محنة «في الشعر الجاهلي».. طه حسين في مواجهة «حراس الماضي»
اعتاد طه حسين خوض المعارك الفكرية منذ بدايات وجوده في الحياة الثقافية، وبدأها مبكرا بانتقاد المناهج الأزهرية ليرحل من أروقة الأزهر حاملا رسالته للماجستير عن أبي العلاء المعري إلى الجامعة المصرية الوليدة آنذاك، وتبدو من تلك الواقعة بدايات ما يمكن تسميته بـ«العداء» بين طه حسين وتلاميذه من بعده من جهة، ورجال الأزهر من جهة أخرى، وهي خصومة فكرية تتعلق بمناهج التفكير والصراع الأزلي الممتد بين «النقل والعقل».
خاض طه حسين، صراعًا مريرًا مع «حراس الماضي» عندما أصدر كتابه «في الشعر الجاهلي » الصادر في طبعته الأولى 1926، بعد عام واحد فقط من «قنبلة فكرية» أخرى من العيار الثقيل، متمثلة في كتاب الشيخ على عبدالرازق «الإسلام وأصول الحكم»، وقبلها انهيار الخلافة الإسلامية في تركيا على يد كمال أتاتورك، ما دفع العديد من الكُتّاب المحافظين إلى الاحتشاد ضد الرجل، وأبرز من ردوا على عميد الأدب العربي، مصطفى صادق الرافعي، محمود محمد شاكر، محمد فريد وجدي، ومحمد الخضر حسين، شيخ الأزهر فيما بعد.
ورغم تمرس طه حسين على الاشتباكات الفكرية، إلا أن محنة «في الشعر الجاهلي» تبدو الأشد في مسيرته الزاخرة بالعطاء والانتصار للعقل، وعادة ما تواجه كل الأطروحات الجديدة اتهامات شتى، تبدأ بالسطو على أفكار آخرين ولا تنتهي بالتكفير والطعن في الدين، ثم تنتقل المعركة من صفحات الجرائد والكتب إلى ساحات القضاء، وكان أن انهالت البلاغات ضد طه حسين، الأول من طالب في الأزهر، ثم آخر من محمد أبوالفضل الجيزاوي، شيخ الأزهر نفسه!، ثم ثالث من عضو بمجلس النواب، والبلاغات الثلاث تتهم عميد الأدب العربي بالطعن في الدين الإسلامي.
بحث رئيس النيابة المكلف بالتحقيق في البلاغات، محمد نور، القضية ليس قانونيًا فقط، بل نقديا أيضا، وكتب مذكرة شديدة الأهمية في الانتصار لحق البحث وإقرار حرية التفكير والتعبير، فضلا عن رؤاه فيما اعتقد أنه مسالب في الكتاب، وكان قرار النيابة في قضية كتاب «في الشعر الجاهلي»، برهان على استنارة العقل القضائي المصري في بدايات القرن الماضي مقارنة بما يحدث اليوم في قضايا مشابهة.
وتزخز مذكرة «نور» بشهادات عديدة انتصارًا للحرية والعقل، منها «إن للمؤلف فضلا لا ينكر في سلوكه طريقًا جديدًا للبحث حذا فيه حذو الغربيين»، و«إن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين، بل إن العبارات الماسة بالدين إنما أوردها في سبيل البحث العلمي»، و«العبارات التي يقول المبلغون إن فيها طعنا على الدين إنما جاءت في سياق موضوعات متعلقة بالغرض الذي ألف من أجله، فلأجل الفصل في هذه الشكوى لا يجوز انتزاعها من موضوعها والنظر إليها منفصلة، إنما الواجب توصلا إلى تقديرها تقديرا صحيحا بحثها في موضوعها ومناقشتها في السياق الذي وردت فيه وبذلك يمكن الوقوف على قصد المؤلف منها وتقدير مسؤوليته تقديرًا صحيحًا».
لم تنته محنة «في الشعر الجاهلي» عند هذا الحد، حتى بعد أن عدل طه حسين في الكتاب ونشره من جديد بعنوان «في الأدب الجاهلي»، فبعد نحو 6 سنوات أطلت رؤوس «سدنة التخلف» من جديد وعادت القضية للواجهة على يد السلطة التنفيذية هذه المرة، وبالتحديد في 3 مارس 1932، أصدر وزير المعارف، حلمي عيسى، قرارًا بنقل طه حسين من الجامعة إلى وزارة المعارف، وكان الموقف الشجاع من رئيس الجامعة حينها، أحمد لطفي السيد، بتقديم استقالته احتجاجا على عدم استطلاع رأي مجلسها في القرار.
واستمر التنكيل بطه حسين، حيث فصل من وزارة المعارف، بقرار من مجلس الوزراء بالاتفاق مع البرلمان في 20 مارس 1932.
ويفسر طه حسين، استدعاء القضية بعد 6 سنوات كاملة، بموقفه الرافض منح بعض الأعيان الدكتوراه الفخرية من كلية الآداب بصفته عميدها آنذاك، ويقول عميد الأدب العربي للكاتب الصحفي الراحل محمود عوض في كتابه «أفكار ضد الرصاص» عن سبب إثارة القضية من جديد: «في هذه السنة ظهرت أسباب جديدة إلى جانب السبب القديم القائم».
ويواصل طه حسين لـ«عوض»: «طلب وزير المعارف العمومية حينذاك: حلمي عيسى. لقد طلب حلمي عيسى أن أزوره في مكتبه. ذهبت ومعي عبدالوهاب عزام وفي أثناء الزيارة قال: باعتبارك عميداً لكلية الآداب، نريد منك أن تقدم اقتراحاً للجامعة بمنح الدكتوراه الفخرية لعدد من كبار الأعيان، يحيى إبراهيم وعلي ماهر وعبدالحميد بدوي وعبدالعزيز فهمي وآخرين».
رفض طه حسين مقترح الوزير، لأن «عميد كلية الآداب ليس عمدة. تصدر إليه الأوامر من وزير»، ولأنه «لا تمنح الدكتوراه الفخرية لأحد لمجرد أنه من الأعيان»، حسبما قال في «أفكار ضد الرصاص».
والمفارقة أنه بعد إقالة طه حسين عرض الأمر بالفعل على مجلس الكلية، ورفض المجلس منح الدكتوراه للأعيان، ما يثبت رسوخ المنهج العلمي وغياب المحسوبية في الجامعة المصرية في تلك السنوات.
والشاهد من محنة طه حسين أن السلطتين التنفيذية والدينية إنما جُبلا على التغول على أنصار العقل، فيما تبقى السلطة القضائية «المستنيرة» ملاذ أخير للمثقفين وجدار مانع لكل سهام التكفير والتخوين المصوبة دوما للتنويريين في كل زمان، وأيضا دليل تاريخي على أن الحداثة منتصرة لا محالة على كل ما عداها من أفكار الماضي، وأن المستقبل كفيل بإثبات الصواب بما يبقى في وجدان الناس من أفكار. مثلما بقى تراث طه حسين.
http://www.almasryalyoum.com/news/details/1031244