في ظل الحديث في وسائل الإعلام الإسرائيلية عن قضية الغواصات، واحتمالات تورط مسؤولين إسرائيليين كبار في قضايا رشاوى وتبييض أموال، وإلى جانب صعوبة توقع كيف ستنتهي قضية الغواصات التي تطلب إسرائيل من ألمانيا تزويدها بها، وما هي حصة محامي رئيس الحكومة، دافيد شمرون، في القضية، تعود إلى الأذهان قضية مماثلة حصلت في اليونان.
ومع انهيار الاقتصاد اليوناني في العام 2010، فإن هناك من ينسب لليونان الإسراف في التبذير في مجال شراء العتاد العسكري عامة، وإلى صفقات الغواصات مع ألمانيا بوجه خاص، دون أن تكون اليونان بحاجة فعلية لها، إلى جانب معارضة مسؤولين يونانيين لهذه الصفقات.
يذكر أن وزير الدفاع اليوناني السابق، أكيس تسوهاتسوبولوس، يمضي عقوبة 20 عاما من السجن الفعلي منذ العام 2013، وذلك لتورطه في صفقات رشوة وتبييض أموال حصل عليها مقابل الدفع بصفقة الغواصات.
وبحسب تقرير نشرته صحيفة 'هآرتس'، اليوم الخميس، فإنه في الثالث والعشرين من حزيران/يونيو الماضي، وبعد سنة ونصف من الانتظار، حصل حوضا بناء السفن المجاوران لأثينا على غواصتين تتحركان بالديزل والكهرباء من طراز 214، واللتين تم بناؤهما من قبل شركة 'HDW' الألمانية. وبذلك انتهت قضية معقدة بدأت في العام 2000 مع توقيع الحكومة اليونانية على الصفقة مع الشركة المشار إليها، والتابعة لشركة 'تيسنكروب'، وهي نفس الشركة التي عمل مع ممثلها في إسرائيل، ميكي غنور، المحامي دافيد شمرون، والذي يفترض أن يحصل على مبلغ 40 مليون يورو مقابل عمله في إسرائيل من الصفقة.
وبحسب التقرير فإن اليونان، التي يصل عدد سكانها إلى 11 مليون نسمة، كانت تعتبر حتى الأزمة الاقتصادية عام 2010، أكبر دولة مستوردة للأسلحة التقليدية في أوروبا، والخامسة في هذا المجال في العالم بعد الصين والهند والإمارات وكوريا الجنوبية. وكانت نسبة المصاريف العسكرية للناتج القومي الخام الأعلى في الاتحاد الأوروبي، ووصلت إلى 4%.
وكان التسلح اليوناني يعتمد بداية على الولايات المتحدة منذ بدايات الحرب الباردة. ومع الانسحاب التدريجي للولايات المتحدة عن الدعم الواسع للجيش اليوناني، أصبحت مصاريف الجيش على عاتق اليونانيين، مع الشعور اليوناني الدائم والمتصاعد بالحاجة إلى التسلح في مواجهة جارتها تركيا. وفي العام 1996 كادت تندلع الحرب بين الطرفين. وفي العام نفسه قررت اليونان البدء بتحديث منشآت الجيش بتكلفة قدرت بنحو 17 مليار دولار، مع العلم أن الدولتين عضوان في حلف شمال الأطلسي، ولا يوجد ما يبرر هذا الخوف اليوناني.
وفي هذا الإطار بدأ الجيش اليوناني، عام 1998، بإجراء مفاوضات لشراء غواصات حديثة، واختار في النهاية ثلاث غواصات من طراز 214، والتي تم تطويرها من قبل الشركة الألمانية 'HDW'. وتضمنت الصفقة إمكانية شراء غواصة رابعة. وكان من المفترض أن يتم بناء الغواصة الأولى في المصنع الألماني في كيل، بينما يتم بناء الغواصات الباقية في حوض 'سكارامنغس' اليوناني. وكانت قيمة الصفقة الأولى التي وقعت في العام 2000 تصل إلى 1.8 مليار يورو. وفي العام 2002 تقرر شراء غواصة رابعة سيتم بناؤها في الحوض اليوناني أيضا، وذلك بهدف توفير آلاف أماكن العمل في حوض بناء السفن. وفي العام 2002 وسعت اليونان الاتفاق، بحيث يشمل تحديث 3 غواصات من الجيل القديم من طراز 209، وذلك في الحوض اليوناني أيضا، وباستخدام مواد وتقنيات ألمانية. ووصلت الزيادة في التكلفة إلى 985 مليون يورو. وأصبحت التكلفة الشاملة للصفقة 2.84 مليار يورو. وفي العام نفسه، 2002، قامت شركة 'HDW' وشركة 'بروستال' الألمانية بشراء حوض بناء السفن في سكارامنغس. ليتنبين لاحقا، بعد 5 سنوات، أن شركة 'بوستال' دفعت رشاوى لمسؤولين كبار في الحكومة اليونانية لضمان تنفيذ صفقة الغواصات.
يذكر أن ألمانيا بدأت ببيع الغواصات لليونان في ستينيات القرن الماضي، حيث وقعت اليونان عام 1967 على صفقة لشراء 4 غواصات من طراز '1100/209'. وفي العام 1975 انضاف إليها 4 غواصات من طراز '1200/209'. وجميع هذه الغواصات الثمانية تم بناؤها في حوض شركة 'HDW' في ميناء كيل في ألمانيا.
في العالم 2004 وصل ممثلو الأسطول اليوناني إلى ألمانيا لفحص الغواصة الأولى من طراز 214 'بابانيكوليس'، ولكنهم ادعوا أنه لدى إجراء فحص عملاني للغواصة تبين أنه يوجد فيها أعطال فنية، وأنه في ظروف بحرية معينة تميل الغواصة إلى جهة اليمين أكثر من اللازم. ورفضت الحكومة اليونانية تسلم الغواصة، كما رفضت دفع باقي الحساب عنها. وحتى بعد تصليح الخلل، أوقفت الحكومة اليونانية الجديدة، التي شكلها الحزب الديمقراطي الجديد، وليس الحزب الاشتراكي الذي وقع الصفقة. وفي العام 2009 ألغت شركة 'تيسنكروب' الصفقة، والتي بموجبها سيتم بناء 3 غواصات من طراز 214 وتحديث غواصتين قديمتين في حوض السفن في سكارامنغس، الأمر الذي هدد بوقف عمل أحواض بناء السفن اليونانية.
في العام 2010 اضطرت اليونان للعودة إلى طاولة المفاوضات مع ألمانيا والتوصل إلى تسوية جديدة، بموجبها تحصل اليونان على 4 غواصات من طراز 214، وتشتري غواصتين حديثتين من نفس الطراز بدلا من تحديث الغواصات القديمة.
يشار إلى أن شركة 'ADM' (شركة 'مار أبو ظبي')، التي كانت تملك في حينه 75% من أسهم شركة 'تيسنكروب' لعبت دورا في إنجاز الصفقة، وبذلك ضمنت أبو ظبي استمرار عمل حوض بناء السفن مقابل شراء غواصتين، في حين تعهدت ألمانيا بإنجاز الصفقة.
وفي آذار/ مارس من العام 2010 قال عضو البرلمان أفنغالوس فانيزلوس، والذي أشغل لاحقا منصب نائب رئيس الحكومة ووزير المالية، إن الصفقة كانت محاولة لفك عقدة مستعصية ورثتها الحكومة الجديدة برئاسة الحزب الاشتراكي التي انتخبت في تشرين أول/أكتوبر 2009، بداعي إنقاذ 1200 مكان عمل في حوض بناء السفن. وبذلك دفعت اليونان 2 مليار يورو لألمانيا دون أن تتسلم بعد أية غواصة.
في أيار/مايو من العام 2010، وصل رئيس الحكومة التركية في حينه رجب طيب إردوغان، في زيارة تاريخية إلى اليونان. وفي حينه قال نائب رئيس الحكومة اليونانية، ثيودور فنغالوس إنه يشعر أن 'بلاده متلزمة بشراء أسلحة ليست بحاجة لها'. في المقابل، احتجت تركيا بالقول إن الدول التي تحاول أن تساعد اليونان في مواجهة ديونها الضخمة، مثل ألمانيا، تقترح بيعها عتادا عسكريا، وتشجعها على شراء ما ليست بحاجة له.
في نهاية نيسان/ أبريل من العام 2010 استقال نائب الأدميرال ستليوس بانكوس من منصبه الذي أشغله مدة 30 عاما، احتجاجا على قرار وزارة الدفاع اليونانية شراء الغواصات، إضافة إلى قرارات أخرى كان يعتقد أنها ناجمة عن دوافع سياسية، كما أشار، في حينه، إلى أن الوضع الاقتصادي المتدهور لا يجعل الأسطول اليوناني قادرا على صيانة الغواصات الجديدة، لكونه يجد صعوبة في صيانة الغواصات المتوفرة لديه.
وفي أيار/مايو من العام 2010، بدأت 'وحدة الجرائم الاقتصادية' في اليونان التحقيق في صفقات الأسلحة في العقد السابق على نطاق وصل إلى نحو 16 مليار يورو، وذلك لتحديد ما إذا كانت اليونان قد دفعت أسعارا مبالغا بها أو قامت بشراء عتاد ليست بحاجة له.
وجاءت هذه التحقيقات بعد تحقيقات المدعي العام في ميونيخ، والذي وجد أن مسؤولين في شركة 'بروستال' دفعوا ملايين اليوروهات لسياسيين يونانيين من أجل الدفع بصفقة الغواصات الأصلية من العام 2000.
يشار في هذا السياق إلى أن ألمانيا، مثل إسرائيل، من بين الدول الموقعة على الميثاق لمنع الرشوة في الدول الأجنبية، بحكم عضويتها في دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD)، والذي يلزم بمعاقبة المصدرين الذين يدفعون الرشاوى في دول أجنبية من أجل مصالحهم فيها، حتى لو كان ذلك عن طريق وسطاء.
كما تجدر الإشارة إلى أن إسرائيل لا تتشدد في تطبيق هذا الميثاق رغم أنها وقعت عليه عام 2009، ودليل ذلك ما صرح به مراقب الحسابات يوسي غينوسار، أحد مؤسسي مجال الرقابة الداخلية في إسرائيل، في مقابلة لصحيفة 'غلوبس' في آذار/مارس من العام 2015، حيث أشار إلى أن التقرير بشأن تطبيق الميثاق لمنع الرشاوى في دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، والذي نشر في تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2014، قد تم فيه تدريج إسرائيل في المكان الأخير في منع الرشاوى في الصفقات الدولية من بين الدول الأعضاء البالغ عددها 39 دولة.
إلى ذلك، قدم مدير شركة 'بروستال' استقالته في أعقاب عملية تقصي الحقائق التي قام بها المدعي العام في ميونيخ. وتبين أن الشركة استخدمت عقودا استشارية مفبركة، ودفعت رشاوى لمسؤولين ومتخذي قرار في اليونان.
وفي أعقاب التحقيق وقضايا الرشاوى التي تم الكشف عنها، تراجعت شركة 'تيسنكروب' في أيار/مايو 2011 عن الاتفاق بشأن الغواصتين الأخيرتين، الخامسة والسادسة. وفي العام 2014 قدمت الحكومة اليونانية دعوى تعويضات ضد الشركة بقيمة 7 مليار يورو.
وفي السياق ذاته، أدى التحقيق الذي أجري في اليونان إلى اعتقال أكيس تسوهاتسوبولوس، الذي أشغل منصب وزير الدفاع في السنوات 1996 حتى 2001 عن الحزب الاشتراكي. وقد اعتقل في العام 2012، وفي تشرين أول/ أكتوبر من عام 2013 حكم عليه بالسجن الفعلي مدة 20 عاما بعدما أدين بتلقي رشوة بقيمة 26 مليون دولار، مقابل المصادقة على صفقات التزود بعتاد عسكري، وتبييض الأموال التي حصل عليها.
وتبين أيضا أن العقود التي صادق عليها كانت مع شركة 'بروستال' لشراء غواصات ألمانية للأسطول اليوناني، كما صادق على عقود مع شركات روسية لشراء منظومات صواريخ. وأدينت معه أيضا زوجته الحالية، وزوجته السابقة وابنته، بتهمة التعاون معه في تبييض الأموال. وتحول وزير الدفاع إلى رمز للفساد السلطوي في اليونان في فترة الأزمة الاقتصادية، حيث أنه فرض على اليونانيين شد الحزام بسبب الأزمة، بينما صرفت الدولة المليارات على غواصات لم تكن بحاجة لها فعلا.
مصدر