يتفق كثير من الباحثين والفلاسفة ورجال العلم على أن اختراع المطبعة مثّل نقلة حضارية جديدة في تاريخ المجتمعات الإنسانية، فالثورة المعرفية التي انطلقت مع اختراع المطبعة عندما تيسر انتشار الكتاب على نطاق واسع؛ شكّلت قاعدة لإحداث تَغيُرات كبيرة في أفكار مجتمعات وسط وغرب أوروبا، كما ساعدت في نشر ثقافة القوميات الأوروبية ولغاتها وفلسفاتها في المجتمعات غير الأوروبية، والتي أثرت بدورها على شكل الحضارة البشرية فيما بعد.
ولعل مناقشة قضية تأخُّر دخول المطبعة إلى المجتمعات العربية عند الحديث عن تاريخ الطباعة لابد أن يرتبط به الحديث عن الدولة العثمانية ودورها في تأخر دخول هذه التقنية الحديثة إلى أراضيها، وهو أمر يكثر فيه الكلام بالحقائق والمغالطات لذا سيكون من المفيد مناقشة على هذه القضية التاريخية الهامة التي ترتبط بتاريخ الطباعة في البلدان العربية.
الطباعة في ذاكرة التاريخ
يذكر الباحثون أن فكرة الطباعة تضرب بجذور تعود إلى آلاف السنين مع الترجيح أن «الصينيين» كانوا أول من عرف الطباعة، باستخدام قوالب من الخشب ينقشون على سطوحها الكلمات والرسوم مقلوبة ثم يختمون بها. وبالانتقال إلى القرن الخامس عشر الميلادي بدأت الطباعة الحديثة في أوروبا باستخدام الحروف المفردة على يد الألماني «يوهانس گوتنبرگ» عام 1444 -على وجه التقريب- في مدينة «ماينتس» بألمانيا، تبعها مجموعة من المطابع في المدن الأوروبية الأخرى مثل «روما» بإيطاليا عام 1467، «باريس» بفرنسا عام 1470، «أوترخت» بهولندا عام 1473، «ويستمنستر» بإنگلترا عام 1476، «فيينا» بالنمسا عام 1482، «أوبسالا» بالسويد عام 1483 وغيرها.
المطبعة في التاريخ العثماني
وعند تناول كثير من الباحثين قضية المطبعة وتأسيسها في الأراضي العثمانية فإنهم يذكرون بأن الإدارة العثمانية كانت رافضة لفكرة تواجد المطبعة على أراضيها، ومارست رفض الفكرة بواسطة فتوى من «شيخ الإسلام» [رأس طبقة العلماء في الدولة] بالإضافة إلى فرمانين من السلطان «بايزيد الثاني» وابنه السلطان «سليم الأول»، فيذكرون بأن السلطان بايزيد أصدر فرمانًا عام 1485 يحظر إنشاء المطابع في أراضي الدولة، وأن السلطان سليم الأول أصدر فرمانًا يقضي بالإعدام على من يمارس الطباعة في أراضي الدولة، ومنع إنتاج أي كتب تطبع بحرف عربي [كانت الأبجدية التركية العثمانية تستخدم الحروف العربية].
هذه الادعاءات من أشهر ما يتم التأكيد عليه في الكثير من المراجع التي تتحدث عن المطبعة وعلاقتها بالسلطة العثمانية، وهي ادعاءات لا يوجد أي دليل ولا أثر ولا وثيقة تاريخية تدل عليها، بل يوجد من الآثار والوثائق ما ينفيها ويُدخلها في إطار الشائعات المتداولة التي لا تصمد أمام الحقائق التاريخية والتي نذكر منها:
1. كان تأسيس أول مطبعة في الدولة بمدينة «إسطنبول» قلب الدولة العثمانية وعاصمتها بواسطة الأخوين اليهوديين «صامويل بن نحمياس» و «ديڤيد بن نحمياس» لخدمة المجتمع اليهودي بالمدينة عام 1493 في نفس القرن الذي ظهرت فيه المطبعة في أوروبا، وذلك أثناء فترة حكم السلطان «بايزيد الثاني» مع تتابع تأسيس مطابع يهودية أخرى بالمدينة في الأعوام 1505، 1510، 1511 فترة حكم السلطان، ويشهد على الأمر إلى الآن وجود 19 كتابًا عبريًا في المدينة مطبوع عليهم «طُبع في عهد السلطان بايزيد»، مما ينفي ادعاء صدور فرمان من السلطان يمنع تأسيس المطابع في الدولة.
2. بعد استلام السلطان «سليم الأول» الحكم من أبيه السلطان بايزيد بعام واحد توالت عملية تأسيس مطابع يهودية جديدة بإسطنبول في الأعوام 1513، 1515، 1516، 1518، 1519، 1520 بقي منها إلى الآن عدد 33 كتابًا مطبوعًا كدليل ينقض ادعاء الإعدام الذي قال به السلطان لمن يعمل بالطباعة، كما أسس اليهود بالإضافة إلى العاصمة مطابع في مدن أخرى مثل «سالونيك» عام 1512، و«حلب» عام 1519، و«القاهرة» عام 1557، و«صفد» عام 1577.
3. أعطى السلطان «مراد الثالث» عام 1588 فرمانًا لتُجار إيطاليين يأذن لهم ببيع كتب عربية وعثمانية وفارسية طُبعت في إيطاليا [بعد تعرضهم للضرب في الأسواق أثناء الترويج للكتب] ومنها كتاب «تحرير الأصول لإقليدس» بترجمته العربية مما ينفي ادعاء رفض السلطة العثمانية وجود كتب مطبوعة بالحرف العربي على أراضيها.
4. تأسست مطبعة «للأرمن» في إسطنبول عام 1567، ومطبعة «لليونانيين» عام 1627، كما شهد القرن السابع عشر أول تأسيس لمطبعة للمسيحيين في بلد عربي وهي مطبعة «دير قوزحية» في «لبنان» عام 1610 ولكنها أقفلت سريعًا. أتى عام 1706 كعام تاريخي تأسست فيه أول مطبعة تطبع الكتب بالعربية في «حلب» بالتعاون بين البطريرك «أثاناسيوس الثالث الدباس» والمؤلف والمترجم «عبد الله زاخر» والتي استمرت في العمل طوال عقد ونصف تقريبًا تم توقفت على إثر خلاف بين زاخر والبطريرك أثاناسيوس، فعزم زاخر بعدها على تأسيس «مطبعة ديرشوير» في لبنان عام 1734 وكانت تطبع الكتب بالعربية أيضًا.
صورة مطبوعة من فرمان السلطان مراد الثالث بالسماح للإيطاليين ببيع الكتب العربية والفارسية والتركية العثمانية ذات الحرف العربي في إسطنبول وهي نسخة محفوظة بالمكتبة البريطانية بلندن.
ما الذي أخّر تأسيس أول مطبعة عثمانية رسمية؟
الأتراك لا يطبعون فعلًا كتبهم، ولكن ليس كما هو شائع عندنا بسبب أن المطبعة ممنوعة أو أن كتبهم لا تستحق الطبع
لويجو فرديناندو مارسيلي في زيارته إلى إسطنبول أواخر القرن الثامن عشر
وفي ضوء الحقائق السابقة يتبادر إلى الأذهان استفهام عن السبب في عدم تبني الدولة العثمانية المطبعة رسميًا إلا في أواخر العشرينيات من القرن الثامن عشر، عندما أتى رجل الدولة العثماني «إبراهيم متفرقة» -سنتحدث عنه لاحقًا- وبذل جهده في إقناع السلطة العثمانية بفائدة المطبعة وضرورة تأسيسها؛ فتأسست بناء على دعواته المطبعة بشكل رسمي عام 1727، فلِمَ غضّت الدولة الطرف لأزيد من قرنين ولم تشرع بشكل جاد في تبني هذا الاختراع الهام؟
الإجابة عن هذا التساؤل تتعدد ما بين عوامل اجتماعية وثقافية ودينية نشأت في الأساس من المجتمعات المسلمة التي تحكمها الدولة -وخارجها أيضًا- فالنظر إلى تدوين العلم بخط اليد بشكل جميل على أنه أشرف من طبع الحروف، وانتشار الناسخين والخطاطين بأعداد ضخمة في أنحاء الدولة وحيازتهم على مكانة خاصة في المجتمع، والنظر من بعض مشايخ وعلماء الدولة إلى أن أمر الطباعة قد يعمل على إدخال التحريف إلى كتب العلوم الشرعية والعمل على نشر الكتب الضارة، كل هذه العوامل اجتمعت لتشكِّل رفضًا مجتمعيًا قويًا لهذا الاختراع وتفضيل الكتاب المخطوط على الكتاب المطبوع وإن كان أسهل في الحصول عليه وأرخص ثمنًا.
ومن الممكن التدليل على ما سبق عبر مجموعة من المشاهدات التي سجلها رحّالة ودبلوماسيون أجانب زاروا الدولة في القرن السابع عشر والثامن عشر، فالكونت الإيطالي «لويجو فرديناندو مارسيلي» في زيارة إلى «إسطنبول» في أواخر القرن السابع عشر قد ذكر أن المدينة بها 80 ألف شخص يعملون في مهنة النسخ، وهو رقم لا شك في مبالغته إذا قارناه بعدد سكان المدينة حينئذ الذي يُقدر بحوالي 500 أو 600 ألف نسمة، فلا يُتخيل أن يعمل ما يقرب من 16% من حجم السكان بالنسخ ورسم الخط وما يرتبط بهما فقط، إلا أن دلالاته تشير إلى وجود آلاف من الناسخين في المدينة، مما يعني حرمان هذه الآلاف وأسرهم من مصدر رزقهم في حالة انتشار المطبعة في المدينة.
وإذا اعتبرنا رفض آلاف من الناسخين والخطاطين لاعتماد المطبعة كوسيلة لنشر المعرفة أمر طبيعيًا؛ بسبب الضرر الواقع عليهم في حالة توجه المسلمين إليها وطبع كتبهم بواسطتها، إلا أنه لابد من النظر إلى كيفية تقبل الناس لفكرة الكتاب المطبوع بدلًا عن المخطوط، فشهادة المستشرق الفرنسي «أنطوان گالاند» الذي سافر إلى «إسطنبول» بين العامين 1672 و 1673 تعطينا فكرة عن الطريقة التي نظر بها المجتمع إلى الكتب المطبوعة، فيقول أنه كان يمر في الأسواق فيجد مثلا كتاب «القانون في الطب» لابن سينا بنسخة مطبوعة هو وكتب أخرى يعلوها التراب على الأرفُف ولا يشتريها أحد، ويجد نفس الكتاب بنسخة مخطوطة فيُباع بكل سهولة وتنفد نُسخه سريعًا على الرغم من كون المخطوط أغلى ثمنًا من المطبوع، فكان الناس ينظرون إلى الكتب المطبوعة على أنها مُنتج ضعيف القيمة.
وهناك ظاهرة تلفت النظر بخصوص المقاومة المجتمعية لفكرة المطبعة، فبوصول القرنين السابع عشر والثامن عشر لاحت ظاهرة جديدة في أراضي الدولة تمثلت في إنتاج مخطوطات بجودة أقل وبسعر أقل من المعتاد في محاولة لمنافسة رخص الكتاب المطبوع، وكانت هذه المخطوطات تُكتب بشكل أسرع وتوزع بشكل تجاري أكبر في مدن رئيسية مثل «القاهرة» و«دمشق» و«إسطنبول» لرخص ثمنها، ويشهد القرن الثامن عشر على إنتاج أعداد ضخمة جدًا من هذه المخطوطات الرخيصة في ظاهرة تحمل دلالات هامة منها الرغبة في منافسة المطبوع رخيص الثمن.
السلطان أحمد الثالث الذي أصدر فرمانا بالسماح بتأسيس أول مطبعة رسمية للدولة العثمانية عام 1727
إذن فالرفض أتى في الأساس من قاعدة المجتمع وليس من السلطة، وتَطلب نشر ثقافة الكتب المطبوعة تطورَ المجتمعِ المسلمِ ليقبل بفكرة الكتاب المطبوع قبل أن تقبله السلطة، إلا أن فترة حُكم السلطان «أحمد الثالث» [1703-1730] التي تتسم بالاهتمام بالعلم والمعرفة تماشت في مناخها العلمي على تبني أمر المطبعة بشكل رسمي، وتم إصدار فرمان يسمح لإبراهيم متفرقة بتأسيس أول مطبعة رسمية للدولة العثمانية.
إبراهيم متفرقة وتأسيس أول مطبعة عثمانية
إبراهيم متفرقة [1670-1747] هو دبلوماسي ومؤلف ومترجم ورجل دولة عثماني من أصل مجري، التجأ إلى الدولة العثمانية وتحول من «المسيحية التوحيدية» إلى «الإسلام»، وبسبب إلمامه باللغة الفرنسية والتركية والمجرية، ومهارته بالأمور السياسية والتنظيمية وقدرته الخاصة على إجراء المفاوضات، عينته الدولة مستشارًا ومبعوثًا خاصًا للسلطان للشئون الخارجية، فقام بإجراء عدة مفاوضات دبلوماسية خاصة مع «النمسا» و«روسيا» عام 1715 كما شارك في المباحثات التي جرت في «بولونيا» بين الدولة العثمانية والبولونيين عام 1737، وأدار جلسة المباحثات التي جرت حول تسليم قلعة «أورشوڤا» عام 1738 إلى الدولة العثمانية.
ألّف إبراهيم وترجم عدة كتب مثل «رسالة إسلامية» التي كتبها عام 1710 موضحًا أسباب انتقاله من المسيحية إلى الإسلام وضمّنها انتقادًا شديدًا للكاثوليكية والباباوية، مع توضيح أن الإسلام خاتم الرسالات وكيف أن الكتب السابقة كانت تبشر بسيدنا محمد [صلى الله عليه وسلم]. وضع كذلك من ضمن مؤلفاته الهامة رسالة «وسيلة الطباعة» التي وضَّح فيها أهمية المطبعة في حياة الشعوب، وكيف أن الكتاب المطبوع رخيص الثمن مقارنة بالكتاب المخطوط سيكون أفيد بكثير في نشر المعارف وخدمة طلبة العلم وقُدم إلى الصدر الأعظم، أما الرسالة الثالثة فهي «أصول الحكم في نظام الأمم» وهي رسالة وضعها بناءً على طلب السلطان «محمود الأول» [1730-1754] لتشخيص العلل والمشاكل التي تواجه الدولة وكيفية التغلب عليها.
يرتبط اسم إبراهيم بتأسيس أول مطبعة إسلامية عثمانية رسمية في الدولة تطبع الكتب بالتركية العثمانية ذات الحروف العربية، فقد كرَّس جهودًا كبيرة للترويج للفائدة التي ستعود على المجتمع العثماني بتأسيس المطبعة، وحَمل على عاتقه اختيار العناوين التي ستطبعها هذه المطبعة، واستمر لسنوات في تجريب عملية الطباعة بشكل شخصي قبل أن تتبنى الدولة الاختراع بشكل رسمي بحثٍّ كبير منه، فعمل على استقدام آلات الطباعة من أوروبا مجريًا تجارب الطباعة في منزله بمنطقة «فاتح» بإسطنبول قبل أن يحصل على إذن رسمي بذلك.
بدأت قصة المطبعة الرسمية الأولى في الدولة بإصدار السلطان «أحمد الثالث» فرمانًا عام 1727 يجيز تأسيس «مطبعة» لكونها تؤدي إلى نشر المعارف والعلوم بين أفراد الأمة الإسلامية، فسمح الفرمان بطباعة كافة الكتب عدا كُتب «الفقه»، «التفسير»، «الحديث الشريف» وكتب «علم الكلام» بموافقة شيخ الإسلام «ينيشيهرلي عبد الله أفندي» الذي أُدرجت فتواه في نص فرمان السلطان، وبتقريظ مجموعة من العلماء والقضاة لرسالة «وسيلة الطباعة» بكلمات تؤكد على تأييدهم لفكرة تأسيس المطبعة مع وضع كل هذا في بداية أول إنتاج المطبعة وهو معجم «وان قولو».
الصفحة الأولى من معجم وان قولو الذي صدر من مطبعة متفرقة عام 1729
شرع متفرقة بوضع خطة لطباعة مجموعة من العناوين ابتداءً من عام 1729 حتى عام 1742، ونتج عنها طباعة 17 عنوانًا مختلفًا في المعاجم والسياسة والتاريخ والجغرافيا وبعدد 500 إلى 1000 نسخة لكل عنوان، فكان باكورة الإنتاج متمثلًا في معجم «وان قولو» أول عمل يرى النور من مطبعة متفرقة في مجلدين عام 1729، وهو الترجمة العثمانية لمعجم «الصحاح» اللغوي الذي وضعه «إسماعيل بن حمّاد الجوهري» في القرن الرابع الهجري، وتُرجم إلى التركية العثمانية في القرن السادس عشر بواسطة «مُحمد بن مصطفى الواني». استمر متفرقة في طباعة الكتب بشكل منتظم حتى قبل وفاته عام 1747 ليطوي بذلك صفحة تاريخية هامة من الذاكرة التاريخية الإسلامية لتأسيس هذا الاختراع الذي ساهم في تغيير شكل العالم الإسلامي في القرون التالية.
مصدر