ملحمة توشكي كانت بداية النهاية للدولة المهدية السودانية التي حررت البلاد من دنس الاتراك ، سرعان ما انهارت الدولة المهدية الوليده بعد اقل من عقدين علي بدايتها تحت نيران المدافع و السفن الحربية البريطانية
فكانت ملحمة توشكي ابلغ الامثلة لرجال يخوضون الحتوف بلا زاد و بلا زخيره و بلا سلاح حديث اصلا
زادهم الوحيد الايمان بان النصر ما هو الا من عند الله
فكان اروع توثيق شعري صاغه
عبدالله الشيخ البشير
ابطال بلا زاد
الليل كان في الهزيع الثاني
لا شيء يستبين للعيان
إلا أضاميم من الفرسان
خروا وهم باكون للأذقان
وكل شيء ذاب في الألوان
إلا محاريب من الجمان
تشع في مروجها الحسان
على أديم أزرق ريان
وخيم السكون في المكان
لا حس من نجوى ولا ألحان
إلا رفيف الريح في الأغصان
لا صوت ينساب إلى الآذان
إلا ابتهالات من الجنان
نضحن صمت الليل بالقرآن
***
وهبت النوافح القدسية
شرقية الأنفاس عنبرية
فلو أصاخت أذن ذكية
لصافحتها النسمة الفجرية
بهمسة مرموزة خفية
بعيدة أصداؤها كونية
صريحة لكنها مكنية
تنزلت من حجبها العلوية
عليهمو في حضرة قدسية
على جناحى خفقة روحية
مصونة تحاط بالكتمان
وحولها أفق من الدخان
***
واغرورقت في الشرق عين ماء
رشت بهاء الليل بالأنداء
ولامست بالعطر والأضواء
جبين حر شامخ وضاء
مهييء للسلم والهيجاء
همومه رسالة السماء
ونشر دين الله في الأرجاء
والسير في المحجة البيضاء
والعدل بالقسطاس للضعفاء
وحوله حشد من الأنضاء
من شاحذ للحربة السمراء
وقاريء يحبو على الأجزاء
وهائم في عالم الدعاء
وقد تلاقى فوقه النجمان
وماج شط الغيب بالأمان
***
وانسلت البقعة من نعاس
على صباح ثائر الأنفاس
ورزت العرضة بالنحاس
وكل شيء ماج بالحماس
فلا ترى إلا جموع الناس
ماضين تواقين "للدواس"
كأنما زلوا عن الأقواس
يسابقون الريح بالأفراس
ويشعلون الشمس بالأكباس
ولبست مدينة ام درمان
بهاءها في ذلك الزمان
***
واكتظت العرضة بالحشود
وكان ذاك اليوم يوم عيد
معطر الأردان بالبارود
ومشرقاً كجبهة الجنود
وصفت الخيل على صعيد
قد هاجها تضرم القصيد
فجاذبت تصل بالحديد
مجنحات بالقنا الممدود
تود لو طارت إلى بعيد
منقضة في قسطل مزرود
أصيلة حنت إلى الطعان
واعتادها تلاحم الشجعان
***
ونصت الرايات عاليات
رفافة وريحها موات
منضورة الألوان حاليات
منقوشة بمحكم الآيات
تتيه بالصمود والثبات
بهمة الزراع والرعاة
وحافظي القرآن والتقاة
وتزرع الأحلام في الموات
وترسل البشرى إلى الجهات
رفعن مذ رفعن خافقات
أيام كان الناس في سبات
يهيئون الدرب للغزاة
يطأطئون الرأس للطغاة
رفعن من أيد مجربات
ما شوهدت قط منكسات
ولا على الأعقاب ناكسات
بنات نول حاك للفتيان
مدارع الدمور في شيكان
***
وصاح صوت للجهاد عال
أجابه رجع من الجبال
وارتد للضفاف والشلال
وامتد في الأيام والليالي
وأنصت التاريخ في إجلال
ودار حول العرض كالرئبال
أبو محمد سنا الأبطال
سيف الإمام خائض الأهوال
والمقتدى بنهجه المثالي
أعماله في لوحة الأعمال
يلصفن في الحروف كاللالي
انظر إليه وهو في المجال
يختال فوق أحمر مختال
معلماً بالريش والنبال
وحاملاً أمانة الأجيال
وحوله غاب من العوالي
يرمي بناظريه للشمال
كأن عينيه عقيقتان
وان زنديه كتيبتان
***
قد كان في شيكان عن يقين
دعامة في نصرنا المبين
باهي الشلوخ ناصع الجبين
يعتز في تواضع رصين
وكان أقنى شامخ العرنين
وأخضراً ذا معدن ثمين
وكان مشغوف الهوى بالدين
ومولعاً بالسيف والمتون
من راه إذ هب إلى الكمين
في وجه جبار القوى متين
فرده مجزع الوتين
وبثت الغابة للرعيان
ملاحناً من قوسه المريان
***
وخاطب الجمع بما يطاع
وقال حين *** اليفاع
المهتدي بالله لا يضاع
والحق لا يشرى ولا يباع
ولفهم بين السراب القاع
في صائف يحمومه لذاع
وهم رعاة وهم زراع
ونسوة وإلدة أيفاع
مهاجرون مالهم رجاع
وزاهدون مالهم أطماع
مضوا فلا زاد ولا متاع
تكبيرهم تهليلهم ايقاع
مقدس تشتاقه الأسماع
وضجت الجبال والبقاع
ألا تمهل أيها الشعشاع
من أين عذب الماء للظمآن
وأين أين القوت للجوعان
***
ولم يصخ ونص لا يميل
ندب على أيدي الثرى مجبول
في لاحب تيهوره طويل
وقفره بجنه مأهول
يحار من خذاعه الدليل
ولم يصخ ونص لا يميل
في منكرات ضوؤها كليل
في مثل ما يلغي عليها الغول
يحفه من جيشه التهليل
فما انثنى حتى نهاه النيل
وقابلته الناس بالحرسان
وساجعته الطير بالأغصان
***
جازوا خضماً ما به من ماء
ولا به نبض من الأحياء
وجملتهم لفحة الرمضاء
ووسمتهم حكمة الصحراء
وخيموا بالعدوة الجرداء
للنيل حول الراية الخضراء
والنيل فيما قد حكاه الراء
ينساب فوق لجة حمراء
وهم على مرأى من الأعداء
وهم على مرمى من الرماء
فنفروا النوم عن الأجفان
وجردوا الأسياف ملأ جفان
***
وليلة فجرية المذاق
بدنقلا سمارها السواقي
نيلية مخضرة الأوراق
مدتهم بجدول رقراق
وقد تغنى طائر الدلاق
ضمتهمو حباً على إملاق
على حشايا رملها البراق
فرنق النعاس في الآماق
وعادهم طيف من الأشواق
لكنهم باتوا على إشفاق
فمنهم من شمروا عن ساق
يتلون آي الله في اشتياق
ويسرجون الليل بالأحداق
يحصون ما يجري على الآفاق
وما يكن الشر في الأنفاق
وما وراء التل من طراق
والبدر كان باهر الإشراق
يوامض النهر فيبرقان
كجبهة المظفر النشوان
***
وقادهم مشاطئاً للنيل
وكم بشط النيل من جميل
جزائر تعج بالهديل
والزرع والأنعام والشتول
وظل سنط حالم مسدول
يدعو المجاهيد إلى المقيل
وصوت مزمار من الترتيل
عن معبد بادي السنى مأهول
وذكريات من هوى أصيل
ترف أحلاماً على النخيل
وزارع بحقله مشغول
مشمر الساقين للمحصول
وحرة تحنو على البقول
وزورق لعابر عجول
ودافق في جدول مجدول
ينداح أسراراً على الحقول
لكن أعداء بني الإنسان
بثوا شراك الموت في الشطآن
***
تحرفوا عنه وهم جنوح
إلى عراص أرضعها سفوح
تصون أسراراً وتستبيح
وهب من هنَّا وهنّا الريح
فاغبرت الآفاق وهي فيح
وقد تلظى واكفهر اللوح
واحمر من لذع السموم الكيح
ولاح ذاك السملق القبيح
والوحش في أحشائه يصيح
وطولبوا بالذل والإذعان
وغصت الحلوق بالأحزان
***
لله محصورون في فناء
لا مشرع يفضي بهم للماء
وظلهم سقف من الهواء
وفرشهم جمر من الحصباء
والقوت لا قوت سوى النواء
غزتهمو جحافل الوباء
فقامت القبور في العراء
وزاحت الضباع في الأرجاء
وأمسك الطير عن الغناء
إلا محلئيين كالشنان
يفرون ناب الضر بالإيمان
***
فما استجابوا للحصار المحكم
ولا استكانوا للهيب المضرم
وساندتهم عزمة المصمم
وعزة موروثة لم تحطم
ووثبة معروفة لم تهزم
تلاوحوا للمدفع المدمدم
يرفض ناراً من يدى غشمشم
حتى إذا احمر النهار بالدم
صال الجياع في اللظى المضرم
من كل ندب بالتقي موسم
يدعون بالجلى تعالي سلمي
فمن رآهم في لظى الميدان
فقد رأى ما لم تر العينان
***
وقال راوي أوثق الأخبار
من عاش في جحيمها في دار
قد كان ما لم يجر في الأفكار
ولا روته الناس في الأخبار
ولا حوته الكتب في أسطار
قد جمعوا قذائف الدمار
واستخلصوا منها على الأخطار
ما مد أسلحتهم بالنار
فهاجموا في رائع النهار
وباغتوا الأعداء كالإعصار
ودمروا معاقل الحصار
وأسرعوا للنهر في انحدار
وفوقهم سقف من الغبار
وحولهم حلل من الأدار
وجالدوا بوارج البخار
بمنطق البارود والبتار
وخوضوا في مائه الذخار
وأشرعوا السقاء في التيار
واستخلصوا الماء من الشرار
ورشحوا النيل بأرجوان
وشيعوا القتلى بمهرجان
***
وأقبلوا غراً من الصدام
أيديهم في راية الإسلام
ملأى رواياهم بماء طام
لها نشيد مزبد الأنغام
فأبصروا زيقاً من الحمام
ينغل في حدائق الغمام
فاستبشروا بمقبل الأيام
وهم بلا رسم ولا أرقام
ولا عناوين ولا وسام
شم الأنوف ثابتوا الأقدام
بالحب والإخلاص والإقدام
ماضون حول ثائر مقدام
قليل ما يقتاته صوام
مسهد بين الدجى قوام
قد قادهم للنصر وهو ظام
ما ذاق مذ يومين من طعام
مهابذ لله غير واني
وزاهد يعلو على الحرمان
***
فهل رأيت الرسل بالعشي
من غاصب ذي عزة عتي
جاءوا ليثنوهم عن المضي
جاءوا ومنوه بكل شيي
بالملك بالسلطان ذي الدوي
بكل مجد العالم الأرضي
وكل ما يغري الفتى بالغي
فعافها ذو المنهج المهدي
وند مثل الآبد الوحشي
وانحاز فوق منبر صخري
وصاح فيهم صيحة البركان
تجيش بالحديد والنيران
***
إنا مبايعون قد وفينا
وفي سبيل الله قد مضينا
والحكم لله إذا التقينا
لن تدركوا منا إذا قضينا
إلا الشهادات التي أدينا
والمشرفيات التي أمهينا
وجبة متروزة علينا
وحربة مركوزة لدينا
لهم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
وخذ نواصينا على الإيمان
وكل ما سواك شيء فان
***
وقالها في وجههم جهارا
فهزت الجبال والأنهارا
واعتامها طير العلا وطارا
وبثها في العالم افتخارا
يدور قرص الشمس حيث دارا
فأجفلوا عن حوضه حيارى
وجلجل التكبير واستطارا
وزغزدت للنخوة العذارى
وافتر ثغر البسل الغيارى
فأوقدوا فوق الجبال نارا
فأشرقت صخورها اخضرارا
ماذا يقول الشعر ذو البيان
وقد رأى التاريخ بالعيان
***
وقادهم مشاطئاً للنيل
وكم بشط النيل من جميل
أضفى عليه روعة التظليل
مشاعل النوار في الخميل
وقد كسته روعة الأصيل
نقوش تاريخ على صقيل
ومن بنات الورق والهديل
صدى ربابات من المجهول
مشدودة الأوتار في الفصول
تنداح أنغاماً على النخيل
لكن أعداء بني الإنسان
بثوا شراك الموت في الشطآن
***
وفي صباح أشأم الجناح
ألقى على توشكي رؤى الجراح
فاصطفت الجياع كالأشباح
على أديم مقفر قرواح
وبادروا بالسيف والرماح
كأنها شعل من الأرواح
على خميس فاتك السلاح
فبعد ضرب منهمو ملحاح
وبعد صبر للأذى نضاح
تقاضت النار ذوي الرماح
واستشهدوا يزينهم رمزان
المجد لله وللأوطان
***
وكان أمراً ما له مرد
فأين مما ليس منه بد
فحدثته النفس مات الجند
لا خيل تقفوك إذا تشد
لا دارع يحميك إذ ترتد
وحومت تلك الصقور الربد
فما ترى غير الخضوع بعد
فأزت النار وضج الرعد
وأوشكت جباله تنهد
وكر فوق الأحمر الحصان
مكبراً وغاب في الدخان
***
جاءوا به في موكب الغروب
مضرجاً كالصارم الخضيب
يفوح من برديه نفح الطيب
ورف حولى نعشه المهيب
ملائك وافت من الغيوب
يا قاهر الخطوب بالخطوب
قد عشت في خواطر الشعوب
وفحت ريحاناً على الدروب
لكن تضيق الأرض بالأديب
وينثني يبكي على السهوب
ويشعل الضفاف بالنحيب
إن ضاقت الحياة بالعقبان
وراشت الجناح للغربان
***
وفي ظلام الطارق البهيم
تربع التاريخ في السديم
على منار حف بالتكريم
وحوله حدائق النجوم
ترف في مدارها النظيم
هناك قد خط على الرقيم
نصين من شهادة الخصوم
شهادة للقائد النجومي
ومثلها لجيشه العظيم
من قد أرادوا المجد للسودان
فواصلوا السعى إلى الجنان
***
من خافقي ومن سنا قصيدي
وخير ما كابدت من جهودي
ومن أياد أشرقت في جيدي
ومن معان عمقت وجودي
ومن أمان لحن من بعيد
ومضنيات حررت قيودي
تحية للباسل الشهيد
وصحبه الموفين للعهود
عليهمو سحائب الرضوان
عليهمو سحائب الرضوان
مجلة الخرطوم - العدد السادس - عدد مارس 1994 - صفحة 115 - 130