لا يوجد تحد في العسكرية يواجه الجيوش مثل الانسحاب من ارض المعركة تحت الضغط. و يتطلب هذا من الجنود و من القادة الثقة بقادتهم و بقدراتهم. و كذلك استخدام تكتيكات مناسبة للانسحاب. اضافة للكثير من الحظ و سوء التقدير للعدو المتقدم. و الهدف من الانسحاب هو الحفاظ على ما يمكن من قوات و عتاد و معنويات لجولة اخرى ضمن ظروف افضل.
و ان كان هناك بعض المشاكل في تنفيذ الجيش العراقي لبعض الواجبات البسيطة بسبب ظروف الجيش و ظروف الحرب. فما بالك الان بهذا التحدي العملياتي الاصعب. خصوصا و ان القيادة السياسية العراقية قمعت بشدة اي تفكير بالمناورة او الانسحاب (حسبما اشار القائد رعد الحمداني في شهادته) و بالتالي لم يكن هناك اي نوع من التحضير. اضافة لمشاكل الاتصال و سيطرة العدو المطلقة على الجو. العامل الوحيد المساعد للجيش العراقي كان الجو السيء، و هو ما لن يستمر طويلا. و لكن الطرف الامريكي ارتكب اخطا فادحة في تنسيق تحركاته لاحكام مطاردة القوات العراقية كما سيتبع.
كان العراقيون، طوال شهور الحرب، يمارسون الصمت اللاسلكي بشكل يثير الاعجاب حقا. بحيث تم تخفيف الاتصال اللاسلكي و الاشارات اللاسلكي حتى لا يستطيع العدو ان يتنصت او ان يعرف اماكن الاتصال. و كان الالتزام العراقي في هذا الموضوع سببا لشك الاستخبارات العسكرية للتحالف ان عقوبة المخالف هي الاعدام.
المشكلة في هذا الموضوع، ان مهارة تنسيق الاعمال العسكرية و الاتصال هي مهارة تحتاج تدريب مستمر و الا تراجعت قدرات الاطقم. و هذا الاذى يسمى في الادبيات العسكرية (الصمت اللاسلكي الانتحاري).
و جلست عشرات اللواقط الاجنبية من سواتل و طائرات و كتائب هندسية على الارض تنتظر اي اشارة عراقية غير منضبطة. و مع بدء طيران التحالف في قصف المراكز السلكية العسكرية. بدأت بعض وحدات الاشارة بارسال بعض الاشارات من حين ﻷخر. و كان هناك نقاش مستفيض بين المهندسين الامريكيين حول اذا كان من الافضل التنصت على الاشارات العراقية او التشويش عليها. حيث كانت توجد محطة تشويش شمال السعودية بقدرة 5000 واط. من المعروف ان الارسال اللاسلكي يبدأ بارسال مفتاح الشيفرة و بعدها الرسائل المشفرة. و كان الامريكيون في بعض الاحيان يشوشون فقط على اول الارسال مما يفقد الرسالة قيمتها و يجبر العراقيين على الاتصال بدون شيفرة.
هذا بالنسبة للجيش العراقي. اما الحرس الجمهوري، فلم يتم اي ارسال لا سلكي منذ سبتمبر 15! اي منذ اكثر من 4 اشهر. و كان الاتصال من خلال خطوط ارضية مؤمنة، اجتهدت المخابرات العسكرية للتحالف في تحديد مواضعها. و تم عمل مخطط لعقد و بدالات الاتصالات التي يستخدمها الحرس الجمهوري في مسرح عمليات الكويت. و قبل الهجوم البري بيوم تم تحديد انه من اصل 14 عقدة اتصالات لا سلكية و سلكية، تم قصف 10 و ترك 4 شمال الكويت على امل ان يستخدمها الحرس الجمهوري بحيث تكشف مواضع الفرق.
و نجحت الخطة. و مع اضطرار فرق الحرس الجمهوري للحركة و تغيير المواضع صارت الخطوط الارضية اقل فائدة و تم اللجوء للاشاراة اللاسلكية. و لأول مرة، تم سماع قيادة اركان فرقة توكلنا على الله ترسل اشارة للقوات بعمل ستار دفاعي. و حصل ارسال اخر من البصرة (على الارجح انه من قيادة العمليات) يحذر الفرقة من اختراق الصمت اللاسلكي، و تم الرد على الرسالة ان المعركة باتت قريبة و ان العدو بات امامهم و يراهم بما لا يجعل للصمت اللاسلكي اي فائدة.
بعد 6 ساعات، تم اخبار حمورابي ان ناقلات الدبابات و القاطرات في الطريق لنقل دروعهم و مدفعيتهم للشمال. و تم اخبار فرقة المدينة ان تدمر اي معدات لا يمكن اخلاؤها و التحرك جنوب غرب لعمل حائط صد.
هذه المعلومات وصلت لشوارتزكوف، و اتضحت الصورة امامه. قائد فرقة توكلنا يحاول بشجاعة عمل حائط صد بألويته الثلاث زائد لوائين من فرق اخرى. و لكن نظام الاتصالات و التحكم لم يكن جيدا عنده. فهو من يحدد حركة الالوية بدلا من التنسيق مع قادة الالوية. و بالتالي ستكون توكلنا كبش الفداء. تتبعها فرقة المدينة في الدفاع. بينما تنسحب حمورابي مع ما يمكن انقاذه من قوات عائدة جنوب الكويت للدفاع عن البصرة. و قد قدرت الاستخبارات انه من اصل 43 فرقة للجيش في جنوب الكويت، صارت 26 بحكم المنتهية. و تم اسر اكثر من 30 الف جندي. و بينما كان كولن باول يظن ان العمل البري قد يستغرق اسبوعين على الاكثر. صار الامر مسألة ايام.
كان على شوارتزكوف اتخاذ قرار اخر حول سير المعارك: الفرقة 1 المدرعة بقيت حتى الان كاحتياطي استراتيجي. و كان هناك اقتراحات بوضعها في خدمة فرانكس في هجومه المرتقب على الحرس الجمهوري منذ بداية العمل البري. لكن شوارتزكوف بقي مترددا لمدة يومين. (ماذا لو شن العراقيون هجومهم المضاد من جهة المصريين؟ و ماذا لو هزموهم بينما كل قواتنا في الشمال؟). لكن الان صار هذا الاحتمال بعيدا جدا. حيث وصل المصريون (اخيرا) لمعسكرات الابرق غرب الكويت و اخيرا وافق شوارتزكوف على زج القوات في المعركة مع الحرس الجمهوري. و هاتف فرانكس نورمان و بعد نقاش سريع (اراد فرانكس التوقف بسبب وجود لواء عراقي لم يتم تدميره بعد جنوب قواته لكن شواتزكوف قال له ان يكمل التقدم شرقا) اعطى شوارتزكوف فرانكس خلاصة الرسالة اللاسلكية العراقية و بالتالي ان ما سيكون امامه ليس 5 فرق من الحرس الجمهوري. بل فرقة واحدة هي توكلنا. و لملاحقة العدو المنسحب لا مفر من استمرار العمل حتى ليلا. ننقل خارطة الموقف من مساهمات سابقة لتوضيح الصورة للقاريء العزيزي بمواضع فرق الحرس الجمهوري.
المصدر:
R. Atkinson - Crusade