حصلت عدّة انقلابات بعد هزيمة 1948 قادها زعماء متأثرون بالقومية العربية، وجعلوا من تلك الهزيمة بالذات مصدرا لشرعية انقلاباتهم وثوراتهم، إذ اتهموا الأنظمة التي انقلبوا عليها بالعمالة والتفريط في فلسطين، وقامت الدعاية السياسية في البلدان ذات التوجه القومي –آنذاك- مصر وسوريا والعراق خاصة، على استغلال القضية الفلسطينية وإسكات صوت المعارضة، بحجة الإعداد للمعركة الكبرى والتخلّص من الاستعمار الإمبريالي الصهيوني. واستعمل شعار مركزية القضية الفلسطينية في استراتيجيات الهيمنة الداخلية والخارجية التي اعتمدتها الأنظمة القومية. وعلّقت كل المشاكل الداخلية على شمّاعة الصراع العربي- الإسرائيلي، وفسّرت مختلف أصناف الخيبة والفشل بالمؤامرات الصهيونية المفترضة. لكن من الجدير التأكيد أيضا أن الشعور العروبي التلقائي، أو القومي الأيديولوجي، كان له دور مهم، بالإضافة إلى الشعور الديني، في التنبيه المبكّر إلى ما كان يحاك في فلسطين تحت الانتداب البريطاني، ثم إلى تسهيل التواصل بين الفلسطينيين والمجتمعات العربية وتقوية الشعور بالمصير المشترك، وضرورة التضحية في نفوس شرائح واسعة من الناس.
مابعد الهزيمة
لكن مع هزيمة 1967، وكانت هزيمة الأنظمة القومية العربية أمام الجيش الإسرائيلي، بدأت الهوّة تتّسع بين الشعارات التي رفعتها القومية لتحرير فلسطين والمحصلة الهزيلة، بل المهينة، التي تحققت على أرض الواقع. ولقد أذنت هذه الهزيمة بتراجع الفكرة القومية ذاتها، وانحسار الزعامات القومية إلى حدودها الوطنية وتراجع شعبيتها داخل هذه الحدود وخارجها. ثمّ إنّ هذه الهزيمة العسكرية قد ارتبطت بسقوط القدس بأيدي الجيش الإسرائيلي. فكلّ هذه العوامل قد أعادت صياغة القضية من قضية قومية إلى قضية دينية، ومن تحرير فلسطين على شاكلة تحرّر بقية البلدان العربية، إلى معركة من أجل القدس المرتبطة بتصورات دينية متباينة بين المسلمين واليهود، قبل قرون طويلة من بداية القضية الفلسطينية.
كانت "أسلمة" القضية بعد هزيمة 1967 خطة سياسية أساسا، تهدف إلى تحرير القضية الفلسطينية من التوظيف الفجّ الذي لحقها من قبل الأنظمة القومية، وتحجيم الزعيم عبدالناصر وتقليص شعبيته في العالم العربي، والحدّ من أهميّة "الجامعة العربية" التي كانت تحت نفوذه المطلق. وفي هذا السياق دفعت المملكة العربية السعودية والدول المساندة لها إلى إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي سنة 1969، بعد حادثة حرق جزء من المسجد الأقصى. وفتحت القضية على البلدان الإسلامية قاطبة وجعلت من القدس محورها.
لكن إلى حدّ منتصف السبعينيات من القرن العشرين، ظلت القضية الفلسطينية مستفيدة من هذا التنافس القومي الإسلامي لاحتضانها، لا سيما بعد إنشاء منظمة "فتح" ثمّ منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1964، إذ إن القيادة الفلسطينية الجديدة لعبت على كل الأوتار المتاحة. فقد استفادت من الأنظمة القومية ومن الجامعة العربية خاصة في ما يتعلّق بإعداد المقاتلين، واستفادت من تلك الأنظمة للحصول على دعم البلدان الاشتراكية وبلدان عدم الانحياز، فحقّقت انتصارات دبلوماسية دولية، منها استصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1975 ينصّ على اعتبار الصهيونية حركة عنصرية، ونقض هذا القرار بعد سقوط الاتّحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية ومجموعة دول عدم الانحياز، واستقبِل الزعيم ياسر عرفات بالأمم المتحدة قبل سنة من ذلك.
تجاوز الاحباط
استفادت من الأنظمة الخليجية بالتبرعات المالية الضخمة، ثمّ استعمال سلاح النفط سنة 1973 للضغط على مواقف الدول الغربية، وجرّها لمراجعة سياساتها في الشرق الأوسط. من هنا، كانت سبعينيات القرن العشرين تبشّر بتجاوز الإحباط الذي حصل بعد هزيمة 1967، وبانطلاقة جديدة للقضية الفلسطينية تحت زعامة فلسطينية موحدة ومستقلة تمثّلها منظّمة التحرير، وبالاستفادة من دوائر متعدّدة للدعم: عربية وإسلامية واشتراكية ومنظومة دول عدم الانحياز.
بيد أنّ الأمل لم يدم طويلا، ففي سنة 1977 فاجأ الرئيس المصري أنور السادات العالم بزيارته المشهورة إلى إسرائيل، فاتحا صدعا غير مسبوق في المواقف العربية والإسلامية، وملجئا القيادة الفلسطينية للاختيار بين الانضمام إلى "مسار السلام" الذي افتتحه وتجسّد لاحقا بمعاهدة "كامب دافيد"، أو مقاطعة مصر، البلد العربي الأكبر، وخسران مساندتها.
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ معاهد السلام الموقّعة من أنور السادات ومناحيم بيغين يوم 26/3/1979 تحت رعاية الرئيس الأمريكي جيمي كارتر بمنتجع "كامب دافيد" لم تكن تتضمن اتفاقات بين مصر وإسرائيل فحسب، بل كانت تتضمن بنودا حول فلسطين أيضا، أو بالأحرى "الضفّة الغربية وغزّة"، حسب العبارة المستعملة في نصّ المعاهدة. وتنصّ خاصّة على إنشاء سلطة حكم ذاتي للفلسطينيين في أجل أقصاه خمس سنوات من تاريخ توقيع المعاهدة. وقد تمّ تقديم البنود المتعلقة بالضفّة الغربية وغزّة على تلك المتعلقة بالنزاع بين مصر وإسرائيل، كما نصت المعاهدة على تطبيق مبادئها على بقية الدول العربية المجاورة لإسرائيل.
شباب القضية ونزاعات الأقطاب
لقد جاءت هذه المعاهدة عكس التيار، ففي حين كانت القضية الفلسطينية تسترجع زخمها محليا وعالميا بعد تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وتوسّع دوائر الدعم للقضية، فإن معاهدة كامب دافيد لم تتحدث عن فلسطين أو دولة فلسطينية ولم تعيّن منظمة التحرير ممثلا شرعيا للفلسطينيين أو مجرّد طرف في مفاوضات السلام المقترحة. فغاية ما وعدت به الفلسطينيين حكم ذاتي غائم المعالم، يقتصر على الضفة الغربية وغزّة وإمكانية مشاركة شخصيات فلسطينية في محادثات السلام، على شرط أن تنضمّ إلى الوفدين المصري أو الأردني.
كما لم تتضمن المعاهدة ترتيبات نهائية بخصوص اللاجئين الفلسطينيين وأحالت ذلك إلى المفاوضات الموعودة. من هنا نفهم لماذا كان عسيرا على الفلسطينيين خاصة، والعرب والمسلمين عامة، أن يقبلوا بهذه المبادرة، وكانت النتيجة حصول شرخ خطير في الصف العربي خاصة أدّى إلى عزل مصر وإلى نوع من التحالف الصعب بين الأنظمة القومية (العراق، سوريا، ليبيا) والأنظمة الملكية (الأردن، بعض بلدان الخليج)، التي يختلف بينها المزاج والنظام السياسي.
الأسلمة بعد القومية
ولئن أدت هذه العوامل إلى تراجع الطابع القومي للقضية الفلسطينية، فإنها لم تجعل من "أسلمتها" سبيلا لنفخ روح القوّة فيها. فمع قيام الثورة الإيرانية في السنة ذاتها التي عقدت فيها معاهدة كامب دافيد (1979)، أضيف إلى تعقيدات المنافسة القومية الإسلامية تعقيدات المنافسة المذهبيه التي بدأت تلوح في الأفق. وقد اختزل هذا الوضع المعقد في الشعارين المطروحين في سنوات الحرب العراقية الإيرانية، شعار العراق: "طريق القدس تمرّ من طهران" وشعار إيران: "طريق القدس تمرّ من بغداد".
لكن في المحصلة بقيت القدس تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي، وأنشئت فيها مئات الوحدات السكنية وصودرت منها الأراضي الشاسعة، وأصبحت دول كثيرة في العالم متقبلة لفكرة إعلانها عاصمة أبدية للدولة العبريّة. وضاعت كلّ الوعود التي أطلقتها الثورة الإيرانية لتحرير القدس، مثلما ضاعت قبلها وعود مشابهة دأب على إطلاقها زعماء الأنظمة القومية، وكانت ضحايا الصراعات الداخلية باسم القضية الفلسطينية أكبر بكثير من الصراعات مع العدوّ الذي يشترك الجميع في تعيينه، ويتقاتلون بين بعضهم البعض بدعوى مقاومته.
بعد سنوات من نهاية الحرب العراقية- الإيرانية، طرح الاتفاق الفلسطيني- الإسرائيلي الموقع بالبيت الأبيض في 13/9/1993، ولم يتضمن أكثر مما ورد سابقا في معاهدة "كامب دافيد"، باستثناء الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية واستعمال كلمة "سلطة فلسطينية"، وهي عبارة أرقى مما ورد في المعاهدة السابقة وأقلّ من مفهوم "الدولة" الذي أعلنه المجلس الوطني الفلسطيني في دورة الجزائر سنة 1983. ولا يهمنا هنا استعراض الوقائع بقدر الإشارة إلى أنّ هذا الواقع المعقّد وهذه الهوّة بين المنشود والمتاح وبين القول والفعل، قد طبع الخطاب السائد حول القضية بالتشويش والتناقض.
خلاصة من بحث: محمد حداد 'قضية فلسطين في الوعي الإسلامي'، ضمن الكتاب 119 (نوفمبر 2016) 'ازمات المسلمين الكبرى' الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي.
مصدر