تطوّرت الصلاة في الإسلام عبر عدة مراحل، وجرى تعديل شكلها مراراً. وزادت الصلوات بعد هجرة الرسول إلي المدينة واكتملت على النحو الذي يمارسه المسلمون اليوم، وأضحي بإمكانهم الجهر بصلواتهم، بعد مرحلة من التخفي والخشية من اضطهاد قريش لهم في مكة.
تاريخ فريضة الصلاة
تعددت الروايات حول تاريخ الصلاة في الإسلام، ومنشأ هذا الركن، وتطوره واكتماله والتحولات التي طرأت عليه.
وتشير السيرة الحلبية إلى أنه قبل الإسراء والمعراج لم تكن هنالك صلاة بالأساس مفروضة على الرسول أو أمته. ويقطع ابن حجر الهيتمي في كتابه "تحفة المحتاج لشرح المنهاج" بأنه "لم يكلف الناس إلا بالتوحيد فقط، ثم فرض عليهم من الصلاة ما نزل في سورة المزمل"، أي ما كان يقوم به محمد فقط من صلوات قيام الليل والذي خففه بعد حين القرآن عنه بقيام نصف الليل.
ولكن ثمة مَن يقطع بأن فرض الأمر بالصلاة وقع مباشرة مع لحظة نزول الوحي على محمد في غار حراء حيث كان ينقطع للعبادة قبل الإسلام. فيروي ابن اسحق أن "الصلاة حين افترضت على رسول الله أتاه جبريل وهو بأعلى مكة، فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت منه عين، فتوضأ جبريل ورسول الله ينظر إليه ليريه كيف الطهور للصلاة، ثم توضأ كما رأى جبريل، وقام به جبريل فصلى به، ثم انصرف جبريل فجاء رسول الله خديجة، فتوضأ لها ليريها كيف الطهور للصلاة، كما أراه جبريل فتوضأت، ثم صلى بها، كما صلى به جبريل، فصلت بصلاته".
وهذه الرواية تخالف النص القرآني في شقها الخاص بالوضوء، والذي نزلت آياته في سورة المائدة وحدّدت شكل الوضوء والطهارة عند الصلاة، بنصها على أنه "إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين".
فهذه السورة نزلت في المدينة بعد هجرة الرسول. ولذلك، لا يتفق معها أن يكون الوضوء قد فُرض مع أول صلاة للمسلمين كما تزعم رواية ابن اسحق.
وبمراجعة الحالة التي رافقت نزول الوحي على محمد، من تردد وخوف وعدم اطمئنان، وما أثارته في نفسه من شكوك وخشية حول حقيقة ما ظهر له في الغار الذي كان يتعبد فيه، لا يمكن ترجيح رواية نزول الأمر بالصلاة في تلك اللحظة إذ لا يستقيم ذلك مع الحالة النفسية التي تلبسته حينذاك.
فقد جزعت نفسه من اللقاء الأول بجبريل. ويروي حديث أنه قال لخديجة: "لقد خشيت على نفسي"، فذهبت به إلى ورقة بن نوفل، أحد رجال الدين المسيحيين، فأكد له أن ما ظهر عليه هو الناموس الذي أنزل على موسي وأنبياء الله، وأخبره أن ما جاءه ملك من السماء.
صلاة الرسول في مكة
كانت أول صلاة للرسول في مكة صلاةً ذات ركعتين يحددهما الدكتور جواد علي في كتابه "تاريخ الصلاة في الإسلام"، فيقول: "يخرج الرسول أول النهار إلى صلاة الضحى، وكانت صلاة لا تنكرها قريش، فيصليها في الكعبة وكان وأصحابه إذا جاء وقت العصر، تفرقوا في الشعاب فرادى ومثنى، فيصلون العشي".
انتظمت صلاة الرسول في مكة على هذا النحو الذي تنقله كتب السير والروايات، بصلاة الركعتين، مرتين في اليوم، وهما صلاة الغداة في أول النهار وصلاة العشي وقت العصر، أو كما يحددها المقريزي في "إمتاع الأسماع"، صلاة قبل طلوع الشمس وأخرى قبل غروبها. وتنقل سيرة ابن هشام عن مقاتل بن سليمان أنه "فرض الله تعالى في أول الإسلام الصلاة ركعتين بالغداة والعشي".
كانت "صلاة الركعتين" كما تصفها السيرة الحلبية هي الصلاة المفروضة في حياة زوجة الرسول خديجة حتى وفاتها قبل الهجرة. وبعد الهجرة، أقيمت صلوات لم يكن الأمر قد نزل بها في مكة. ففي المدينة بعد مجيء الرسول لها، تضاعفت الصلاة على المسلمين، فزيدت ركعتان عُرفت بصلاة الحضر.
ظهور الصلوات الخمس
كما أن الصلوات الخمس التي نزل الأمر بها في ليلة الإسراء، كانت كل صلاة منها من ركعتين، بحسب ابن سيد الناس في "عيون الأثر".
وجاءت أول إشارة إلى الصلوات الخمس في الإسلام أثناء حادث الإسراء والمعراج، رحلة الرسول إلى بيت المقدس ثم إلى السماء. ويروي "تاريخ الطبري" أنه لما انتهي إلى السماء السابعة "فرض الله عليه خمسين صلاة كل يوم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلت راجعاً فلما مررت بموسى بن عمران، ونعم الصاحب كان لكم، سألني كم فرض عليك من الصلاة فقلت خمسين صلاة كل يوم، فقال إن الصلاة ثقيلة وإن أمتك ضعيفة فارجع إلى ربك فاسأله أن يخفف عنك وعن أمتك، فرجعت فسألت ربي أن يخفف عني وعن أمتي فوضع عني عشراً ثم انصرفت فمررت على موسى فقال لي مثل ذلك فرجعت فسألت ربي أن يخفف عني وعن أمتي فوضع عني عشراً، ثم رجعت فمررت على موسى فقال لي مثل ذلك فرجعت فسألته فوضع عني عشراً، فمررت على موسى ثم لم يزل يقول لي مثل ذلك كلما رجعت إليه قال فارجع فاسأل حتى انتهيت إلى وضع ذلك عني إلا خمس صلوات في كل يوم وليلة، ثم رجعت إلى موسى فقال لي مثل ذلك فقلت قد راجعت ربي وسألته حتى استحييت منه فما أنا بفاعل؛ فمن أدّاهن منكم إيماناً بهن واحتساباً لهن كان له أجر خمسين صلاة".
عدد الركعات
في السنة الأولى من قدوم محمد إلى المدينة زادت صلاة الحضر إلى أربع ركعات في الظهر، وأربع في العصر، وأربع في العشاء، وكانت صلاة الحضر والسفر ركعتين. لكنه صلى الصبح ركعتين كما كان، وزاد ركعةً في المغرب. بحسب صاحب تاريخ الصلاة في الإسلام. وبالتالي تحدد الشكل النهائي للصلاة الذي يمارسه المسلمون اليوم.
وأشار عبد الله بهجت، الباحث في الدراسات الإسلامية وتحقيق النصوص في مؤسسة "مؤمنون بلا حدود"، إلى أن الصلاة عرجت عبر مراحل مختلفة مثل غيرها من أمور التشريع الإسلامي، فالحالة الإسلامية في مكة لما شهدته من عنف وعدم استقرار الدعوة، وقلة أتباعها واضطهاد من جانب قريش، لم تكن تساعد على حالة التأسيس التي كان يسعى لها النبي، فكان يبحث عن مجرد التزام يربط به المؤمنون الجدد بدينهم.
الصلاة في الديانات الأخرى
لم تكن الصلاة فكرة جديدة بل عرفها المجتمع المكي من خلال صلاته بالشعوب الأخرى.
فكانت الصابئة إحدى الديانات المنتشرة آنذاك في ما بين النهرين، وورد ذكرها في القرآن، تصلي ثلاث صلوات، أولاها قبل طلوع الشمس بقليل، والثانية عند الظهر، والثالثة مع الغروب، وكانت صلواتهم ركوعاً وسجوداً كما ذكر الشهرستاني في كتابه الملل والنحل.
وفي كتابه "قصة الحضارة"، يعقد المؤرخ الأميركي ويل ديورانت الصلة بين تحديد الصلوات الخمس وبين اتصال الرسول بالفرس الذي عرف عنهم الأمر نفسه فيقول: "وفي بداية الأمر كانت الخمس صلوات ركعتين، إلى أن هاجر محمد إلى المدينة، والسبب في أنه اختار خمس صلوات، هو اتصاله بالفرس في أثناء ترحاله في التجارة، وعرف منهم أن صلاتهم خمس مرات في اليوم".
كما أن صلاة الضحى، إحدى الصلاتين اللتين فرضتا على المسلمين، خلال الفترة المكية، كان يصليها محمد في الكعبة دون أن تعترض عليها قريش.
ويعلق جواد علي على هذا الأمر في كتابه "تاريخ الصلاة في الإسلام"، بأنه إذا لم يكن دليلاً على وجود صلاة الضحى عند الجاهليين، فهو إشارة إلى أن قريش كانت تعرفها وتركت الرسول يصليها، فلم تنكرها.
ويُعدّ التهجد وقيام الليل وقضاؤه في الصلاة وتلاوة آيات من القرآن والدعاء، والذي كان يؤديه الرسول بعد الإسلام، وخففه بعد حين القرآن عنه، عبادة عرفتها الديانتان اليهودية والمسيحية.
فقد جاء في المزامير: "في منتصف الليل أقوم لأحمدك على أحكام برك". وكان النبي داود يقضي نصف الليل في القراءة وترتيل أناشيد الرب وذكر اسم الله العظيم كما يوضح تاريخ اليعقوبي.
وكان النبي يعتكف شهراً أو أقل وحده بغار حراء، بحسب السيرة، أسوة بغيره ممن عرفوا في مكة "بالحنيفية"، ممن انقطعوا عن عبادة الأصنام واعتناق أي دين من السائد حولهم. وتصف السيرة هؤلاء بأنهم مجموعة من الباحثين عن دين إبراهيم اعتزلوا الأوثان والميتة والذبائح الذي يُسفك دمها على الوثن، وقالوا نعبد رب إبراهيم، ومن بينهم ورقة بن نوفل. ولا ترد أخبار وصور واضحة عن شكل عباداتهم وصلاتهم.
لا صلاة بلا "الفاتحة"
تعد سورة الفاتحة ركناً ثابتاً في صلوات المسلمين، ثم تليها قراءات متفاوتة من المصحف، لكنها تظل العتبة الأولى الذي يركن إليها المسلمون. ويُروى عن النبي أن مَن صلّى صلاة لم يقرأ فيها فاتحة الكتاب، فهو خداج، أي صلاته ناقصة. فهل تصح صلاة بدونها؟
وهل ترافق ظهور الصلاة مع نزول الفاتحة؟ فمن المعروف أن الفاتحة لم تكن أولى الآيات التي نزلت على نبي الإسلام، وتتردد الروايات بين تحديد نزولها في مكة أو المدينة، وقيل إنها "مكية مدنية" معاً، بدون حسم. وهو ما يرجّح أن تاريخ الصلاة في الإسلام لم يبدأ بتلاوة الفاتحة في القرآن.
ويشير جواد علي إلى رواية ورد فيها "أن جبريل حين حولت القبلة أخبر الرسول "أن الفاتحة ركن في الصلاة". وهو ما وقع في العام الثاني من هجرة الرسول إلى المدينة.
مصدر