هل يمكن أن تكون للعرب قوات لحفظ السلام ؟
دبلوماسي خليجي يتردد على القاهرة بين الحين والآخر ينقل حواراً مغلقاً دار بين أروقة جامعة الدول العربية وعلى مستوى محدود فكرة الاستعانة بقوات عربية لحل مشكلة قطاع غزة، هذا الدبلوماسي يعلق على المناقشات بقوله «يبدو أن الجماعة أخذتهم العاطفة بالكلام والغيرة على الوضع الفلسطيني المحزن ولم يدركوا أن المشروع من أساسه قد يكون «فخاً أريد به توريط
مصر في مستنقع غزة وجرها إلى ان تكون طرفاً في الاقتتال الفلسطيني أو أنهم مغيبون تماماً عن عدم جدوى الاستعانة بقوات عربية لحل النزاعات».
سبق هذا الكلام اقتراح تقدمت به السعودية يقضي بإرسال قوات عربية إلى لبنان على خلفية الأحداث الطائفية في بيروت صيف هذا العام لوقف الاقتتال الطائفي تحفظت عليه
مصر لقناعتها بأن هذا الخيار مكلف وقد يؤزم الصراع بدلاً من حل.ّه، كذلك رفض الأردن المشروع الذي لم يتبنه أحد لأنه سيكرس الانقسام الفلسطيني بين غزة والضفة الغربية ولم يستمر الحديث عنه أكثر من أسبوعين فقد مات قبل أن يولد..
سبق أن طرحت فكرة نشر قوة دولية في قطاع غزة قبل أشهر في مجلس الأمن ومن قبل الأمين العام للأمم المتحدة تحمس لها رئيس وزراء إسرائيل المستقيل إيهود أولمرت لكنها لم تحظ بالموافقة من قبل أي طرف فلسطيني أو عربي أو دولي وأيضاً لم يتسن لها البقاء بل انتهت بمجرد خروجها إلى العلن..
موضوع غزة فتح باب النقاش مجدداً حول قوة حفظ سلام عربية تعمل لحل النزاعات والحروب العربية وهو حديث فيه من ال
اخفاقات أكثر ما فيه من النجاحات.
من المفارقات الغريبةأن المنطقة العربية شهدت ولادة أول قوة حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة عام 1956 على المستوى الدولي ولا زالت تعج بالأزمات والمراقبين أصحاب القبعات الزرق بعكس ما يقال من أن حرب 1948 كانت هي الأسبق… الواقع أن الجمعية العامة للأمم المتحدة خصصت أثناء العدوان الثلاثي على
مصر عام 1956 جلسة طارئة لبحث أزمة السويس وقررت في حينه إنشاء قوة طوارئ تتبع لها وبعد عشرة ايام تم إنزال ستة آلاف عسكري في
مصر لمراقبة الحدود مع إسرائيل حوالي 2732 كلم للإشراف على انسحاب القوات البريطانية والفرنسية والاسرائيلية… أما في فلسطين فقد طلب مجلس الأمن في مايو 1948 وقف عمليات القتال وقرر أن الهدنة التي فرضها ينبغي أن تراقب من قبل وسيط للأمم المتحدة وبمساعدة مجموعة من المراقبين العسكريين وبالفعل وصلت إلى المنطقة أول مجموعة منهم عرفت باسم هيئة الأمم المتحدة لمراقبة الهدنة في يونيو 1948 وبقي مراقبو الهدنة يشرفون على اتفاقات الهدنة بين اسرائيل والدول العربية المحيطة بها حتى اليوم وكانت الأساس للهدنة في المنطقة على وجه العموم ..
ما يعنينا في هذا الموضوع أن «النظام العربي» المتمثل بكيان جامعة الدول العربية والذي أنشئ في الفترة تقريبا التي أنشئت فيها الأمم المتحدة ، أي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لم ينجح في إدارة النزاعات العربية ولا في حلها، بل حلت مكانه قوات الطوارئ الدولية التابعة للأمم المتحدة وبتفويض من مجلس الأمن أو قوات متعددة الجنسيات، بل أخفق في ذلك وكان دوره هامشياً وضعيفا.. وهنا تكمن المفارقة والمشكلة، لماذا لم تتح لهذه القوة التي تجمع العالم العربي وتتوافر فيها مقومات تؤهلها لتشكيل قوة سلام أو أمن عربية على غرار الأمم المتحدة مثلاً أو الاتحاد الأفريقي على هزالته وتدني امكاناته، مع أن العالم العربي لديه امكانات مالية وعسكرية أكبر بكثير من الافريقيين وحتى الأوروبيين الذين شاركوا الولايات المتحدة بحلف الأطلسي؟!
في مفهوم الكلفة المالية والسياسية وطبقا لدراسة أجراها مشروع «اجماع كوبنهاغن» الذي أشار اليه بول كولينيز استاذ علوم الاقتصاد بجامعة أكسفورد، فقد تبين أن القوة العسكرية (قوات حفظ السلام) تشكل أداة على قدر كبير من الأهمية في منع اراقة الدماء ولها فوائد عظيمة تتمثل بانخفاض احتمالات العودة الى الصراع وفي الوقت نفسه تسرع من معدلات النمو الاقتصادي للدولة ..
خريطة النزاعات والحروب العربية ومنذ الستينات تظهر أن هذه المنطقة «زاخرة» بصراعاتها الدموية، سواء صراعات داخل الأنظمة الحاكمة أو نزاعات مع الجيران تتصل بالحدود أو بالهيمنة والاستيلاء ومنازعاتها التي كلفتها ضحايا بشرية واقتصادية ربما كانت كفيلة بعمل أكثر من مشروع تنموي على غرار مشروع مارشال الأوروبي الذي اعاد بناء القارة المهدمة بعد الحرب العالمية الثانية..
طرح السؤال فيه قدر من التسطيح والقفز فوق الحقائق، والمسألة لا يحكم عليها بالنوايا ولا بالمقاربة التي تقول: اذا كانت الأمم المتحدة أنشأت قوات حفظ سلام أو الاتحاد الافريقي، فلماذا نحن - العرب - لا تكون لدينا قوة مشابهة على الأقل من باب «الغيرة»؟!
هناك حالتان فقط من تاريخ العرب والجامعة، كان لهما حضور في الأزمات في ما يسمى بقوات حفظ السلام والامن العربيين وما عدا ذلك مارست قوات ثلاث دول عربية، هي سوريا و
مصر والعراق، «التدخل العسكري داخل حدودها» وقامت بدور «المحتل» تجاه دول عربية أخرى شقيقة ! هذا بخلاف المأساة التي نتجت عن مشاركة الدول العربية في حرب 1948 بعد دخول قوات
مصرية وعراقية وأردنية ولبنانية، وسورية الى فسلطين بغية «تحريرها» من العصابات الصهيونية التي تربت في أحضان الانكليز.. نتج عن الحرب بعدما وصل الجيش اللبناني (تخيلوا) الى مشارف عكا وتمكن جيش الانقاذ من السيطرة على معظم الجليل.. ضياع جزء من فلسطين يفوق من حيث المساحة القسم الذي حدده قرار التقسيم لانشاء دولة اسرائيل!
حالة الكويت
بعد إعلان الكويت استقلالها وإلغاء اتفاقية الحماية البريطانية في 19 يونيو 1961 تقدمت بطلب الانضمام لجامعة الدول العربية، حينها أعلن عبدالكريم قاسم أن الكويت جزء من العراق ودعا لضمها!
بادرت الكويت بطلب المساعدة من السعودية أولا وأرجأت انسحاب الإنكليز وفعلاً وصل أول فوج سعودي إلى الأراضي الكويتية يوم 30 يونيو 1961 ثم تطورت الأحداث بسرعة فبعد شكوى لمجلس الأمن من الكويت، قدمتها بريطانيا بالنيابة عنها، فشل باستصدار قرار وأحال المشكلة لجامعة الدول العربية التي قبلت انضمام الكويت إلى عضويتها، وفي 12 أغسطس 1961 جرت مراسلات بين عبدالخالق حسونة أمين عام جامعة الدول العربية وبين أمير الكويت الشيخ عبدالله السالم الصباح حول قبول قوات أمن عربية تحت مظلة الجامعة للعمل على الحدود بين الدولتين وهي قوات مؤقتة ستنسحب فور طلب الكويت من الجامعة ذلك. أرسلت قوات الأمن العربية في 15 أغسطس 1961 ووصلت طلائعها في 10 سبتمبر بالعام نفسه واشتركت كل من السعودية و
مصر والأردن والسودان في ذلك.
خلاصة الموقف أن الكويت عولت كثيرا على مساندة أشقائها العرب فرفعت الأمر إلى الجامعة التي قررت تشكيل صندوق عربي لتمويل القوات وعلى إثرها انسحب الإنكليز ولم تبق قوات الأمن العربية سوى أشهر معدودة.. لأن الانقلاب الذي أطاح بحكم عبدالكريم قاسم يوم 8 فبراير 1963 وتولى عبدالسلام عارف الحكم صرف الانتباه عن موضوع الحدود والمطالبة بالضم والقوات العربية التي جاءت للكويت لم تواجه مشكلات في الأصل تضطرها للبقاء، فالانفصال بين
مصر وسوريا حصل في سبتمبر 1961 وثورة اليمن وقعت في سبتمبر 1962 وانقلاب البعث وقع في 8 فبراير 1963 بالعراق حيث أخذ الحكام الجدد بنهج التهدئة وأسفر عنه توقيع اتفاقية 1963 واعتراف العراق باستقلال الكويت وتبادل التمثيل الدبلوماسي على مستوى السفراء – وهكذا انتهت المهمة التي ساعدت ظروف سياسية وعسكرية محيطة بأن تنجز الدور دون خسائر أو مواجهات عربية أو حتى تكليف بوساطة أي أنها قامت بدور الشاهد النظيف على ما حدث دون أن يتطور إلى ما عداه أو يأخذ منحى حل النزاع فالمشكلة تراجعت بفعل التطورات التي وقعت باليمن و
مصر والعراق نفسه وليس بسبب دور قوات الأمن العربية التي أوصت بها جامعة الدول العربية لأول مرة في تاريخها.
تجربة الردع
المرة الثانية التي شاركت فيها قوات حفظ السلام العربية تحت مظلة الجامعة كانت في لبنان بعد نشوب الحرب الأهلية هناك والتي شكلت عام 1976 بمقتضى مقررات مؤتمرات القمة العربية في الرياض والقاهرة وكانت قوات رمزية من السعودية والإمارات والسودان واليمن الجنوبي.. لم يتجاوز هذا التواجد حدود الدور الرمزي في مواجهة القوات السورية التي دخلت لبنان دون غطاء شرعي عربي وكانت مهمتها «تجميلية» أكثر مما هي فاعلة على الارض بعدما انتهت فترة تفويضها عام 1982 وتنسحب نهائيا من الأراضي اللبنانية لتترك الدور الحقيقي في الصراع على القوات السورية التي أخذت المهمة على عاتقها وأكملتها منفردة وتحولت إلى مشكلة عربية ودولية وضعتها في صورة «المحتل» من قبل مجموعة من القوى اللبنانية والدولة وهو ما انتهت إليه بصورة دراماتيكية وإجبارها على الخروج بعد اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري عام 2005 وهذا هو الجانب الآخر الذي اشرنا إليه في حالة إخفاق العرب على المستوى الجماعي بإيجاد قوات حفظ سلام للنزاعات العربية، وهو ما حصل في اليمن على سبيل المثال عام 1962 بعد أن تولى سيف الإسلام محمد البدر الذي لقب بالمنصور بالله الحكم في اليمن خلفا للإمام البدر، ولكن حدث انقلاب عسكري ضده بعد ثمانية أيام من توليه الإمامة قامت به جماعة من الضباط بزعامة عبدالله السلال لينهي حكم الإمامة الزيدية ويقيم النظام الجمهوري، استنجد السلال والجمهوريون بعبدالناصر الذي أمده بالسلاح في مواجهة أنصار الملكيين المدعومين من السعودية واستمر الصراع هناك لمدة سبع سنوات تقريبا وانسحبت القوات ال
مصرية بعد هزيمة 1967 على أثر لقاء جمع عبدالناصر والملك فيصل في الخرطوم بالسودان .. كان من نتائجه المروعة سقوط أكثر من عشرة آلاف
مصري وتوريط نظام عبدالناصر في معركة عربية لاستنزاف ثروات
مصر البشرية المالية ووصل عدد الجنود الذين أرسلوا إلى اليمن نحو 50 الف جندي
مصري.. ليشهد اليمن عمليات اغتيال رئاسية وانقلابات وحروبا داخلية طاحنة بعدها..
إخفاق العرب
وتكرر عام 1990 في الكويت عندما دخل جيش صدام حسين إلى أراضي دولة عربية شقيقة وجارة ليحتلها بقوة العسكر ويفرض الأمر الواقع الذي عجز العرب والأمة العربية عن القيام بدور «الرادع» فيها لتدخل القوات الأميركية و 32 دولة في العالم في حرب لإزاحة صدام من الكويت وأيضاً بمشاركات عربية كان للسعودية الدور الأكبر لاعتبارات الحدود وكونها ساحة لتجمع الجيوش على أراضيها لكن تحت مظلة أميركا والأمم المتحدة وليس تحت مظلة الجامعة العربية التي لم تستطع احتواء مناقشات قمة عربية خصصت لهذا الغرض وخرجت من هذه الأزمة التي تعادل نكبة العرب في فلسطين عام 1948 إن لم تكن أكثر وهي كسيحة لا تقوى على الحركة؟
سيكون من الصعب فتح باب النقاش حول جدوى قيام قوات حفظ سلام عربية ليس بسبب ضعف الإمكانات البشرية المادية بل لعدم توافر الحيادية بحل النزاعات واستمرار صراع الكبار المحليين في عملية استقطاب ومحاور وخلافات حول من يملك «قيادة هذه الأمة» وتؤول إليه مصائرها واتخاذ القرارات الحاسمة بشأنها وبشأن «بلاويها»! وأيضا لاستسهال الاستقواء بالخارج واستقطابه بغرض تدخله لفض النزاعات المستعصية في ظل فقدان آلية حل النزاعات وغياب أي مرجعية صالحة وقوية تملأ الفراغ وتسحب ورقة التدخلات الأجنبية