قبل ثلاث اعوام أصدر المحاضر والباحث العسكرى الإسرائيلى إفيرام باركاى كتابه الضخم الذى يحمل عنوان «باسم السماء: السرب الأول فى حرب يوم الغفران»، وخلال أسابيع من صدوره أصبح أعلى الكتب مبيعا فى إسرائيل، نظرا لاحتوائه على الكثير من الأسرار العسكرية التى نشرت لأول مرة عن حرب أكتوبر وحرب الاستنزاف.
نعرض ترجمة للفصل الأول من هذا الكتاب، الذى يعرض فيه المؤلف قصة أول سرب طائرات «فانتوم كورناس» (السرب201) حصلت عليها إسرائيل خلال حرب الاستنزاف عام 1969، التى كانت تعتبر فى ذلك الوقت أفضل طائرة فى العالم، وحاولت استغلالها لإجبار مصر على قبول وقف حرب الاستنزاف، وبعيدا عن محاولة المؤلف إبراز شجاعة الطيارين الإسرائيليين الذين أصابهم غرور القوة، فإنه أظهر من حيث لا يدرى بطولات رجال الدفاع الجوى المصرى الذين نجحوا فى خلال خمسة أسابيع فى إسقاط خمس طائرات فانتوم وأسر طيارين إسرائيليين، ما أجبر جولدا مائير فى النهاية على الإعلان عن وقف إطلاق النار بعد عجز الطيران الإسرائيلى عن إيجاد حل لحائط الصواريخ الذى أقامته مصر.
تمكنت قوات الدفاع الجوى المصرى، اعتبارا من 30 يونيو وخلال الأسبوع الأول من شهر يوليو عام 1970 من إسقاط العديد من الطائرات طراز، فانتوم، سكاى هوك، وأسر العديد من الطيارين الإسرائيليين وكانت هذه أول مرة تسقط فيها طائرة فانتوم، وأطلق عليه أسبوع تساقط الفانتوم وتوالت انتصارات رجال الدفاع الجوى ويعتبر يوم 30 يونيو عام 1970 هو البداية الحقيقية لاسترداد الأرض والكرامة بإقامة حائط الصواريخ الذى منع طائرات العدو من الاقتراب من سماء الجبهة فاتخذت قوات الدفاع الجوى هذا اليوم عيدا لها.
وحائط الصواريخ هو تجميع قتالى متنوع من الصواريخ والمدفعية المضادة للطائرات، فى أنساق متتالية داخل مواقع ودشم حصينة، رئيسية، تبادلية، هيكلية، قادر على صد وتدمير الطائرات المعادية فى إطار توفير الدفاع الجوى للتجميع الرئيسى للتشكيلات البرية، والأهداف الحيوية، والقواعد الجوية والمطارات غرب القناة، مع القدرة على تحقيق امتداد لمناطق التدمير لمسافة لا تقل عن، 15 كيلو مترا شرق القناة، وتم بناء هذا الحائط فى ظروف بالغة الصعوبة، وكان الصراع بين الذراع الطولية لإسرائيل المتمثلة فى قواتها الجوية وبين رجال القوات المسلحة بالتعاون مع شركات الإنشاءات المدنية فى ظل توفير الدفاع الجوى عن هذه المواقع بالمدفعية المضادة للطائرات وذلك لمنع إنشاء هذه التحصينات.
كان للسرب201 من طائرات الفانتوم كورناس الإسرائيلية، النصيب الأكبر من الخسائر فى حرب أكتوبر 1973 بين بقية أسراب الكورناس، إذ فقد السرب 15 طائرة و40% من مقاتليه، حيث لقى 8 طيارين حتفهم وسقط 15 آخرون فى الأسر.
وفيما يلى ما أورده المؤلف الإسرائيلى فى هذا الفصل:
فى يوم السبت الأول من يوليو 1967، وبعد ثلاثة أسابيع فقط من ضم شبه جزيرة سيناء، وبعد أن انتشرت قوات الجيش الإسرائيلى على طول قناة السويس، خدش زعيم مصر جمال عبدالناصر غلاف السلوفان الاحتفالى لحرب يونيو 1967، فبعد الساعة السابعة بقليل ترددت شمال قناة السويس ضربات حوافر خيل الحرب.
فى كمين محكم بدأت قوة صغيرة مصرية مزودة بالسلاح الشخصى والقذائف المضادة للدبابات فى إطلاق النار على دورية كانت فى طريقها شمالا إلى رأس العش فى منطقة المستنقعات الكبرى. وعند منتصف الليل ومع انتهاء المواجهات التى شهدت إطلاق مدافع الهاون وقذائف الدبابات، نجح المصريون فى استعادة بعض من ماء الوجه، وأعطوا مؤشرا للجيش الإسرائيلى أن أحفاد الفراعنة مصمون على بدء اليوم السابع لحرب يونيو.
فى 29 أغسطس 1967 اجتمع ممثلو ثمانى دول عربية فى الخرطوم لبحث آثار حرب يونيو على العالم العربى، بعد ثلاثة أيام ومع انتهاء المؤتمر، عاد العالم العربى للتوحد خلف القيادة المصرية بزعامة جمال عبدالناصر، وأقر المبادئ الأساسية: لا لعقد معاهدة سلام مع إسرائيل، ولا للاعتراف بها، ولا لإجراء مفاوضات معها.
عاد عبدالناصر إلى القاهرة وهو يحظى بدعم قرارات مؤتمر الخرطوم، وكوفئ بسيل لا يتوقف من شحنات السلاح السوفييتى إلى بلاده، وأعلن «أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة» وقرر زيادة نار المواجهة. بدأ ذلك بإطلاق نار متقطع على السفن الإسرائيلية فى خليج السويس، واستمر بإغراق المدمرة إيلات التى كانت تبحر قبالة بورسعيد، وعندئذ وكما كان متوقعا اندلعت سلسلة من العمليات والرد عليها بين الطائرات والوحدات الإسرائيلية الخاصة من جانب، والمدفعية المصرية من جانب آخر، ومثلما يحدث فى الحرب مرت فترات من الهدنة ثم استئناف النار وهكذا دواليك.
فى 9 مارس 1969 وعندما بدأت أشعة الشمس الأولى تزيح بقايا الظلام من رمال الصحراء بدأت حرب الاستنزاف، وكان الرئيس المصرى قد أعلن عنها قبل ليلة واحدة فقط، وقال إنه مستعد لأن يضحى فى سبيلها بمليون جندى، ودوت أصوات القنابل وهدير المدافع حتى غطت السماء.
قررت قيادة الأركان الإسرائيلية برئاسة الجنرال حاييم بارليف الرد للانتقام من المصريين فبدأت العملية «بوكسر» بهجوم عنيف من الجو أصاب بعض بطاريات المدفعية ومواقع الدبابات المصرية.
فى مطلع شهر يوليو 1969 أصدرت قيادة سلاح الجو أمرا تنظيميا صنف تحت «سرى وعاجل»، ويقضى بتكوين أول سرب فانتوم فى سلاح الجو الإسرائيلى فى قاعدة حاتسور ـ تحت رقم 201، على أن يكون موعد الانتظام فى 15 يوليو، والغاية من تكوين السرب هو تشغيل الطائرات بغرض الدفاع الجوى، والهجوم على أهداف برية وبحرية.
طالبت الصحف الإسرائيلية فى بياناتها المواطنين بأن يوجههوا انتباههم إلى طائرات الفانتوم. بعد لحظات قليلة ستحط فى إسرائيل أغلى طائرة فى العالم، وتغطى كل الثغرات الأمنية فى إسرائيل.
فى 5 سبتمبر 1969، وقبل لحظات من غروب شمس يوم الجمعة، وأمام حشد من الجماهير المتحمسة هبطت أول أربع طائرات فانتوم فى قاعدة حاتسور الجوية. وعلى الفور أزيل منها شعار القوات الجوية الأمريكية، ووضع مكانها شعار القوات الجوية الإسرائيلية.
قبل ذلك بثلاثة أسابيع مثلت مجموعة التأهيل فى السرب 201 التى عادت من الولايات المتحدة والمكونة من الرائد شموئيل حيتس قائد السرب، ويورام أجمون نائب أول قائد السرب، وإيتسيك فير نائب ثانى قائد السرب، ومناحيم عينى قائد طائرة، ويائير دافيد نائب قائد الطائرة. وانضم إليهم خمسة آخرون من السرب 69 الذين كانوا فى الولايات المتحدة أيضا.
كانت البداية محبطة، كان شكل طائرة الفانتوم قبيحا. وتساءل قدامى الطيارين أين هى من نظيرتها الفرنسية الميراج. وأخذوا يتحسرون على فقدان البساطة فى الطائرة الفرنسية. أين اختفت كابينة الطيار الموجودة فى الميراج؟ وجدوا أنفسهم يجلسون فى قاع بئر عميقة مع مجال رؤية يذكر بمنظار رؤية بعد إطلاق النار. وكانت الفانتوم تضم كثيرا من الساعات والأزرار.
حلق الطيارون وبدأوا التدريب، وسرعان ما عاودهم الحنين إلى طائرة الميراج. هذا المسخ الأمريكى «الفانتوم» هدر وارتج، وأعطى إيحاء بأنه مكبس ضخم يدفع جزيئات جوية متمنعة، ويخرج من محركيه شريط دخان أسود، يمكن تحديده من بعيد. فما هو الحل لهذه الصفقة الغبية؟
اكتشفوا بعد ذلك أنه بفضل حسابات الملاحة والقصف الأفضل على الساحة، فإن طائرات الفانتوم تسطيع فعل كل شىء: قصف جو جو أو جو أرض، ليلا ونهارا بأسرع ما يمكن وبأعلى ارتفاع ممكن وبأكبر قدر من التسليح. فى تلك اللحظة بدأوا يحبون الفانتوم ويقدرونها.
فى بداية شهر نوفمبر خرج قائدا سرب الفانتوم فى مهمة استعراض للقوة، اجتازا قناة السويس على ارتفاع منخفض، وعبرا المناظر الصحرواية إلى الوادى الأخضر والقوارب الشراعية البيضاء فى نهر النيل، حتى وصلا إلى ضواحى القاهرة، وها هى أهرامات الجيزة أسفل منهما.
وكما فى الصور تماما رأى ملاح الكابينة الخلفية يائير دافيد سهما يدفع دواسة المخنق إلى اليسار والأمام فعرف أن الحوارق الخلفية بدأت فى العمل، وشعر كيف تزيد الطائرة من سرعتها حتى وصلت إلى سرعة أعلى من الصوت، وفهم أنه فى هذه اللحظة وخارج قمرة الطيار المعزولة عن الوجود شعر سكان القاهرة بدوى اختراق حاجز الصوت، وتحطمت آلاف النوافذ. عندئذ حدث يائير نفسه بأن هذا التدريب الصغير ربما يسهم فى إسكات المصريين.
وخلال أسبوع واحد أثبتت الفانتوم أنها قادرة على أن تكون صاحب اليد العليا فى أجواء القاهرة، وتعرف كيف تسقط طائرات العدو مثل الميراج عند الحاجة يجب أن نفكر خارج الصندوق. هكذا فكر قادة إسرائيل، أن الطريقة الوحيدة التى ستدفع الشعب المصرى إلى التدخل الفعال وربما تؤدى إلى انتهاء حرب الاستنزاف هى شن الحرب داخل بيته المحصن.
وبالفعل فى مطلع عام 1970 كانت القاهرة مدينة مظلمة، تحوطها أكياس الرمال، صرخ عبدالناصر فى السوفييت طالبا نجدتهم. فى يوم الثلاثاء 30 يونيو 1970 أرسلت طائرتا ميراج فى مهمة اعتيادية للتصوير الجوى على بعد 25 كم تقريبا غربى القناة ففوجئتا بإطلاق الصواريخ من منطقة لم يكن متوقعا أن تنطلق منها، فأبلغا بعد عودتهما. بعد ساعة من هبوط الطائرات اكتشف رجال فك الشفرات واقعا جديدا على جبهة القتال المستقبلية. اكتشفوا فى الصحراء الشرقية المصرية «حائطا حديديا» على طول الطريق من القناة وحتى القاهرة، شبكة كثيفة من عشر بطاريات صواريخ تغطى إحداها الأخرى، وبينها صواريخ مضادة للطائرات من طراز «شيلكا زى سى يو 23» الموجهة بالرادار والمعروفة بقدرتها على اصطياد الطائرات على ارتفاع منخفض.
قررت قيادة سلاح الجو الهجوم على بطاريات الصواريخ فى نفس اليوم. وقبل حلول الظلام أرسلت ثمانى طائرات فانتوم من السربين للهجوم على المنظومة الدفاعية الجديدة. وفى طريق العودة وبعد تدمير خمس بطاريات وإصابة بطاريتين وإذا بإحدى الطائرات تحلق للحظة واحدة فأصيبت وسقطت. وبينما كانت الطائرات فى طريق العودة أرسلت طائرتان من السرب 201 للهجوم على بطارية أخرى.
كان نائب قائد السرب إيتسيك فير يشرح درسا فى دورة تأهيل، فترك الدرس، وكتب على السبورة «لا تمسحوا» ووعد المتدربين بالعودة بسرعة، وانطلق إلى الطائرة. وبعد مرور ساعة صدم السرب 201 بخبر سقوط أول طائرة فانتوم، ووقوع إيتسيك فير فى الأسر.
استدعى قائد سلاح الجو الجنرال موتى هود قائدى سربى الفانتوم فى اجتماع لبحث كيفية مواجهة الصواريخ المصرية. وفجأة ظهر بصيص نور. قال المقدم يوسكا ناؤور «الأمريكيون لديهم الحل.. كان يوسكا قد تصادق مع الكولونيل الأمريكى اليهودى ديفيد بروج رئيس شعبة الحرب الإلكترونية فى سلاح الجو الأمريكى.. همس بروج فى أذن يوسكا لدينا هيكل إلكترونى يمكن تركيبه فى الطائرة. وواصل بروج حديثه قائلا إنه صندوق ذكى بشكل استثنائى سينقذ اليهود من محرقة ثانية».
فى 5 يوليو وبينما كان يوسكا يبحث عن كيفية إحضار الصندوق إلى إسرائيل، أسقطت طائرة فانتوم أخرى، وبدأت أضواء التحذير تلمع داخل هيئة أركان القوات الجوية وتتحول إلى اللون الأحمر.
وخلال أسبوع اتضح أن طائرة الفانتوم أكثر طائرة مخيفة فى الشرق الأوسط لم تعد ترهب المصريين، كما اتضح للمعنيين أنه بفضل خبراء ومشغلين سوفييت ارتفعت بالقرب من خط القناة «شبكة حديدية» لا يمكن اختراقها، وستمكن المصريين من المبادرة بعمليات برية جدية فى سيناء على مدى الدفاع الصاروخى.
أبرق المقدم يوسكا ناؤور إلى القيادة أنه حصل على الصندوق المدهش، وتم استدعاء الكولونيل الأمريكى ديفيد بروج من أمريكا من أجل تدريب الطيارين على استخدام الصندوق الإلكترونى.
فى الساعة السادسة صباح يوم السبت 18 يوليو 1970 وفى الساعة المخطط لها، تجمعت فى فى وسط سيناء 16 طائرة فانتوم. وقبل الوصول إلى القناة بمسافة قصيرة زادت من سرعتها، وفتحت الحوارق الخلفية، وقفزت على ارتفاع 18 ألف قدم. صرخ رونى حولداى مساعد الرائد حيتس انتبه انتبه، وذلك بعد أن رأى صاروخا يطير مباشرة فى اتجاه الفانتوم. لكن صرخته جاءت متأخرة جدا.
سأل حولداى قائده هل أصبت؟ وفى الوقت نفسه كان يتابع لهبا باللونين الأحمر والأسود غطى على زرقة السماء. ساد صمت أعقبه خروج خيط من الدخان الأبيض من طائرة حيتس التى هوت بقوة وغاصت فى الأرض محدثة انفجارا ضخما.
وبينما كان المستحمون فى شواطئ تل أبيب يفتحون مظلات البحر لتقيهم من أشعة شمس الصيف، هبطت ثلاث طائرات فانتوم فى قاعدة حاتسور، وتركوا خلفهم طائرة محطمة جنوب غرب الإسماعيلية، وسقط مناحيم عينى كبير ملاحى السرب فى الأسر، وقتل قائد الطائرة الرائد شموليك حيتس.وفى يوم السبت نفسه احتفل المقدم ران باقار بعيد ميلاده الرابع والثلاثين. كان باقار صاحب خبرة كبيرة بالمعارك الجوية وقائدا مبجلا يقود سرب طائرات الميراج ويدير مدرسة الطيران.
وبعد أسبوع كان يعتزم الخروج فى نزهة مع عائلته إلى إنجلترا بعيدا عن أعين العاصفة. لكن مكتب أركان سلاح الجو أرسل فى استدعائه لقيادة سرب الفانتوم بعد مقتل حيتس. وفى اليوم التالى مثل باقار فى السرية.
فى الثالث من أغسطس 1970 وبعد أسبوعين من صدمة سقوط طائرة حيتس أرسلت طائرتا فانتوم من السرب لتحديد مواقع كمائن الصواريخ التى اكتشفت على خط القناة. ومرة أخرى انتصر الصاروخ على الطائرة، وسقطت خامس طائرة فانتوم خلال خمسة أسابيع، وسقط يجآل شوحاط فى الأسر، وقتل موشيه جولدفيسر.
فى يوم السبت 7 أغسطس وفى الساعة الثامنة إلا بضع دقائق مساء وقفت رئيسة وزراء إسرائيل جولدا مائير أمام عدسات التليفزيون، وتحدثت بتأثر تحركها رسائل قائد سلاح الجو الجنرال موتى هود التى يقول فيها إن سلاح الجو لا يملك حلا فوريا لمشكلة الصواريخ. وأعلنت جولدا عن اتفاق وقف إطلاق النار مع مصر والذى يدخل حيز التنفيذ عند منتصف الليل.
مصدر