صحيح أن مجتمعاتنا العربية والإسلامية لازالت في إطار التشكّل، ولم تستقر على شكل اقتصادي وإداري محدد، وهي غير خاضعة لعملية علمية منهجية في التطور، وكلما سارت في اتجاه انقلبت بنا الطريق إلى عكسه فخسرنا قيمة التراكم وفائدة التجربة.
لكن إن كان من فائدة لهذا الواقع، فهي تكمن في عدم قدرة جهة اجتماعية معينة في مراحل التشكل على الاستحواذ وتركيز السلطة بشكل مستبد لترهن المجتمع ومصالحه لمصالحها، ورؤيتها المحددة والمحدودة، وظل الاستبداد والنفوذ بيد جهة محددة يتم التعامل معها على عدة مستويات، إما معارضة أو معايشة، ويتم تفريغ الاستبداد في بلداننا من خلال مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقانونية تتفاوت فاعليتها من بلد إلى آخر، لكن في كل الأحوال لم يُترك مجالٌ لاستبداد المال وهو الاستبداد الأخطر، وتولد طبقته متنفِّذة خارج القانون ومصالح الدولة والمجتمع إذا اصطدمت بمصالحها..
وفي الغرب، أي الولايات المتحدة وأوروبا، تتحول قوة رأس المال بتركّزاتها الجديدة في جهة معينة من المجتمع لتصبح كل المؤسسات القانونية والدستورية الحكومية بل ومؤسسات المجتمع وأشخاصه خاضعة لها ويمتد نفوذها عبر القارات.. ومن الضار لنا كأمة ودول أن نتعامل مع الغرب ونحن نعتقد أنه يشبهنا كمؤسسات حكم وأجهزة سياسية وأمنية واقتصادية لأننا حينذاك سنُفاجَئ بأن جهات القرار ليست تلك التي نتحاور معها ونوقع معها اتفاقيات، وأن هناك مصالح لجهات أخرى هي التي ستفرض وقائع جديدة لا تكون في حسباننا..
هذه الشركات توظِّف 70 مليون شخص، بمعنى أنها تؤمِّن معيشة 350 مليون نسمة يتبعونهم أسريا، ومئات ملايين الأشخاص حول العالم لهم صِلات تجارية بالشركات.. بمعنى واضح أن هذه الشركات لها تأثيرٌ مباشر على مليار نسمة في العالم أو أكثر تحدّد أفعالهم ومواقفهم عملية إيجاد فرص عمل وظروف العمل والمعايير.
من المهم هنا أن نشير إلى القرآن الكريم ومنهجه المعجز وهو ينبِّهنا إلى ضرورة تغيير الأدوات مع تغيُّر الأزمان والوقائع والحيثيات في سنن التحرك والفعل ودائرة المسؤولية، وهذا ما ينبغي فتح العين عليه من تطوّر واقع الآخر الذي نتعامل معه صراعاً أو تعايشاً، فكانت قصة أهل الكهف بكل دلالاتها في الغياب في عالم الأدوات والأساليب.. فكم تبدو سخيفة تلك العقول التي تربط خلاياها على وقع الماضي بأزماته ومشكلاته وتربط مشاعرها بحيثياته فيما الحياة تسير دفَّاقة نحو آفاق أكثر تعقيداً وإلى ساحات صراع مغايرةٍ تماماً.
لقد انتهت السلطة في العالم إلى نوع خاص من المتحكمين الفعليين.. إنهم يمثلون طبقة النخبة: نخبة السلطة العالمية التي تعيد تشكيل كوكبنا.. إنها الشركات الاقتصادية الصناعية والتكنولوجية التي تستحوذ على ثروات الشعوب ومصائرها.. هذا في حين يوجد على وجه الكرة الأرضية ستة مليارات شخص نصفهم يعيشون على أقل من دولارين في اليوم.
في هذا العالم الجديد، ترتقي المؤسسات إلى أدوار اقتصادية واجتماعية تفوق أحيانا أدوار الدول وغالبا تكون بمنأى عن مصالح الدول.. في كتابه المثير والشيِّق "الطبقة الخارقة" يعطي ديفد. ج. روثكوبف أرقاما تفسِّر كيف تطوّرت صناعة القرار في العالم من خلال الارتقاء المتواصل للمؤسسات، فمثلا في عام 2007 كان الناتج المحلي في العالم يقدر بـ47 تريليون دولار (1 تريليون دولار يساوي ألف مليار دولار) وفي السنة نفسها حققت أكبر 250 شركة في العالم إجمالي مبيعات يفوق 14.87 تريليون دولار؛ أي ما يساوي ثلُث الناتج الإجمالي المحلي في العالم تقريباً. وتفوق قيمة هذه المبيعات قيمة الناتج الإجمالي المحلي للولايات المتحدة الأمريكية "13.2 تريليون دولار، وفي الاتحاد الأوربي 13.74 تريليون دولار.. وقد بلغ إجمالي مبيعات أول خمس شركات "وال مارت، واكسون موبايل، ورويال داتش شيل، وبي بي، وجنرال موتورز" حوالي تريليون دولار، أي أكثر من الناتج الإجمالي المحلي لجميع دول العالم ماعدا السبع الأولى منها.. ومبيعات إكسون موبايل أكبر من الناتج الإجمالي المحلي للسعودية، وهي المرتبة 25 في اقتصاديات العالم..
وبغرض المقارنة، تصل قيمة السوق الإجمالية للأصول التي يتم المتاجرة بها في الأسواق العالمية 140 تريليون دولار، في حين تبلغ مجموع أصول أكبر ألفيْ شركة في العالم 103 تريليون دولار.. وهذه الشركات توظِّف 70 مليون شخص، بمعنى أنها تؤمِّن معيشة 350 مليون نسمة يتبعونهم أسريا، ومئات ملايين الأشخاص حول العالم لهم صِلات تجارية بالشركات.. بمعنى واضح أن هذه الشركات لها تأثيرٌ مباشر على مليار نسمة في العالم أو أكثر تحدد أفعالهم ومواقفهم عملية إيجاد فرص عمل وظروف العمل والمعايير، وأي السياسيين المحليين يتم دعمه؟ وأيهم يتم تهميشه؟ وبجوار هؤلاء يوجد 3 إلى 4 مليار شخص يصارعون لتدبُّر معيشتهم.
لقد انتهت السلطة في العالم إلى نوع خاص من المتحكمين الفعليين.. إنهم يمثلون طبقة النخبة: نخبة السلطة العالمية التي تعيد تشكيل كوكبنا.. إنها الشركات الاقتصادية الصناعية والتكنولوجية التي تستحوذ على ثروات الشعوب ومصائرها.. هذا في حين يوجد على وجه الكرة الأرضية ستة مليارات شخص نصفهم يعيشون على أقل من دولارين في اليوم.
هذه الشركات ليست مؤسسات إنتاج محلي فقط، بل هي تمتد بنفوذها الاقتصادي على الصناعات الأخرى والشركات الأخرى بشبكات موظفيها ومساهميها حول العالم، وهي ذات قوة أكثر من الدول المماثلة لها في حجم الإنتاج، فهي عابرة للقارات حسب الظروف المواتية لها والتهرب من القرارات التي تشكِّل تحجيماً للربح والتمدد، وينشأ عن قوتها الاقتصادية قدرتها على ممارسة الضغوط ودعم السياسيين وتشكيل الرأي العام والمزاج العام..
والواضح أن الأفراد الذين يديرون الشركات الكبرى يمتلكون سلطة استثنائية، فمن هم؟ ومن يأتون؟ وما هي المسائل التي تهمهم؟ من المهم هنا أن نشير إلى أن 106 شركة ضخمة في العالم، تتركز 91 شركة ضخمة منها على جانبي المحيط الأطلسي، أي الولايات المتحدة وأوروبا.
إن لغة الأرقام حول الأغنياء وثروتهم الإجمالية وحركة الأسهم في الدول الكبرى، لاسيما الولايات المتحدة، تكشف إلى أي مدى تتمركز الثروة بيد أفراد يصبح لهم نفوذٌ هائل على ملايين العمال وعائلاتهم وزبائنهم والتجار حول العالم، ومدى تأثيرهم على سياسات بلدانهم الاقتصادية والسياسية، كما تشير وقائع متواصلة في البلدان التي يتمركز فيه المال بيد أفراد وشركات.
إنها قائمة من الرجال المتحكمين بأرقام مالية ضخمة تؤهّلهم لنفوذ حاسم في صنع السياسات في بلدانهم والعالم.. رجال في مؤسسات شركات صناعية وإعلامية إنتاجية عملاقة.. إنها قائمة هائلة مُربِكة، تتمتع بعلاقات معقدة فيما بينها.. إنهم لا يسكنون حيِّزا جغرافيا محددا، ولكنهم يؤثرون بعمق في حياة الناس في هذه الحقبة.
هنا تبرز الأسئلة: أين قيمة المؤسسات الحكومية في العالم؟ إلى أي حد يمكن أن يكون صحيحا العملُ على تأسيس العلاقات بين الحكومات والمؤسسات الدستورية؟ ثم أي تصادم يمكن أن ينشأ في العالم بين هذه النخبة العالمية والنخب الوطنية؟ وهل نحن نسير إلى تجديد الصراع ضد طغيان رأس المال؟ والسؤال المهم هنا: كيف نتعامل مع هذه القوة العالمية؟ وكيف نستطيع حماية مصالحنا الإستراتيجية؟ وهل نمتلك وسيلة لكي نتحرر من سلطانها؟.. وهكذا تبدو العلاقات ليست مع الأطراف الظاهرة، وهكذا نفهم تماما دوافع الصراعات الكونية غير المفهومة أحيانا إلا على قاعدة مصالح الشركات والمصانع.. تولانا الله برحمته.
icon-tags
الشروق اون لاين