدة لانتقادات متزايدة بصدد صراعها من أجل صياغة استراتيجية شاملة بشأن اتفاق التجارة الحرة الخاص بالشراكة عبر المحيط الهادي، بينما سارعت إدارة أوباما للحصول على الدعم التشريعي لتسريع المفاوضات التجارية الجارية بمشاركة شركاء آسياويين رئيسيين مثل اليابان، فيتنام، ماليزيا، سنغافورة. أما الآن فقد حذر وزير الخارجية السنغافوري كى شانموجام قائلا: "ستتأثر المصداقية الأمريكية بشدة إن لم تنجح تلك الشراكة"، مشيرا إلى تداعيات الخلافات السياسية المستمرة بشأن الشراكة في واشنطن.
حتى يوضح فكرته، شدد وزير خارجية سنغافورة على أهمية التجارة بالنسبة للريادة الإقليمية في آسيا، حيث قال: "يعاد كتابة تاريخ شرق آسيا ومنطقة آسيا والمحيط الهادي من خلال الصفقات التجارية...هل يمكنك كقوة في منطقة المحيط الهادي، وكقوة عالمية، تحمل نتائج ألا تشارك بشكل كامل في المنطقة؟" يبدو الدرس الاستراتيجي المستخلص من تقلبات صراعات الهيمنة بين الولايات المتحدة والصين واضحا: فالقيادة في الصين متعلقة بالعمل كمحور للاستقرار – وهو ما سعت واشنطن لتحقيقه خلال العقود السبع الماضية – كما أنها متعلقة بتأمين النظام الاقتصادي الاقليمي عبر تقديم حوافز استثمارية وتجارية، مثلما فعلت الصين بشكل كفؤ خلال العقد الماضي أو حول ذلك.
إن كانت الولايات المتحدة تريد أن تبقي على الريادة الإقليمية دون منازع، وهو الهدف الأساسي وراء سياسة التمحور حول آسيا، لن يكون عليها فقط أن تردع بشكل أكبر الاستفزازات الصينية في المياه المتاخمة، وتحديدا في بحر الجنوب الصيني، بل عليها أيضا تحسين بصمتها الاقتصادية في آسيا عبر وسائل متلائمة مع الضرورات التنموية في الدول الإقليمية.
القوة الصينية الماحقة
يجري تقليد عريق – خصوصا وسط علماء الصينيات – ينطوي على مناقشة المكر والحنكة الاستراتيجية الصينية بالمقارنة بالسذاجة والخمول (المفترض) لدى أمريكا\الغرب. بعدة طرق، يمثل كتاب "ماراثون المائة عام" للكاتب بيلسبيري أحدث تطور لمدرسة فكرية عريقة، والذي يصف الصين بأنها قوة ماكرة للغاية مباركة بالحكمة القديمة والتخطيط الاستراتيجي المتقدم بعيد المدى، الذي يهدف إلى إعادة تأسيس المملكة الوسطى على حساب الغرب المتراجع.
إلا أن نظرة عن كثب على ما تجريه الصين في المياة المتاخمة لها، خصوصا في بحر الجنوب الصيني، تثبت أن إجراء الصين متهور على نحو متزايد ويؤدي إلى هزيمة ذاتية في منطقتها المباشرة. تمثل "الدبلوماسية الطرفية" الخاصة بالرئيس الصيني، شي جين بينج، استجابة دقيقة للاعتراف المتزايد بأن بكين قد أساءت للغاية التعامل مع علاقاتها بدول جوارها، لتلهم بالتدريج إنشاء تحالف مضاد تقوده الولايات المتحدة ظاهريا ويحركه إعادة صعود اليابان. خلال العام الماضي، بعد توقف دام حوالي عقد، جمع شي المجموعة القيادية للشؤون الخارجية بالحزب الشيوعي الصيني لمناقشة الإجراءات المحتملة لتجنب الانفصال الكامل عن الجيران البحريين.
في كتاب "صعود الصين أمام منطق الاستراتيجية"، يذهب الكاتب الاستراتيجي إدوارد لوتواك نحو وصف التضرر الصيني بسبب الأرصفة البحرية والجزر المتنازع عليها في غرب المحيط الهادي بأنه مظاهر لـ"توحد الدولة الكبرى" و"متلازمة النقص الاستراتيجي المكتسب". بصفته مراقب شديد التبصر، يشير لوتواك على نحو صحيح إلى أن الصين لا يمكنها ببساطة الجمع بين كل شيء: إن كانت ترغب في ترجمة قوتها الاقتصادية حديثة التأسيس بفجاجة إلى توسع إقليمي قسري، فستدفع جيرانها ببساطة نحو أحضان أمريكا.
في منتصف الألفينات، أكد جوشوا كورلانتزيك على النجاح الهائل لأسلوب الهجوم الساحر في أنحاء آسيا وما يجاوزها، لدرجة أن الاستراليون كانوا أكثر من سعداء بترحيبهم بهو جين تاو، الزعيم الصيني السابق، مع استيائهم العميق من أي زيارة للرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش، الرئيس الأمريكي في ذلك الحين، فقد كان ينظر إلى الصين كقوة عظمى صاعدة بشكل سلمي، بينما اعتبرت الولايات المتحدة امبراطورية متغطرسة متراجعة. واليوم، تعتبر الصين بشكل أكبر تهديدا للأمن القومي في دول مثل اليابان، وفيتنام، والفلبين، بينما في دول أخرى مثل ماليزيا، وسنغافورة، وإندونيسيا، حيث تتوافر تصورات شعبية أكثر إيجابية تجاه الصين، كانت الأنظمة الحاكمة تحمي رهاناتها عبر تعزيز علاقاتها الاستراتيجية مع واشنطن.
إلا أنه هناك سبب لنجاح الصين في تحقيق أهدافها العملياتية في المياة المتاخمة – وتحديدا، انتصارها في الاندفاع نحو الجزيرة وبناء هيكل لمنطقة تمييز للدفاع الجوي، مع كشفها قسرا عن الطبيعة المتنازع عليها لجزر سيناكاكو/دياويو في بحر الصين الشرقي (تنكر اليابان أنها متنازع عليها من الأساس) – دون إبعاد نفسها بشكل كامل عن جيرانها. يتعلق ذلك بالنشر الصيني الممنهج والطموح لمواردها المالية الواسعة، والتي تستخدمها كخناقة خفية للاقتصادات المستقلة في جوارها على نحو متزايد.
المحللون الاقتصاديون مثل جوشوا كوبر رامو، الذين صاغوا مصطلح "توافق بكين"، اعتبروا البصمة الاقتصادية الصينية المتوسعة عالميا كتحول زلزالي – وهو نتاج طبيعي للحجم والنمو الصيني الهائل – وهو غير ضار إلى حد كبير، بل قد يكون نافعا. بالنسبة للمناصرين لتوافق بكين، كانت الصين واعدة في عالم ما بعد أمريكا، حيث لا تكون المحفزات الاقتصادية والوصول إلى رأس المال مرتبطين بوصفات سياسية محددة، مثلما كان الحال تحت إشراف مؤسسات بريتون وودز. الأمر متعلق فقط بالصفقات المربحة لكلا الطرفين.
حتى نكون عادلين، كانت الفرضيات حقيقية خلال معظم فترة الألفينات، ولكن الأمور بدأت في التغير سريعا بعد الكساد الكبير عام 2008، الذي صدم مؤسسات الاقتصادات الغربية ولكنه فشل (على الأقل حتى مؤخرا) في تبديد قيمة النمو الصيني المكونة من رقمين. غارقة في لحظة انتصار (سابقة لأوانها)، بدأت بكين في التسلط، مستغلة بشكل انتهازي علامات الهشاشة الممنهجة، إن لم تكن علامات الضعف الاستراتيجية، وسط القوى الغربية، وخصوصا الولايات المتحدة.
حروب التجارة
ولكن أفعال بكين المتهورة والمتسرعة سمحت لواشنطن بالتعافي الكامل من تراجع شعبيتها أثناء فترة بوش، وأصبحت مرحب بها كقوة استقرار في آسيا (اطلع على التقرير الخاص لـ"بوسطن جلوبال فورام"، الذي شاركت في كتابته). منذ عام 2010، أقدم عدد متزايد من الدول بشكل صريح على توسل الالتزام الاستراتيجي الأمريكي الأكبر نحو آسيا، مع تعزيز دول مثل اليابان، وفيتنام، وأستراليا، والهند، والفلبين لعلاقاتها الأمنية مع واشنطن.
إلا أن التفوق الاقتصادي الصيني في آسيا قدم للصين الكثير من الهيمنة التي مكنتها من إبقاء معظم الجيران تحت سيطرتها. تظهر برقية دبلوماسية صدرت عام 2007 كيف أن الأب المؤسس لسنغافورا، الراحل لي كوان يو، كان قلقا بشأن العواقب الاستراتيجية للظل الاقتصادي الصيني المتنامي في أنحاء المنطقة، حيث كان، وفق تقارير، يحث الولايات المتحدة على توقيع المزيد من اتفاقيات التجارة الحرة مع اتحاد دول جنوب شرق آسيا (أسيان)، أو على الأقل مع الأعضاء الرئيسيين بالاتحاد، ما قد يتيح للمنطقة المزيد من الخيارات (بعيدا عن الصين)".
وفق البرقية، وصف رئيس الوزراء لي استراتيجية الصين بأنها مباشرة ومتسلطة، حيث قال: "تقول الصين للمنطقة، "انضموا إلي لتنمو معي". وفي ذات الوقت، يريد القادة الصينيون أن إيصال الانطباع القائل بأن صعود الصين حتمي وأن الدول ستحتاج للإختيار بين إن كانت تريد الصين كصديق أم كخصم عندما "تصل". تنوي الصين أيضا أن تعلن مشاركتها حتى تحصل على ما تريد، أو لتعبر عن استياءها". على سبيل المثال، فرضت الصين بشكل فعال على الفلبين تجميدا للاستثمار، لتجرأها على مقاضاة الصين أمام المحكمة الدولية بشأن الخلافات على بحر الجنوب الصيني، مع تعليقها لاستثمارات واسعة النطاق لدول أخرى بجنوب شرق آسيا، وهي الدول التي لم تناصرها بشكل صريح.
بين عامي 2001 و2011، تعهدت الصين بتقديم أكثر من 600 مليار دولار كمساعدات خارجية وأنشطة استثمار حكومية إلى الدول النامية حول العالم. وفي السنوات الأخيرة، عززت الصين أسلوب الهجوم الساحر الخاص بها عبر دعم مؤسسات مالية دولية بديلة، بدء ببنك بريكس الجديد للتنمية وحتى البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، ومباردة طريق الحرير الجديد "طريق واحد، حزام واحد". بينما كانت المساعدات الخارجية وأنشطة الاستثمار الحكومية الخاصة بالصين مركزة بشكل أكبر على أمريكا اللاتينية وأفريقيا الغنيتين بالموارد، تهتم إدارة شي بشكل أكبر بمغازلة النوايا الحسنة لجيرانها الأقرب.
حسبما أوضح باحث صيني بارز صراحة، تريد الصين أن "تشتري" أصدقاء بينما تلتهم الجزر المتنازع عليها في غرب المحيط الهادي. باختصار، تستطيع الصين، على عكس رأي لوتواك، نظريا أن تتجنب ردة فعل دبلوماسية كاملة طالما سيطرت على الساحة الاقتصادية – أي المصلحة الجوهرية للدول والشعوب في أنحاء آسيا. طالما حافظت الصين على موقعها كشريك تجاري رئيسي ومصدر للاستثمارات واسعة النطاق، خصوصا في القطاعات الاستراتيجية مثل الخدمات والبنية التحتية، ستحافظ بكين على سيطرة كبيرة على جيرانها.
لذلك فإنه من المهم جدا، مثلما أدرك القائد الراحل لسنغافورة، تقديم خيارات بديلة للمنطقة. سعت اليابان، بصفتها المحرك التقليدي للتصنيع في آسيا، تحت قيادة آبي، لتحدي الهيمنة الاقتصادية الصينية عبر تكثيف استثمارات طوكيو في أنحاء آسيا، حيث تعهدت بتقديم قروض ومساعدات إلى اتحاد دول جنوب شرق آسيا بقيمة 20 مليار دولار، وما يصل إلى 35 مليار دولارإلى الهند، وما يصل إلى 110 مليار دولار لتطوير البنية التحتية الآسيوية. ولكن ماذا عن الولايات المتحدة؟
يمثل اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادي حجر الزاوية لسياسة التمحور حول آسيا الخاصة بإدارة أوباما، الذي يستبعد الصين ولكنه يضم بعض الاقتصادات الأخرى الأكبر والأكثر وعدا عبر ساحل المحيط الهندي. إلا أن المفاوضات على الشراكة عبر المحيط الهادي تعرضت لضغوط بفعل التأخيرات والاختلافات في أمريكا وكذلك بين الشركاء التجاريين. في أمريكا، أنقظ أوباما، للمفارقة، عبر أصوات الجمهوريين في اللحظة الأخيرة، التي منحته سلطة تعزيز التجارة حتى يتابع المفاوضات. عارض الكثير من الديمقراطيين بشدة الشراكة عبر المحيط الهادي على أساس أنها تضر بالقوة العاملة المحلية.
إلا أن التحدي الأكبر هو التخوف في أوساط الأطراف المتفاوضة، خصوصا الدول النامية في آسيا، حول الأحكام التي تبدو محابية تماما لمصالح الشركات (الأمريكية) على حساب السياسة الصناعية المحلية والمصلحة العامة للمستهلكين. لذلك فمن المهم لإدارة أوباما أن تضفي التعديلات الضرورية حتى تكسب دعم الدول الأخرى المتفاوضة.
علاوة على التجارة الحرة، يتعلق الأمر بصياغة الأساسات للنظام الأسيوي. ستكون كيفية تعامل واشنطن مع مفاوضات الشراكة عبر المحيط الهادي محورية لنجاح مفاوضات سياسة التمحور حول آسيا والجهود المستمرة لكبح التفوق الاقتصادي الصيني في آسيا. إن أرادت الولايات المتحدة أن تظل محورا للاستقرار في آسيا، سيتوجب عليها أيضا أن تصبح لاعبا اقتصاديا هاما (من جديد).
المصدر