أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، اذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بالاطلاع على القوانين بالضغط هنا. كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة المواضيع التي ترغب.
موضوع: حرب العصابات: كيف ينتصر الضعيف على القوي؟ الأربعاء 28 ديسمبر 2016 - 12:26
أكتوبر 1974، كنشاسا-زئير.. محمد علي أسطورة المصارعة يواجه جورج فورمان.. ولكن الحقيقة أن الزمن لا يبقي أحدا على حاله.. فبينما كان عصر محمد علي في أفوله كان جورج في فجر شبابه.. لم تخل توقعات المراقبين من الشفقة على محمد علي الذي يخاطر بماضيه وبسمعته أمام مصارع معروف بقوته كجورج فورمان. فبينما كان جورج معروفا بقوته العضلية الشديدة كان محمد علي مشهورا بحركاته الخفيفة والسريعة في الحلبة وضرباته الخاطفة.
وفي الأسابيع التي سبقت المباراة كان جورج يتدرب أمام مجموعة من المقاتلين في نفس الوقت ليفقد محمد علي ميزته النسبية في السرعة عندما تحين لحظة المباراة. وعندما رن جرس الجولة الثانية وبدلا من أن يتحرك محمد علي إلى الأمام ليواجه جورج.. احتمي محمد علي بالحبال!
وبينما يوجه جورج الضربة تلو الأخرى إليه كان محمد علي يصرخ: “جورج .. أنت لا تضربني .. لقد خيبت أملي” وبينما يزداد غضب جورج تزداد سخرية محمد علي منه. وللمشاهدين، بدا أن محمد علي لن يصمد جولة أخري أمام ضربات جورج التي لا تتوقف. ولكن الحقيقه أن الحبال المرنة حول الحلبة كانت تمتص الكثير من ضربات جورج. وعندما رن جرس الجولة الثامنة كان جورج قد أصابه الإنهاك فوجه إليه محمد علي ضربة واحدة أطاحت به أرضا.
إذا نظرنا إلى هذه المباراة، فإننا سنجد أمامنا خصمين يمتلكان الحافز للفوز والسجل المليء بالإنجازات. ولكنهما ليسا علي نفس القدر من القوة. وعلى الرغم من ذلك، فقد أثبتت ضربات جورج المتتالية فشلا أمام استراتيجية محمد علي في الاحتماء بالحبال.
وهنا يأتي السؤال.. كيف يمكن لاستراتيجية الضعيف أن تجعل خصائص القوي عديمة القيمة؟!
وإذا كانت القوة تستدعي الفوز، فإذن لا يمكن للضعيف أن يفوز أبدا.. بينما يقول التاريخ عكس ذلك.. يمكن للضعيف أن ينتصر.. لكن السؤال: كيف؟!
ينما تزداد معدلات الصراعات غير المتكافئة في العالم، من حروب العصابات والفواعل السياسية من غير الدول إلى الحروب الأهلية، تزداد احتيجاتنا لفهم الديناميكات التي تحكم هذه الصراعات. منذ ثيوثيديدس (المؤرخ والجنرال الإغريقي) كان مركز الثقل في العلاقات الدولية هو القوة التي تحكم الفوز في الصراعات؛ وهذا صحيح من ناحية التوقعات المبدئية، لكن إذا أخذنا آخر 200 عام من عمر الحروب على الأرض، نجد أن الفاعل الضعيف قد فاز في أكثر من 30% منها، ويزداد هذا المعدل من عام إلى عام. فإذا كانت القوة تحكم الفوز في الصراعات، لماذا إذن ينتصر الضعيف أحيانا وتزداد فرصه في الفوز بمرور السنين؟!
*****
نظرية المصالح غير المتكافئة
يقدم أندرو ماك في كتابه (لماذا تخسر الأمم الكبيرة الحروب؟) محاولة لفهم ديناميكات الصراعات غير المتكافئة..
يقول أندرو بأنه كلما زادت الفجوة بين أطراف الصراع من حيث القوة زادت فجوة المصالح وتوقعات الجماهير، حيث أن القوة العظمى تكون لها مصالح واسعة وتوقعات جماهيرية عالية ورغبة في إنهاء الصراع بقوة وحسم. هذه التوقعات تضع السلطة السياسية والعسكرية في حالة من الضغط الدائم لتحقيق النصر العسكري؛ فإذا طال أمد الصراع فإنه يُسبب نوعاً من الغضب الجماهيري في النظم الديمقراطية أو يعطي ثقلا لحركات المعارضة؛ فكلما زادت قوة الدولة الإقتصادية والعسكرية تقل مصالحها خاصة في الصراعات غير المتكافئة. الحساسية السياسية تجاه تأخر النصر أو أمام الخسائر البشرية والاقتصادية تؤدي بالعامة وحركات المعارضة إلى الضغط علي قيادتها لإنهاء الحرب. ووفقاً لهذا المنطق فإن الفاعل القوي لديه أسباب أقل للنصر من الفاعل الضعيف الذي تقع حياته نفسها علي المحك.
يفسر أندرو هذه الحساسية السياسية عند الفاعل القوي بأن الجماهير أو حركات المعارضة سوف تجبر الفاعل القوي علي الانسحاب من الحرب أو إنهائها قبل انتهاء أهدافها الاستراتيجية نظراً لكثرة الخسائر العسكرية أو الإقتصادية؛ بينما الفاعل الضعيف تمثل الحرب له نقطة حشد معنوية واقتصادية وحياتية للدفاع عن وجوده ذاته حيث تصبح حياته نفسها علي المحك مما يدفعه لأخذ الحرب إلى نهايتها.
ويمكن لهذا المنطق أن يطبق في حالة الحرب الأمريكية على فيتنام والعراق..
فقد خسرت أمريكا الحرب لأنه لم يكن لها مصالح حيوية على المحك مقارنة بالشمال الفيتنامي الذي كانت الحرب مسألة وجود بالنسبة له. وفي النهاية أُجبرت أمريكا بغضب الجماهير والتوابيت العائدة أن تنهي الحرب قبل تحقيق أهدافها في تغيير النظام الشيوعي في فيتنام.
لكن نظرية المصالح غير المتكافئة ليست كافية لفهم أسباب هذه الظاهرة (لمااذا ينتصر الضعيف)؟
فأولاً: ليست القوة النسبية دائما مصاحبة لضعف المصالح الاستراتيجية. فإن الدولة القوية قد تتصرف في أوقات السلم بأن مصالحها علي المحك (كقائد للعالم الحر) مما يتطلب منها أخذ مواقف جادة كما لو كانت مصالحها علي المحك.
كما أن: منطق الدومينو يخبرنا بأنه قد تكون هناك مجموعة من الأحداث غير المترابطة وغير المهمة ولكنها في مجموعها تشكل خطرا على الأمن القومي للفاعل القوي مما يدفعه للتحرك بجدية.
فعلي سبيل المثال في عام 1899، كانت بريطانيا تعتقد بأن مستقبل الامبراطورية معتمد على احتفاظها بالهند مما يعني تأمين طرق التجارة ما بين بريطانيا والهند والتي تمر بـ جنوب أفريقيا. ولذلك فقد خاضت بريطانيا حربا كبيرة في جنوب أفريقيا تبدو في ظاهرها غير ذات مصلحة فيها ولكنها في واقع الأمر تمثل مصلحة حيوية لبقاء الإمبراطورية البريطانية.
وفي النهاية فإن نظرية ماك ضعيفة اذا اخترناها لفهم العلاقة العكسية بين قوة الفاعل النسبية ومصالحه الاستراتيجية في الصراعات غير المتكافئة. ولكنها بالفعل قد ألقت الضوء على الحساسية السياسية كسبب رئيسي في خسارة الفاعل القوي للصراعات.
*****
نظرية تفاعل الاستراتيجيات
هذه النظرية تقدم لنا إطارا عاما لمحاولة فهم الصراعات غير المتكافئة. ولكن قبل أن نبدأ في شرحها يجب أن نوضح مجموعة من المفاهيم الضرورية: الاستراتيجية العظمي، الاستراتيجية، التكتيك.
الاستراتيجية العظمى: هي الموارد الكلية التي يضعها الفاعل السياسي لتحقيق مجموعة من الأهداف السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية.
الاستراتيجية: هي الخطة التي يضعها الفاعل لتحقيق مجموعة من الأهداف السياسية والعسكرية عن طريق استخدام القوة.
التكتيك: هو فن قيادة المعارك واستخدام الأسلحة وموضعتها في أماكنها الصحيحة لتحقيق الأهداف الاستراتيجية.
وفي النهاية فإن الاستراتيجية العظمى والاستراتيجية والتكتيك تمثل وسيلة للفاعل لإجبار الطرف الآخر على الانصياع لإرادته. وتحديدا، فإن الاستراتيجية لا تنتهي بانتهاء الحرب. فهي صيرورة مستمرة لتحقيق الأهداف والمحافظة عليها.
ووفقا لهذه النظرية تنقسم حالات الحرب إلى حالتين:
(1) حالة الهجوم: وهي إما هجوم مباشر، أو هجوم غير مباشر (بربري).
– حالة الهجوم المباشر: هي استخدام القوة العسكرية للسيطرة على مرتكزات الطرف الآخر (سواء عاصمة الدول أو مراكزها الصناعية أو مواقعها الاستراتيجية). ويكون الفوز بالحرب عن طريق تدمير قابلية الطرف الآخر للمقاومة بالسلاح.
– الحرب البربرية: هي انتهاك منظم لقوانين الحرب بغرض تحقيق نصر عسكري أو سياسي. وتهدف البربرية إلى كسر ارادة الخصم واجباره علي الخضوع وتدمير بنيته التحتية وموارده البشرية لإفقاده قدرته على المقاومة. وتتضمن استخدام أسلحة كيميائية وبيولوجية. كما أن الانتهاكات بحق المدنيين تعتبر من أهم أعمدتها، وتشمل: القتل، والاغتصاب، والتعذيب، ومعسكرات الاعتقال الجماعي.
كما أن العمليات الجوية في الآونة الأخيرة تعد نوعا من الحرب البربرية لما تتضمنه من تدمير للبني التحتية و لإزهاق الأوراح بغير تمييز.
(2) حالة الدفاع: وهي إما دفاع مباشر أو الدفاع عن طريق حرب العصابات.
– الدفاع المباشر: ويعني محاولة الفاعل وقف تقدم المهاجمين ومنعهم من السيطرة على مناطق حيوية أو تجمعات سكانية، ويهدف إلى تدمير قدرة الطرف الآخر على القتال. ويشتمل على: الدفاع الثابت، والدفاع المتحرك، والدفاع في العمق.
– استراتيجية حروب العصابات: تنظيم جزء من المجتمع في قوات عسكرية أو شبه عسكرية بهدف إحداث خسائر في العدو وإحداث الإنهاك بين صفوف قواته وتدمير بناه التحتية وخطوط إمداده. ويتم ذلك عن طريق المواجهة غير المباشرة وتكتيكات الكر والفر واستخدام الدعاية المكثفة لإفقاد العدو إرادته ونشر روح الهزيمة بين جنوده.
وهذا النوع من الحروب يتطلب عاملين:
1. ملجأ طبيعي “كالجبال أو الغابات” أو ملجأ سياسي كحدود ضعيفة ومتهاوية أو طرفها الآخر دولة متعاطفة مع أعمال المقاومة.
2. والأمر الثاني هو حاضنة شعبية قوية لإمداد المقاتلين بالمعلومات واللوجيستيات والمقاتلين.
والحقيقة أن تطبيق استراتيجية حرب العصابات تشمل دفع ثمن باهظ حيث أنها لا تتضمن تحقيق نصر حاسم وسريع أمام العدو، ولا تتضمن أيضا حماية السكان والمنشآت. وتزداد هذه التكلفة وفقا لطبيعة العدو وأهدافه؛ فإذا كان العدو غير مدرب على التحكم في اطلاق النار أو كان يهدف لتدمير الحاضنة الشعبية من السكان عندها تزداد تكلفة هذه الحرب.
*****
منطق التفاعل الاستراتيجي
يفيد منطق التفاعل الاستراتيجي بأن لكل استراتيجية استراتيجية مضادة لها. وإذا كان الفاعل الضعيف قادرا على استنباط استراتيجية العدو، عندها تتزايد فرصه في تحقيق النصر باختيار وتطبيق الاستراتيجية المضادة.
وفي الصراعات غير المتكافئة عندما يؤدي تفاعل الاستراتيجيات المختلفة إلى تأخر في تحقيق الفاعل القوي لأهدافه فإن هذا سيؤدي بالتالي إلى هزيمته لسببين:
أولا: رغم أن جميع الفاعلين يمتلكون توقعات متضخمة عن تحقيق النصر، ولكن هذه التوقعات سوف تكون أكثر تأثيرا على الفاعل القوي. فإذا كانت القوة تؤدي إلى النصر، فإن مزيدا من القوة سوف تؤدي إلى نصر ساحق. هذا يدفع الفاعل القوي إلى إنزال مزيد من القوة التي وبمرور الوقت سوف تفقد فاعليتها، فيما أن الضغط الداخلي نتيجة لازدياد تكاليف الحرب سوف يدفع الفاعل القوي إلى التخلي عنها.
ثانيا: مع مرور الوقت وفقدان الفاعل القوي لعامل الحسم، وبازدياد تكاليف الحرب المالية والبشرية، يندفع الفاعل القوي لأسلوب بربري في الحرب بدافع الحسم. وتفقده هذه الأفعال غطاءه السياسي والأخلاقي وربما تؤدي إلى التدخل الخارجي والحشد الشعبي الداخلي.
والحقيقة أن الفواعل ليست في حرية تامة لاختيار استراتيجية لحربها، فإن ذلك مرتبط باستعداد قواتها المسلحة وتدريبها وأسلحتها وتاريخها، وأيضا عدوها التاريخي الذي من خلاله تنبني عقيدتها القتالية. لذا لن يكون من السهل على جيش بنى تاريخه على عداوة جيش آخر أن يكون محترفا في حروب الصعابات.
*****
وسنحاول الآن استبناط نتيجة هذه التفاعلات بين (القوي والضعيف) بتطبيق هذه الاستراتيجيات.
1- التفاعل الاسترتيجي الأول (هجوم مباشر × دفاع مباشر):
في هذا التفاعل يمتلك الطرفين أهدافا مشابهة (مثل السيطرة علي العاصمة أو مناطق ذات أهمية استراتيجية). ولا يكون هناك عامل متغير يقلب كفة الصراع غير عامل القوة المادية. وفي هذه الحالة يكون النصر السريع حليف الفاعل القوي.
2-التفاعل الاستراتيجي الثاني (هجوم مباشر × حرب العصابات):
على عكس الاستراتيجيات التي تشمل استخدام قوات مدربة ونظامية أمام قوات مماثلة فإن الاستراتيجية الغير مباشرة تعتمد بشكل رئيسي على قوات غير منظمة يصعب تمييزها عن المدنيين. وكنتيجة لهذا فإن القوات المهاجمة تحدث خسائر كبيرة في أرواح المدنيين مما يؤدي إلى حشد الدعم الشعبي ضد المحتل وفي صالح المقاومة.
وطالما تمتلك المقاومة الدعم الشعبي والملاجئ الآمنة فإن مرور الوقت يكون في صالحها وهذا ما حدث في الغزو الأمريكي للعراق. فسريعا ما انهارت الدولة وذاب الجيش النظامي وسيطرت جيوش التحالف على العاصمة والمواقع الاستراتيجية ولكن ما بقي يشكل خطرا حقيقا على المحتل هي تلك التنظيمات العنقودية التي تذوب بين الناس وتمتلك شبكات واسعة من الإسناد اللوجيستي والدعم الشعبي، وهي ما أجبرت العدو في النهاية، على الانسحاب.
3-الهجوم غير المباشر × الدفاع المباشر:
هنا يستهدف الفاعل إرادة الخصم الضعيف.. قبل تطور وسائل الطيران والقصف المدفعي، كان الحصار هو أبرز وسائل الهجوم غير المباشر بما يتضمنه من تجويع للمحاصر. والآن تعد القذائف الاستراتيجية والمدفعية عماد الهجوم غير المباشر بما تتضمنه من إزهاق للأرواح بغير تمييز، وتدمير للبنية التحتية.
والحقيقة أن هذه الوسيلة لم تثبت فعاليتها في إخضاع الشعوب بداية من هتلر الذي حاول إخضاع البريطانيين عن طريق القصف الجوي، وانتهاء بأمريكا التي فشلت، وما زالت تفشل، في إخضاع الأفغان أو المقاومة العراقية. لم تثبت هذه الوسيلة فعاليتها.
4-الهجوم غير المباشر × الدفاع غير المباشر:
من المهم أن ندرك أن أسلوب حرب العصابات يفترض نوعا من الوازع الأخلاقي عند الخصم، ما يمنعه من قتل المدنيين أو استخدام أساليب مثل الأرض المحروقة وغيرها. ولكن في حالة الخصم الذي يعتمد العمل البربري كأسلوب له يصعب على الطرف الضعيف الفوز؛ لسببين بسيطين:
أولا: لأنه لن يتبقي أحد لكي يفوز.
وثانيا: لأن العصابات تعتمد بشكل أساسي على شبكات الدعم اللوجستي والتعاطف الشعبي والملاجئ الآمنة. وهذا ما يتم استهدافه أولا اذا ما قرر الطرف القوي خوض حرب بربرية.
يمكن اختبار هذه النظرية على أرض العراق التي شهدت ثلاثة أنواع من التفاعل بين الاستراتيجيات..
شملت الأولى منها هجوما منظما يقوده التحالف الدولي أمام دفاع منظم يقوده الجيش العراقي وكان النصر في هذه المرحلة حليف الطرف الأقوى.
أما في المرحلة الثانية فشهدت حرب عصابات شرسة أمام جيش منظم ومدرب وشهدنا انسحابا مذلا للتحالف من العراق سبقه فقد سيطرته على الكثير من الأراضي.
ثم شهدنا تفاعلا ثالثا شمل ما يسمى (الصحوات) وهي ميلشيات شكلها الجيش الأمريكي لمواجهة التنظيمات الجهادية ولاقت نجاحا مذهلا.
وفي المقال القادم سوف نبحث في الحرب الأمريكية الفيتنامية والغزو الأمريكي للعراق مسترشدين بهذه النظرية ومختبرين صحتها.
موضوع: رد: حرب العصابات: كيف ينتصر الضعيف على القوي؟ الأربعاء 28 ديسمبر 2016 - 12:57
1- فيتنام.. أغسطس من عام 1964.. أعلن رئيس الولايات المتحدة ليندون جونسون أن مدمرتين أمريكيتين قد هوجمتا في خليج تونكن بعيدا عن ساحل فيتنام الشمالية. ارتاب بعض الأمريكيين في أن يكون الهجوم قد حدث، ولم يؤكد الهجوم فيما بعد على الإطلاق. ولكن الرئيس جونسون أمر بهجمات جوية أمريكية ضد فيتنام الشمالية.
2- العراق.. مارس من عام 2003م.. وبعد شد وجذب عن حقيقة امتلاك العراق لأسلحة نووية، أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش انطلاق حربه لتحرير العراق.
||سنقضي على آلة الترهيب وسنساعدكم على بناء عراق مزدهر وحر. ولن يشهد العراق الحر حروبًا عدوانية على جيرانكم، ولا مصانع للسموم، ولا عمليات إعدام للمنشقين، ولا غرف تعذيب، ولا غرف اغتصاب. سيرحل الطاغية قريبًا. ويوم تحرركم قد اقترب||
||الطريق الوحيد لخفض الضرر ومدة الحرب هو في استخدام القوة المطلقة لقواتنا وعظمتها، ونحن مستعدون لذلك||
بالطبع لم تكن هذه بداية الأحداث..
*****
سرد للبدايات:
||you can kill ten of our men for every one we kill of yours,But even at those Odds you will lose we will win|| ||بإمكانك أن تقتل عشرة من رجالنا مقابل كل واحد نقتله من رجالكم. لكن حتى أمام تلك الحسبة، أنتم ستخسرون ونحن سننتصر||
هو تشي منه Ho Chi Minh
بدأ التدخل الأمريكي الفعلي في فيتنام مباشرة بعد هزيمة فرنسا أمام الحلف الثوري لاستقلال فيتنام بقيادة (هو شي منه)* في ديان بيان فو 1954. عقد بعدها مؤتمر للسلام في جنيف الذي قضي بتقسيم البلاد إلى شطرين: الشطر الشمالي شيوعي عاصمته هانوي، والشطر الجنوبي يرتبط بعلاقات وثيقة مع الغرب عاصمته سايغون. كما قضت أيضا هذه المعاهدة بإقامة انتخابات تجمع شطري البلاد عام 1965 لإعادة توحيدها. هذا السعي الذي عارضته الولايات المتحدة؛ فهو يفقدها موطأ قدمأ بجوار بكين وموسكو، ويفقدها خانة على رقعة الشطرنج في سياق الحرب الباردة بين القطبين.
كانت حكومة الشمال الشيوعية عازمة على إعادة توحيد الشطرين. وبينما قوض الجنوب بدعم أمريكي هذه المحاولة، ساندت حكومة الشمال الأعمال الثورية في الجنوب، ودعمت ما سمي بالـ (فيت كونج) في ثورتهم. وفي عام 1960، تم تأسيس جبهة التحرير الوطني، وهي الإطار التنظيمي السياسي والعسكري الذي سيتولى مهمة الحرب ضد حكومة سايغون.
في أبريل من 1960، أعلن الرئيس كينيدي وقوف بلاده التام خلف حكومة الجنوب وتوقيع معاهدة صداقة معها. ومن هنا بدأ يتوالى الحشد الأمريكي لعدته وعتاده. حاولت الولايات المتحدة بطرق مختلفة وقف خطوط الإمداد بين الشمال والحركات المسلحة في الجنوب. ومع الاضطرابات الداخلية في الجنوب الفيتنامي، وفشل الحكومة في الحفاظ على استقرار البلاد، توالت الانقلابات العسكرية وتزايدت العمليات العسكرية من الشمال ومن المسلحين في الجنوب؛ إلى أن ارتأت أمريكا أن عليها أن تدير الأمر بطريقتها.
إذن.. استهدفت الاستراتيجية الأمريكية قطع خطوط الإمداد بين الشمال والجنوب؛ ومن ثم تأديب الحكومة الشيوعية في الشمال وإجبارها على التراجع عن مخططاتها في تحقيق الوحدة أو دعم الثوار الشيوعيين في الجنوب (الفيت كونج).
يمكننا أن نقسم الحرب الأمريكية – الفيتنامية إلى عدة تفاعلات تختلف في طبيعتها وفي سياقها الزمني والمكاني. ونحاول أن نؤطرها بنظرية (التفاعلات الاستراتيجية).. (راجع الجزء الأول)
التفاعل الاستراتيجي الأول: حرب بربرية (أمريكية) × دفاع مباشر (الشمال الفيتنامي) (عملية الرعد):
بدأ في مارس 1965 عملية قصف جوي استراتيجي أمريكي على الشمال الفيتنامي كانت تهدف إلى تركيع إرادة الفيتناميين وثنيهم عن دعم الثوار في الجنوب الفيتنامي. ولم تصمم هذه العملية للإطاحة بحكومة الشمال الشيوعية وإنما كانت تهدف إلى الضغط عليها وتضييق الخناق وإحداث الخسائر الكافية لثنيها عن دعم الثورة المسلحة في الجنوب.
وبينما قررت الإدارة زيادة وتيرة العمليات الجوية، أصبح فشلها أمرا واضحا للعيان. فعلي الرغم من كم الدمار الواسع الذي حققته، إلا أنها لم تنجح في تحقيق أهدافها من الضغط على الحكومة بما يثنيهم عن دعم الحركات الشيوعية في الجنوب. بل بالعكس، أدت هذه الهجمات إلى زيادة الشعور بالوطنية وروح الانتقام من الهمجية الأمريكية مع تزايد الرغبة في التضحية والانتقام، بل وقوت ظهر النظام الشيوعي في فيتنام.
وهذا النوع من القصف الذي لا يستهدف فقط الأهداف العسكرية يعد نوعا من جرائم الحرب البربرية. وقد استمرت هذه العملية إلى نوفمبر من عام 1968، وتوقفت قبل أسبوع من بدء الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
وهنا نجد فاعلا قويا (أمريكا) يشن حربا بربرية أمام فاعل ضعيف (الشمال الفيتنامي) الذي مارس الدفاع المباشر. وفشل الفاعل القوي في تحقيق أهدافه.
التفاعل الاستراتيجي الثاني: هجوم مباشر (أمريكا) × دفاع مباشر(الشمال الفيتنامي):
1965 – 1969 شهدت هذه الفترة مجموعة من المعارك بين القوات الأمريكية وحليفها الجيش الفيتنامي الجنوبي، وبين الجيش الفيتنامي الشمالي وحليفه في الجنوب الفيت كونج.
وشهدت هذه المعارك انتصارت ساحقة للقوات الأمريكية التي جمعت بين أسلحتها التكتيكية على الأرض وبين سلاح الجو والمدفعية الثقيلة. وبمرور الوقت بدأت، تقل وتيرة هذا النوع من المعارك المباشرة، ويعكس هذا نوعا من التطور لدى الجيش الفيتنامي الشمالي الذي أدرك أنه في هذه المرحلة يحارب الأمريكيين وفقا لقواعدهم، فبدأ في التحول عن استراتيجيته السابقة إلى استراتيجية حرب العصابات عن طريق القتال عن قرب والكر والفر، مما حرم الجيش الأمريكي من التمتع بغطاء جوي فعال.
التفاعل الاستراتيجي الثالث: هجوم مباشر (أمريكا) × حرب عصابات ( الجنوب الفيتنامي) :
شنت العصابات في الجنوب حربا منظمة على السلطة المتعاونة مع أمريكا، مع قدر كبير من الاحترافية. وقابلتها الولايات المتحدة بقوات منظمة قامت بعمليات بحث وتدمير بناء علي معلومات مخابراتية. وبينما اعتمد الجنوب علي الدعم الجوي والمدفعي القوي من أمريكا بدأ ميزان القوة يميل لصالح العصابات مع فشل لهذه الاستراتيجية نتيجة لكثرة الإصابات في جانب المدنيين.
وعلى جانب آخر قامت الولايات المتحدة في بعض المناطق بتجنيد الفلاحين وتسليحهم مع دعم جوي ومدفعي، ومن قوات المارينز؛ ولاقت هذه الاستراتيجية نجاحا نسبيا. ولكن في النهاية لاقت القوات الأمريكية فشلا ذريعا في القضاء على هذه العصابات لأن القوات الأمريكية دربت في المقام الأول لخوض حرب أمام قوة منظمة ذات قوة نارية كبيرة وليست أمام مجموعة من الأشباح.
التفاعل الاستراتيجي الرابع: حرب بربرية (أمريكا) × حرب عصابات (الجنوب الفيتنامي) :
طورت القوات الأمريكية نوعين من الاستراتيجية للتعامل مع هذه العصابات:
الأولى شملت تهجير الفلاحين من قراهم في المناطق المستهدفة وجمعهم في معسكرات تشرف عليها الحكومة الجنوبية. وهدفت هذه الاستراتيجية إلى تدمير البنية التحتية للعصابات والدعم الشعبي الذي كانت تحصل عليه من المدنيين.
الاستراتيجية الثانية (العنقاء): وهي عبارة عن برنامج مخابراتي استهدف القضاء على قيادات الفيت كونج وتدمير بناها التحتية مجبرة الجنود على التراجع إلى قواعدهم في كمبوديا بعد خلخلة صفوفهم. وهذا البرنامج يعد الوحيد الذي حققت فيه أمريكا نصرا فعليا. وبين عامي 1968 – 1972 قتلت أمريكا ما يزيد عن الـ 26 ألفا من قيادات الفيت كونج ومنتسبيها ودوائر دعمها. هذا، غير عشرات الآلاف الآخرين الذين تم أسرهم وتعذيبهم بطرق مختلفة.
ولكن هذه الاستراتيجية (هاملت – العنقاء) أثارت استياء الجنوبيين ودفعت العديد منهم لمساندة العصابات.
*****
لماذا أقحمت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها في المعترك الفيتنامي؟! وهل كانت فيتنام تمثل مصلحة حيوية لفيتنام أم لا؟! ثم لماذا انسحبت؟!
لم يتفق المؤرخون أبدا.. هل كانت فيتنام مصلحة حيوية للولايات المتحدة أم لا. ولكن ما اتفقوا عليه هو أن أمريكا اعتقدت أنها سوف تكون كرحلة بسيطة، وباستخدام بسيط للقوة، يمكنها أن تعيد الاستقرار للنظام السياسي في جنوب فيتنام ثم تغادر. ولكن في النهاية وبصورة درامية أصبح مصير الجنوب الفيتنامي مرتبطا بسمعة الولايات المتحدة ومكانتها كقائد للعالم الحر.
والحقيقة أن انسحاب الولايات المتحدة من فيتنام كان بسبب الضغط الداخلي للرأي العام. وذلك لأن الجيش الأمريكي لم يقاتل بفاعلية كما كان متوقعا منه. ولكن في نفس الوقت أثبت الجيش الأمريكي مرونة كبيرة في تطوير تكتيكاته الحربية بسرعة. ورغم أن عام 1969 انتهى بنصر أمريكي؛ إلا أن الحرب استمرت لأربعة أعوام أخرى.. حاملة الهزيمة للجيش الأمريكي.
إن الانسحاب المذل للجيش الأمريكي من فيتنام كان نتيجة لسببين رئيسين:
الأول اعتقاد ادارة الحكومة الأمريكية أن هزيمة الجيش الفيتنامي الشمالي سوف يدفعه الي الاستسلام لمطالب أمريكا ووقف الدعم عن الثوار الجنوبيين .. ولكن ذلك لم يحدث … فقط انسحب الجيش الفيتنامي الي ما خلف خطوط (نزع السلاح) وأعاد تنظيم دفاعاته منتظرا خروج الولايات المتحدة ليكتسح الجنوب الفيتنامي معيدا توحيد الشطرين.
الثاني أن الهزيمة العسكرية للثوار الجنوبيين والجيش الشمالي أخذ وقتا طويلا لتحقيقه مما أثر على الرأي العام الأمريكي ليس فقط لأن أمريكا تمتلك جيشا من أقوي الجيوش على الأرض مدعما بأحدث التكونولوجيا ولكن أيضا لأن أمريكا وفي حروبها السابقة اعتقدت أن قضيتها عادلة وتستحق الوقوف من أجلها وهذا ما افتقدته الحرب في فيتنام ولم تسعي الادارات المتلاحقة إلى إثارته.
خلاصة:
امتلك الشمال الفيتنامي نوعين من الجيوش: جيشا نظاميا مدربا على مواجهات مباشرة ونوعا آخر مدربا ومعدا لحروب العصابات لذا يكون الشمال أكثر مرونة من الجنوب المتحالف مع أمريكا في تغيير استراتيجيته بين المواجهه المباشرة أو حروب العصابات مما قاده في النهاية الي النصر.
*****
العراق:
يمكننا أن نلحظ التشابه الشديد بين الحرب في العراق و الحرب في فيتنام .. بل يكاد يعد تطابقا .. بداية من الظروف المحيطة بالحرب ..
1- دولة تعد نفسها قائد العالم الحر تواجه خطر ضياع هيبتها بعد ضربات 11 سبتمبر أو امام الاتحاد السوفيتي .
2- فكرة الحرب غير العادلة والغير مبنية علي قضية حقيقية خصوصا بعد أن ظهر الكذب الأمريكي في ادعائه بوجود الأسلحة النووية كما لم تظهر أمريكا سابقا أي دليل علي قصف مدمراتها قبالة سواحل شمال فيتنام.
انتهت الحرب ولكن بعد أن عاني الفيتناميون مثلما عاني الشعب العراقي ..فقد قُتل في الحرب ما يزيد عن المليون و المائة ألف .. هذا غير ثلاثة ملايين من الجرحي .. لم تكن الحرب نزهة كما توقعت أمريكا ولم تكن كذلك للشعب الفيتنامي ولكنه في النهاية انتصر بعد الفظائع التي مورست بحقه.
وكما تتشابه التفاعلات الاستراتيجية في فيتنام تتشابه وتتطابق مع مثيلاتها في العراق كما بينا في المقال السابق .. وبينما تزداد الآن وتيرة التفاعل بين وكلاء أمريكا وبين جنود أبي بكر البغدادي .. نميل إلى الاعتقاد بأن نتيجة هذه الحرب سوف تحسمها طبيعة الاختيارات الاستراتيجية لكل طرف.
*****
يمكنك الآن أن تنظر لكل الحروب التي تجري في المنطقة بنفس العين التي قرأنا بها الحرب الأمريكية الفيتنامية، وأن تبحث في طبيعة التفاعلات الاستراتيجية بين الخصوم بما يمكنك من استشراف طبيعة الصراع ونهايته. تكمن المشكلة في أن تتمتع بالبصيرة النافذة لتحديد الاستراتيجية التي يتبناها الفاعل على الأرض، ثم يمكنك عندها أن تستشرف طبيعة الصراع مهما طال أمده