تم يوم 19 ديسمبر كانون الأول 1963 اعتقال قادم جديد من البرازيل من سكان أشكلون يدعى يتسحاق (زكي) كوتشوك للاشتباه بممارسته التجسس لصالح مصر.
الخلفية العامة
وتبيّن من التحقيق معه أن هذا الشخص – الذي كان اسمه الأصلي كابوراك يعقوبيان والذي انحدر من أصول أرمنية – قد أدخلته المخابرات المصرية إلى إسرائيل قبل ذلك بعاميْن بعد إعطائه هوية منتحلة لشخص يهودي.
وقد رصد جهاز الأمن العام لأول مرة آثار المدسوس في فبراير شباط 1962 عندما اعترضت الرقابة العسكرية رسالة مشبوهة أُرسلت إلى عنوان في روما كان من المعروف أن المخابرات المصرية تستخدمه. غير أن الرسالة المذكورة التي وُضعت بالإنكليزية لم تقدّم تفاصيل كثيرة كونها لم تحتوِ على اسم المُرسِل أو عنوانه. واتضح من مضمون الرسالة أن كاتبها كان قد وصل إلى البلاد يوم 24 ديسمبر كانون الأول 1961 وأنه يقيم في إحدى القرى التعاونية.
ولم تنجح المحاولات الأولى لرصد المشتبه فيه إلا أن استمرار متابعة الرقابة للقضية أثمر عن اعتراض رسائل أخرى أرسلها إلى روما وكذلك رسالة أُرسلت من العنوان المشار إليه في روما إلى شخص يدعى "زكي سليم" في قرية نيغبا التعاونية في جنوب البلاد. تم الاستدلال بفضل فحص مخبري أجري للرسالة المذكورة أنها تتضمن رسائل كُتبت بحبر سرّي باللغة العربية.
وقد تم في فبراير شباط 1962 رصد المدعو زكي (بن سليم) كوتشوك واشتُبه فيه بالمسؤولية عن تبادل الرسائل السرية التي اشتملت كما سلف عن رسائل بحبر سري. وتأكدت صحة تشخيصه في أكتوبر تشرين الأول 1962 بعد أن أفاد في رسالة أخرى بعثها إلى روما أنه انتقل للسكن في أشكلون.
وبعد رصد آثار كوتشوك علم جهاز الأمن العام بأنه انتقل من القرية التعاونية حيث تعلم في معهد لتدريس اللغة العبرية إلى شقة سكنية منحته إياها الوكالة اليهودية وأنه مقبل على تجنيده في صفوف جيش الدفاع يوم 5 نوفمبر تشرين الثاني 1962. وسمح جهاز الأمن العام بتجنيده بالتنسيق مع دائرة الأمن الميداني [الأمن الداخلي في جيش الدفاع] مع تقييد الفرص المتاحة أمام المشبوه ضمن خدمته العسكرية وحصرها في وظائف غير حساسة تسمح بإحكام إجراءات مراقبته. وبالتالي تم توظيف كوتشوك بصفة سائق في قيادة الدفاع المدني.
واستغرقت خدمة كوتشوك في جيش الدفاع لمدة عام ليس إلا حيث تم تقديم موعد تسريحه من الخدمة بناء على طلبه ليتم خلال شهر نوفمبر تشرين الثاني 1963. وعلل كوتشوك طلبه بتقدّم عمره ورغبته في السعي لتحسين أوضاعه الاقتصادية والتزوّج. وجرى اعتقاله يوم 19 ديسمبر كانون الأول 1963 في شقته بأشكلون إذ كانت من ضمن الاعتبارات التي حددت موعد الاعتقال نيته التزوج من شابة إسرائيلية لم تكن بالطبع على وعي بهويته الحقيقية.
تفاصيل التحقيق معه: تجنيده في المخابرات المصرية
لقد تبيَّن من التحقيق أن زكي (بن سليم) كوتشوك هو في الواقع أرمني يدعى كابوراك يعقوبيان من مواليد 1938 في القاهرة إذ كان والداه قد فرَّا من تركيا بعد المجزرة بحق الأرمن هناك [خلال الحرب العالمية الأولى].
وقد عمل يعقوبيان – الذي كان عديم الجنسية – مصوراً في ستوديو للتصوير في القاهرة. وقد اعتقلته الشرطة المصرية مع صديق له عام 1959 عندما كانا بمعية عدة بائعات هوى. ورفض يعقوبيان الإدلاء بشهادته ضد بائعات الهوى هؤلاء وبالتالي تمت محاكمته وفُرضت عليه عقوبة السجن لمدة عام ونصف عام بتهمة إدارة بيت للدعارة.
وقد راجت خلال فترة أدائه محكوميته وتحديداً في يناير كانون الثاني 1960 شائعات حول اهتمام السلطات المصرية بالبحث عن متحدثين بلغات أجنبية. وعرض يعقوبيان نفسه حيث قابله في سجنه ضابط للمخابرات المصرية حاول تجنيده في مهمة استخبارية في الخارج. وبحسب رواية يعقوبيان فإنه أدرك في مرحلة ما أن الحديث يدور عن إرساله في مهمة إلى إسرائيل مما دفعه إلى رفض هذه الفكرة.
وقدّم يعوقبيان طعونه في حكم السجن الصادر بحقه وتم الإفراج عنه لكنه أصبح يواجه بعد فترة قصيرة حالة من الضائقة الاقتصادية إذ إنه لقي صعوبة في البحث عن عمل بسبب سوابقه الجنائية. وعندها استأنف ضابط المخابرات المصري المذكور علاقته مع يعقوبيان وسعى لإقناعه بالانخراط في المخابرات المصرية لمدة 3 سنوات متعهداً له بتجنيسه في مصر ورعاية والدته الأرملة اقتصادياً وإعفائه من الخدمة العسكرية في مصر. وقد لبّى يعقوبيان هذه المرة العرض المطروح عليه.
وقد خضع يعقوبيان بعد تجنيده لتدريبات استخبارية تمهيداً لإرساله إلى إسرائيل وانتحل لنفسه هوية يهودية منحته إياها المخابرات المصرية ، كما أجريت له عملية ختان. وأصبح يعقوبيان بحسب هويته الجديدة يهودياً من مواليد سالونيك هاجر إلى مصر مع والدته. وزوَّدت المخابرات المصرية يعقوبيان بصورتيْن فوتوغرافيتيْن إحداهما للمقبرة اليهودية في القاهرة والثانية صورة مفتعلة لقبر والدته. كما زار يعقوبيان لغرض الاطّلاع على الديانة اليهودية وعاداتها وتقاليدها عدة مرات الكنيس الكبير في القاهرة – خاصة خلال صلوات السبت والأعياد – برفقة أحد مشغّليه. غير أن إعداده للمهمة كان سطحياً حيث ظل عملياً يجهل تماماً أمور
الدين اليهودي.
وبعد حصوله على بطاقة شخص عديم الجنسية تحمل الاسم "يتسحاق كوتشوك" مثل يعقوبيان بإيعاز من مشغّليه – في مكاتب الصليب الأحمر الدولي في القاهرة حيث طلب معاونته على الهجرة من مصر. وتمت إحالته إلى مكاتب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين حيث عُرضت عليه الهجرة إلى بلدين اختار منهما البرازيل. وأبرز يعقوبيان أمام القنصلية البرازيلية في القاهرة البطاقات المطلوبة بما فيها بطاقة من الحاخامية اليهودية في القاهرة أكدت هويته بصفة يتسحاق كوتشوك علماً بأن المخابرات المصرية هي التي زوَّدته بهذه البطاقة.
قدومه إلى إسرائيل
لقد وصل يعقوبيان إلى البرازيل يوم 26 أبريل نيسان 1961 راكباً سفينة خرجت من إيطاليا. ونشأت خلال الرحلة علاقة من الصداقة الحميمة بينه وبين أبناء عائلة إسرائيلية من سكان قرية برور حاييل التعاونية توجهت إلى البرازيل في زيارة عائلية.
وفي البرازيل كان بانتظار يعقوبيان أحد مشغّليه المصريين الذي تم إرساله إلى هناك لمتابعة العملية حيث أوعز إلى يعقوبيان بتوثيق علاقاته مع العائلة الإسرائيلية. ولم تقتضِ الحاجة أن يبذل يعقوبيان جهوداً مفرطة في التخطيط لإدخاله إلى إسرائيل إذ أقنعه رب العائلة الإسرائيلية المذكورة بالقدوم إلى البلاد ، لا بل إنه رتّب له العلاقة بالمؤسسات الصهيونية المعنية باستقدام اليهود من البرازيل. وما لبث يعقوبيان / كوتشوك حتى تسلم تأشيرة القدوم إلى البلاد ووقع على تعهد بأداء الخدمة في صفوف جيش الدفاع.
وقد أمدَّ مندوب المخابرات المصرية يعقوبيان قبيل "هجرته" إلى إسرائيل بالأموال والكاميرات ، كما أنه التقى في طريقه إلى البلاد – وتحديداً في مرفأ جنوة الإيطالي – برجل المخابرات الذي سبق وجنّده ليخضع إلى آخر إرشاد منه. وأراد المصريون في المرحلة الأولى اختبار مدى تأقلم يعقوبيان مع الواقع الإسرائيلي وصلابة غطائه. وطبقاً للخطة المصرية كان عليه البحث عن عمل في محل للتصوير في محيط تل أبيب ثم محاولة الخروج من البلاد بعد ثمانية أشهر من التأقلم إلى مصر عن طريق قبرص لدراسة احتمال الاستثمار في افتتاح محل للتصوير يتولى يعقوبيان إدارته في تل أبيب. وقد قيل ليعقوبيان إنه سيدرس خلال زيارته للوطن أساليب الاتصالات السرية اللاسلكية ثم يجري إمداده بجهاز لاسلكي في تل أبيب.
وتم تحديد ترتيبات الاتصال بين يعقوبيان ومشغّليه المصريين خلال فترة التأقلم هذه من خلال التراسل السري عبر عناوين مفتعلة في إيطاليا. وتم تدريبه على استخدام الحبر السري وتزويده به وبالمادة المطلوبة لإنتاجه. أما أهداف جمع المعلومات الاستخبارية في إسرائيل فتم الإيعاز إليه في مرحلة التأقلم بالإبلاغ عن مؤشرات على حالات استعداد أو تطورات طارئة فقط في إسرائيل.
وقد وصل المدعو كوتشوك / يعقوبيان إلى البلاد يوم 24 ديسمبر كانون الأول 1961 إلا أن سيرورة الأمور لم تطابق الخطة المصرية. إذ تم إرساله بناء على طلبه إلى معهد لتدريس العبرية في قرية تعاونية ثم تجنيده في شهر نوفمبر تشرين الثاني 1962 في صفوف جيش الدفاع كما سبق. وقد أوعز إليه مشغّلوه المصريون بالسعي لأداء خدمته في سلاح المدرعات غير أن جميع محاولات للحصول على وظيفة ذات مغزى في جيش الدفاع لم تنجح عقب معاملات جهاز الأمن العام ودائرة الأمن الميداني العسكرية. كما رُفضت لأسباب غنية عن التوضيح طلبات أخرى تقدم بها يعقوبيان لأداء الخدمة الدائمة في جيش الدفاع والعمل كمصور في قسم الاستخبارات التابع لقيادة المنطقة الوسطى (وهي وظيفة عرضها عليه حسب كلامه أحد قادته). كما قدم يعقوبيان في شهر مايو أيار 1963 طلبه بالالتحاق بدورة ضباط لكنه رسب في الامتحانات التمهيدية للدورة. وتم تسريحه من جيش الدفاع في نوفمبر تشرين الثاني 1963 كما سلف ثم جرى اعتقاله بعد ذلك بوقت قصير.
المعلومات التي حوّلها إلى المصريين
تبيّن عقب التحقيق الذي جرى مع كوتشوك / يعقوبيان أنه سبق وأرسل خلال فترة ما قبل اعتقاله إلى مشغّليه 18 رسالة بظرف و 6 رسائل جوية ورسالتيْن أخريَيْن ، كما أنه تسلم منهم 8 رسائل بظرف و 3 رسائل أخرى. وتمكن يعقوبيان من إبلاغ مشغّليه بعدة معلومات استخبارية ومنها:
- موقع معسكر سلاح المدرّعات في جولس وعدد الدبابات الموجودة فيه آنذاك.
- موقع معسكر حاسا قرب جولس.
- موقع قيادة الدفاع المدني في يافا.
- صفقة المشتريات المتوقعة لمقاتلات "ميراج" ودبابات وأنواع أخرى من الأسلحة الحديثة.
- طلعات تدريبية لطائرات "ميراج" و"ميستير" و"أورغان" في منطقة لاخيش [بجنوب البلاد]
- وجود مفاعل نووي في المنطقة الواقعة بين ديمونا وسدوم.
الخاتمة
وتم تقديم يعقوبيان إلى العدالة بتهمة ممارسة التجسس وحُكم عليه في مارس آذار 1964 بالسجن الفعلي لمدة 18 عاماً ، لكن تم الإفراج عنه بعد ذلك بعامين أي في مارس آذار 1966 ضمن صفقة لتبادل الأسرى مع مصر ، حيث تم تسليمه ومواطنيْن مصرييْن آخريْن مقابل الإفراج عن 3 مواطنين إسرائيليين اجتازوا خطأ الحدود ودخلوا قطاع غزة.
م