(1)
لم يشهد التاريخ احتلالاً بمثل احتلال إسرائيل لفلسطين فى وحشيته ومحاولاته المستمرة لإزالة هوية الشعب المالك لأرضه، ما دفع الوطنيين الفلسطينيين إلى ابتداع وسائلهم فى المقاومة، فسمعنا عن عمليات تجرى لأول مرة مثل خطف الطائرات المدنية، وأيضا قتل الإسرائيليين الرياضيين فى داخل القرية الأوليمبية التى تقيمها الدولة التى تستضيف الدورة لإقامة الرياضيين بها خلال مشاركاتهم فى الدورة. وجاءت فكرة هذه العملية عندما رفض منظمو الدورة منح الرياضيين الفلسطينيين حق الاشتراك فى منافسات الدورة.
وإذا كانت دورة ريو دى جانيرو فى البرازيل قد انتهت على خير ودون أى عملية واحدة رغم ظروف الإرهاب التى يعيشها العالم هذه الأيام، فربما يرجع ذلك إلى ما حدث فى الدورة الأوليمبية التى استضافتها مدينة ميونيخ عام 1972 وما فرضته الأحداث التى شهدتها من التزام الدول المنظمة، منذ تلك الدورة، بإجراءات مشددة تضمن سلامة الرياضيين.
كان آخر ما يتوقعه العالم أن تتحول القرية الأوليمبية التى يسكنها الرياضيون المشتركون فى دورة ميونيخ إلى مذبحة، وأن ينجح ثمانية من الفدائيين الفلسطينيين فى التسلل إلى مقر البعثة الإسرائيلية وأسر11 رياضيا قتلوهم جميعا، ولكن بعد مشاهد بالغة الإثارة.
كان كل شىء يجرى فى الدورة، التى بدأت وقائعها يوم 26 أغسطس 1972، على أحسن ما يكون، وقد اقتربت الدورة مساء الرابع من سبتمبر من نهايتها، إذ لم يعد متبقيا سوى خمسة أيام جرت فيها، كما هى العادة فى الدورات، أكثر المسابقات إثارة وهى مسابقات ألعاب القوى التى يحدث فيها التنافس بصورة فردية فى مسابقات العدو والوثب العالى ورمى القرص والزانة والوثب الطويل. لكن أحدا لم يتصور أنه فى مساء هذه الليلة سوف يكون هناك سباق آخر أكثر إثارة من كل السباقات لأنه كان سباقا بين الحياة والموت.
قرية خاصة للإسرائيليين
كانت هذه أول مرة يقيم فيها الألمان دورة أوليمبية منذ عام 1936 التى أقيمت فى برلين وحضرها زعيم ألمانيا أدولف هتلر، وشارك فيها عدد من أبطال رفع الأثقال المصريين سيد نصير وخضر التونى، وقد أبهر الرباعون المصريون الزعيم الألمانى لدرجة أنه ترك مكانه لتحيتهم. وبسبب الحرب العالمية التى أشعلها هتلر ألغيت دورتا 1940 و1944 ثم استؤنفت فى عام 1948، وبالطبع كان صعبا أن تدعو ألمانيا، وهى التى جرّت العالم إلى الويلات التى عاشها، إلى استضافة الدورة بسهولة، فقد كان عليها أن تثبت أنها طوت صفحة قديمة وبدأت صفحة أخرى، وهو ما حدث عام 1972.
اشتركت إسرائيل فى الدورة، وكالعادة أقيمت قرية أوليمبية لإقامة الرياضيين المشاركين من كل العالم، خصص فيها مبنى فى مكان بعيد للفرق الإسرائيلية حتى يكون تحت رقابة أمنية كافية مراعاة للظروف التى كانت قائمة فى ذلك الوقت.
وفى مساء الإثنين 4 سبتمبر، أمضى اللاعبون الإسرائيليون السهرة فى إحدى دور السينما، حيث شاهدوا فيلما ألفه روسى يهودى اسمه «شولوم البشيم» عام 1894، كان يحكى قصة أحد الموسيقيين والمعاناة التى يعانيها فى هوايته. وعقب نهاية الفيلم عاد الجميع إلى المبنى الذى يقيمون فيه والذى يضم ثلاث شقق موزعة على طابقين.
أيلول الأسود
كان الهدوء يلف القرية التى استغرق معظم سكانها فى النوم عندما تسلل إليها فى حوالى الرابعة والنصف صباحا ثمانية أفراد يرتدون بدلات التدريب الرياضية، وبما يشير إلى أنهم من أفراد إحدى الفرق التى تأخرت فى السهر خارج القرية. وبخطوات واثقة تقدم الثمانية إلى مبنى الفرق الإسرائيلية وخلف ظهر كل منهم حقيبة من النوع الذى يحمله الرياضيون فى تنقلاتهم داخل القرى ويضعون فيها أدواتهم الرياضية، إلا أنها كانت بالنسبة لزوار الفجر تخفى عددا من المسدسات والبنادق والقنابل اليدوية والأقنعة التى ما إن فتح أحد أفراد المجموعة باب البعثة الإسرائيلية بمفتاح مصطنع حتى قاموا فور دخولهم بإخراج محتويات حقائبهم، بادئين بارتداء الأقنعة التى أخفت وجوههم حاملين بنادقهم، ومنها إلى شقق الإسرائيليين التى فتحوا منها شقتين بمفاتيح مصطنعة.
كان فى الشقة أبطال المصارعة الإسرائيليون الذين رغم مفاجأتهم حاولوا المقاومة إلا أن المجموعة الوافدة ببنادقها وعنفها استطاعت السيطرة عليهم بعد أن تمكن ثلاثة من الهرب قفزا من البلكونة.
وفى دقائق كان الخاطفون قد أعلنوا عن أنفسهم وأنهم مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين من جماعة «أيلول الأسود»، وهو الاسم الذى يشير إلى العمليات التى تعرض لها الفلسطينيون فى الأردن عام 1969، عندما وجد الملك حسين أن شوكة الفلسطينيين فى الأردن قد تجاوزت وأقاموا دولة داخل الدولة فشنّ عليهم حملة كبيرة.
كان يقود الجماعة فى عملية ميونيخ لطفى عفيفى، وله شقيقان محبوسان فى سجون إسرائيل، ومعه يوسف نضال، واسمه الحركى (صلاح) وأحمد طه (أبوهالة) ومحمد صفدى (بدران) وعدنان الجشى (دنياوى) وابن عمه جمال الجشى (سمير). وكان عفيفى ونضال قد أمضيا أسبوعين منذ افتتاح الدورة يتجولان فى القرية ويخططان، وهما اللذان تمكنا من الوصول إلى المفاتيح المصطنعة لشقق الإسرائيليين.
م
يتبع .....