أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، اذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بالاطلاع على القوانين بالضغط هنا. كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة المواضيع التي ترغب.

الانتقاء الطبيعي وظهور العقل

حفظ البيانات؟
الرئيسية
التسجيل
الدخول
فقدت كلمة المرور
القوانين
البحث فى المنتدى


 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول



 

 الانتقاء الطبيعي وظهور العقل

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
mi-17

المدير
وزيــر الدفــاع

المدير  وزيــر الدفــاع
mi-17



الـبلد : الانتقاء الطبيعي وظهور العقل Qmdowc10
المزاج : الحمد لله
التسجيل : 23/02/2013
عدد المساهمات : 43819
معدل النشاط : 58565
التقييم : 2418
الدبـــابة : الانتقاء الطبيعي وظهور العقل B3337910
الطـــائرة : الانتقاء الطبيعي وظهور العقل Dab55510
المروحية : الانتقاء الطبيعي وظهور العقل B97d5910

الانتقاء الطبيعي وظهور العقل 1210

الانتقاء الطبيعي وظهور العقل Best11


الانتقاء الطبيعي وظهور العقل Empty

مُساهمةموضوع: الانتقاء الطبيعي وظهور العقل   الانتقاء الطبيعي وظهور العقل Icon_m10الجمعة 6 يناير 2017 - 22:23

التاريخ 08/11/1977
الكاتب كارل بوبر

الانتقاء الطبيعي وظهور العقل Karl-Popper-750x422


ألقيت هذه المحاضرة بكلية داروين، بجامعة كامبريدج، بتاريخ 8 نوفمبر 1977. وتتوفر منها نسخة صوتية باللغة الانجليزية.

إنه لشرف عظيم أن أُدعى لإلقاء المحاضرة الأولى عن داروين بكلية داروين، بجامعة كامبريدج، التي من بين جميع الجامعات هي الأوثق صلة بتشارلز داروين وعائلة داروين.

عندما تلقيت الدعوة، كنت قلقًا حيال إن كان ينبغي علىَّ أن أقبلها أم لا. فأنا لست بعالم، ولا مؤرخ. هناك علماء داروينيين متخصصين في دراسة حياته وعصره؛ ولكنني لم أفعل شيئًا من هذا القبيل. لهذه الأسباب، أعتقدت أنني يجب أن أرفض الدعوة. ومع ذلك، كانت الدعوة طيبة وطارئة؛ ومن دعوني كانوا بالتأكيد مدركين لحقيقة أنني لست عالم أحياء ولا دارسٌ لداروين، بل ببساطة هاوي. وفي النهاية، قبلت الدعوة، واخترت الموضوع فكرةً، وفق اعتقادي، مرتبطة على نحو وثيق بوجهين من أوجه الاهتمام الأساسية لداروين؛ الانتقاء الطبيعي، وتطور العقل.

ولكن في أول محاضرة عن داروين ينبغي قول بضع كلمات عن تشارلز داروين نفسه، حتى وإن كان على لسان شخص دون أي مؤهلات خاصة للحديث عنه. لذلك ربما قد أبدأ فقط بقول إن وجه داروين واسمه ينتميان إلى أولى ذكريات طفولتي.

خلال دراسة والدي في فيينا، كان هناك صورتين شخصيتين مميزتين لرجلين من كبار السن. هما آرثر شوبنهاور وتشارلز داروين. بالتأكيد سألت والدي عن هذين الرجلين، قبل حتى أن أتعلم القراءة. كانت صورة شوبنهاور مثيرة للاهتمام، رغم أنها لم تجذبني كثيرًا. لكن داروين بدا أكثر جاذبية. كان لديه لحية بيضاء طويلة، أطول حتى من لحية والدي، وارتدى عباءة داكنة غريبة؛ معطف واقي من المطر دون أكمام. بدا ودودًا جدًا وهادئً جدًا، وحزينًا ووحيدًا قليلًا. إنه مظهره في صورته الشهيرة عام 1881، عندما كان عمره 72 عامًا، قبل عامٍ من وفاته. هكذا عرفت وجه داروين واسمه حسبما أتذكر. علمت أنه كان رجلًا إنجليزيًا ومتجولًا عظيمًا، وأحد أعظم دارسي الحيوانات في التاريخ الإنساني؛ وقد أعجبت به كثيرًا.

لا يعد داروين أعظم عالم أحياء فقط – وتمت مقارنته عادةً بنيوتن – بل أيضًا أكثرهم إثارة للإعجاب، التبجيل، وبالفعل هو المحبوب الأول. أعلم بشأن عدد قليل من الكتب التي يمكن مقارنتها برسالته المكونة من خمسة أجزاء، التي حررها ابنه فرانسيس، والتي اشتملت أيضًا على سيرته الذاتية. يتحدث في تلك الكتب إنسان اقترب من الكمال ببساطته، تواضعه وإخلاصه للحقيقة.

تتناول محاضرتي موضوع «الانتقاء الطبيعي وظهور العقل». بالتأكيد يعد الانتقاء الطبيعي الموضوع الأكثر أهمية بالنسبة لداروين. ولكنني لن اكتفي بهذا الموضوع فقط. بل سأتبع داروين أيضًا في مقاربته لمشكلة الجسد والعقل، وعقل الرجل وعقل الحيوان.

سأحاول أن أوضح أن نظرية الانتقاء الطبيعي تدعم عقيدة أدعمها أنا أيضًا، أقصد بذلك العقيدة غير العصرية المنطوية على التفاعل المتبادل بين العقل والدماغ.

ستنقسم محاضرتي إلى أربعة أجزاء.

في الجزء الأول، بعنوان «الانتقاء الطبيعي عند داروين مقابل اللاهوت الطبيعي عند بالي»، سأعلق بإيجاز على الثورة الداروينية وعلى ثورة اليوم المضادة على العلوم.

الجزء الثاني بعنوان «الانتقاء الطبيعي ومكانته العلمية».

الجزء الثالث بعنوان «مشكلة هكسلي». ويضم هذا الجزء الحجة الأساسية لمحاضرتي، وهي قائمة على الانتقاء الطبيعي. إنها حجة للتفاعل المتبادل بين العقل والدماغ، ومضادة لرؤية توماس هنري هكسلي القائلة بأن العقل ظاهرة عارضة. كما أنها حجة ما يطلق عليه نظرية هنري، النظرية العصرية حاليًا القائلة بأن العقل والدماغ متطابقان.

الجزء الرابع، بعنوان «ملاحظات على ظهور العقل»، أختتمه ببضع اقتراحات متضاربة بشأن ما يبدو أنه أعظم معجزة بكوننا – ظهور العقل، والأكثر استثنائية، الإدراك.

1. الانتقاء الطبيعي لدى داروين مقابل اللاهوت الطبيعي لدى بالي

نُشرت النسخة الأولى من كتاب داروين «أصل الأنواع» عام 1859. ردًا على رسالة من جون لوبوك، شكر فيها داروين على نسخة مسبقة من كتابه، قال داروين تعليقًا مميزًا بشأن كتاب وليام بالي، «اللاهوت الطبيعي»، الذي نُشر قبل نصف قرن. حيث كتب داروين: «لا أظن أنني أعجبت مطلقًا بكتاب أكثر من كتاب بالي «اللاهوت الطبيعي». كان يمكنني أن أقول ذلك مسبقًا»1. وبعد سنوات في سيرته الذاتية، كتب داروين عن بالي أن «الدراسة المتأنية لأعماله … كانت الجزء الأكاديمي الوحيد في مسيرتي الأكاديمية (بكامبريدج) الذي .. كان أقل استخدامًا بالنسبة لي في تعليم ذهني»2.

بدأت بذكر هذه الاقتباسات لأن المشكلة التي يشكلها بالي أصبحت واحدة من أهم مشكلات داروين. إنها مشكلة «حجة التصميم.الذكي».

كانت «حجة التصميم الذكي» لوجود الإله في جوهر إيمان بالي بالإله. حيث يقول بالي إنه إن عثرت على ساعة، سيكون من الصعب أن تشكك في أنها قد صُممت من قِبل صانع ساعات. لذلك فإن فكرت في كائن أسمى، بأعضائه المعقدة والهادفة، مثل العينين، فإنه حسبما قال بالي، لا بد أن تستنتج أنه قد صُمم من قبل خالق ذكي. هذه هي حجة بالي للتصميم الذكي.

قبل داروين، كانت نظرية الخلق الخاص – القائلة بإن كل نوع قد صُمم بواسطة الخالق – مقبولة على نطاق واسع، فقط في جامعة كامبريدج، كما في أماكن أخرى، من قبل العديد من أفضل العلماء. كان هناك بالتأكيد نظريات بديلة عن الوجود، مثل نظرية لامارك؛ وقد هاجم هيوم مسبقًا، على نحو ضعيف، حجة التصميم الذكي؛ لكن نظرية بالي كانت في تلك الفترة النظرية الأكثر قبولًا وسط العلماء الهامين.

مما لا يصدق تقريبًا مقدار التغيير الذي طرأ على الوضع في أعقاب ذلك: أي، نشر داروين عام 1859 لكتاب «أصل الأنواع». أخذ عدد هائل من النتائج العلمية الأكثر إبهارًا والمُجربة بشكل جيد مكانة الحجة، التي لم يكن لها من قبل مطلقًا أي مكانة علمية. لقد تغير كامل توقعاتنا وصورتنا عن الكون كما لم يحدث من قبل.

لا تزال الثورة الداروينية مستمرة. لكننا الآن في خضم ثورة مضادة، ردة فعل ثورية ضد العلم وضد العقلانية. أشعر أنه من الضروري اتخاذ موقف بهذا الصدد في محاضرة عن داروين، وإن كان ذلك بشكل موجز فقط؛ بالإضافة إلى الإشارة لموقف داروين نفسه.

بالنسبة لموقفي، باختصار شديد، فإنني أدعم العلم والعقلانية، ولكنني ضد تلك المطالبات المبالغ فيها من العلوم التي شُجبت أحيانًا، على نحو صحيح، بوصفها «علموية». أنا أدعم «البحث عن الحقيقة»، والجرأة الفكرية في البحث عن الحقيقة؛ لكنني ضد الغطرسة الفكرية، وخصوصًا ضد الزعم الخاطئ بأننا نمتلك الحقيقة في جيوبنا، أو أننا يمكننا الاقتراب من اليقين.

من المهم إدراك أن العلم لا يقدم تأكيدات بشأن الأسئلة المطلقة – بشأن ألغاز الوجود، أو بشأن مهمة الإنسان في هذا العالم.

كان ذلك عادة مفهومًا بشكل جيد. لكن بعض العلماء العظام، والعديد من الأقل منهم مكانة، أساءوا فهم الوضع. لقد أسيء تفسير حقيقة أن العلم لا يمكنه تقديم أي بيان بشأن المبادئ الأخلاقية على أنها إشارة إلى عدم وجود مثل تلك المبادئ؛ بينما في الواقع يفترض البحث عن الحقيقة ضمنيًا وجود الأخلاق. كما فُسر نجاح الانتقاء الطبيعي الدارويني في إيضاح أن الغرض أو الهدف، الذي يبدو عضو كالعين خادمًا له، بشكل خاطئ على أنه العقيدة العدمية القائلة بأن الغرض ظاهري فقط، وأنه لا يمكن أن يكون هناك أي هدف أو غرض أو معنى أو مهمة في حيواتنا.

رغم أن داروين قد حطم حجة التصميم الذكي لدى بالي عبر إظهار أن ما بدا لبالي كتصميم هادف يمكن أيضًا تفسيره كنتيجة للصدفة والانتقاء الطبيعي، لكن داروين كان متواضعًا للغاية وغير حاسم بالنسبة لمزاعمه. كان لديه مراسلات عن التصميم الإلهي مع آسا جراي من جامعة هارفارد؛ حيث كتب داروين لجراي، بعد مرور عام على كتابه «أصل الأنواع»: «.. بالنسبة للتصميم الذكي. أدرك أنني خاضع لتشويش ذهني ميؤوس منه. لا أستطيع التفكير في أن العالم، مثلما نراه، يعد نتيجة للصدفة، ومع ذلك لا استطيع النظر إلى كل شيء منفصل على أنه نتيجة للتصميم الذكي»3. وبعد عام، كتب داروين إلى جراي: «بالنسبة للتصميم الذكي، أشعر بميل أكبر إلى رفع الراية البيضاء عن إطلاق طلقة أخرى .. تقول إنك تواجه ضبابية؛ وبالنسبة لي فإنني في الوحل؛ ومع ذلك لا أستطيع حسم الأمر»4.

بالنسبة لي، يبدو أن السؤال قد لا يكون في متناول العلم. ومع ذلك، أظن أن العلم قد قدم لنا الكثير بشأن الكون المتطور المتصل بشكل مثير للاهتمام بمشكلة بالي وداروين المتعلقة بالتصميم الذكي.

أظن أن العلم يقترح لنا (تجريبيًا بالتأكيد) صورة عن كونٍ خلاق أو حتى مبدع؛ عن كون تظهر فيه أمور جديدة على مستويات جديدة.

على المستوى الأول، هناك نظرية ظهور النوى الذرية الثقيلة في مركز النجوم الكبرى، وعلى مستوى أسمى، هناك الدليل على ظهور الجزيئات العضوية في مكان ما في الفضاء.

على المستوى التالي، هناك ظهور الحياة. حتى إن كان أصل الحياة يجب أن يصبح في أحد الأيام قابلًا للتكاثر في المختبر، تخلق الحياة أمرًا جديدًا تمامًا في الكون؛ إنه النشاط المميز للكائنات الحية؛ خصوصًا الأفعال الهادفة عادة الخاصة بالحيوانات؛ وحل المشكلات لدى الحيوانات. يعتبر جميع الكائنات الحية حلالين للمشكلات باستمرار؛ رغم عدم وعيهم بمعظم المشكلات التي يحاولون حلها.

على المستوى التالي، تتمثل الخطوة العظيمة في ظهور حالات الوعي. مع التمييز بين حالات الوعي وحالات عدم الوعي، مجددًا هناك أمر جديد تمامًا وله أهمية عظيمة إلى الكون، إنه عالم جديد: عالم الخبرة الواعية.

في المستوى التالي، تظهر منتجات العقل البشري، مثل الأعمال الفنية؛ والأعمال العلمية؛ خصوصًا النظريات العلمية.

أظن أن العلماء، مهما كانوا متشككين، لا بد أن يعترفوا بأن الكون، أو الطبيعة، أو أيًا كانت تسميتنا له، مبدع. لأنه أنتج بشرًا مبدعين: لقد أنتج شكسبير ومايكل أنجلو وموزارت، وبالتالي أنتج أعمالهم بشكل غير مباشر. لقد أنتج داروين، وبالتالي خلق نظرية الانتقاء الطبيعي. لقد دمرت نظرية الانتقاء الطبيعي الدليل على التدخل المحدد الإعجازي للخالق. لكنها تركتنا أمام معجزة الإبداع في الكون، الحياة، والعقل البشري. رغم أن العلم ليس لديه ما يقوله بشأن خالق شخصي، حقيقة ظهور التجديد، والإبداع، فإنه بالكاد يمكن إنكاره. أظن أن داروين نفسه، الذي لم يستطع «أن يبتعد»، قد يتفق على أنه، رغم أن الانتقاء الطبيعي كان فكرة فتحت عالمًا جديدًا للعلم، لم تقم بإزالة معجزة الإبداع، من صورة الكون الذي ترسمه العلوم؛ كذلك لم تقم بإزال معجزة الحرية: حرية الإبداع؛ وحرية اختيار أهدافنا وغاياتنا.

لتلخيص هذه الملاحظات المقتضبة:

الثورة المضادة ضد العلم غير مبررة فكريًا؛ فعلى الصعيد المعنوي، هي غير قابلة للإلغاء. وعلى الجانب الآخر، ينبغي على العلماء مقاومة إغراءات العلموية. يتعين عليهم دائمًا تذكر أن العلم تجريبي وغير معصوم من الخطأ،، مثلما تذكر داروين دائمًا حسبما أظن. لا يحل العلم جميع ألغاز الكون، ولا يعدُ أبدًا بحلها. ومع ذلك، يمكنه أحيانًا تسليط بعض الضوء غير المتوقع على أعمق ألغازنا، غير القابلة للحل غالبًا.

2. الانتقاء الطبيعي ومكانته العلمية

عند الحديث عن الداروينية، سأتحدث دائمًا عن نظرية العصر – إنها النظرية الخاصة بداروين للانتقاء الطبيعي المدعومة بالنظرية المندلية عن الوراثة، وبنظرية الطفرة والتوليف الجيني بين مجموعة من الجينات، وبفك الشفرة الوراثية. إنها نظرية قوية ومثيرة للإعجاب بشدة. الزعم بأنها تشرح التطور بالكامل هو بالتأكيد زعم جريء، وبعيد جدًا عن التأكيد. جميع النظريات العلمية تمثل تخمينات، حتى تلك النظريات التي اجتازت بنجاح الكثير من الاختبارات القاسية والمتنوعة. لقد تم اختبار الدعم المندلي للدراوينية الحديثة بشكل جيد، وكذلك نظرية التطور التي تقول إن جميع صور الحياة البرية قد تطورت من أصل عدد قليل من الكائنات الحية البدائية وحيدة الخلية، التي ربما حتى يعود أصلها إلى كائن واحد.
ومع ذلك، إسهام داروين الأهم في نظرية التطور، نظريته عن الانتقاء الطبيعي، يصعب اختبارها. هناك بعض الاختبارات، وحتى بعض الاختبارات التجريبية؛ وفي بعض الحالات، مثل الظاهرة الشهيرة «اسوداد الجلد الصناعي»، يمكن ملاحظة حدوث الانتقاء الطبيعي أمام ناظرنا، إن جاز التعبير. ومع ذلك، يصعب تجاوز الاختبارات القاسية حقًا لنظرية الانتقاء الطبيعي، بشكل يفوق كثيرًا اختبارات النظريات الأخرى المشابهة في الفيزياء أو الكيمياء.

حقيقة أن نظرية الانتقاء الطبيعي يصعب اختبارها أدت بالبعض، المعارضين للداروينيين وحتى بعض الداروينيين العظماء، إلى الزعم بأنها مجرد تكرار للكلام. والحشو المشابه لجملة «جميع الجداول تعتبر جداول» غير قابل للاختبار بالتأكيد؛ كما أنه ليس له أي قوة إيضاحية. لذلك فإن الأمر أكثر إثارة للدهشة أن نسمع أن بعض أعظم الداروينيين المعاصرين يصيغون النظرية بهذه الطريقة لدرجة وصفها بالحشو القائل بأن هذه الكائنات التي تنتج معظم الذرية تنتج معظم الذرية. حتى أن سي إتش أدينجتون يقول في مكان ما (ويدافع عن وجهة النظر هذه في أماكن أخرى) إن «الانتقاء الطبيعي .. يتضح أنه … حشو». ومع ذلك، يعزي في نفس المكان إلى النظرية «قوة هائلة … للتفسير». وبما أن القدرة التوضيحية للحشو منعدمة، هناك بالتأكيد خطأ ما هنا.

ومع ذلك يمكن العثور على مسارات مشابهة في أعمال داروينيين كبار مثل رونالد فيشر، جون هالدين، وجورجيلورد سيمبسون؛ وآخرين.

أذكر هذه المشكلة لأنني أيضًا أنتمي إلى الجناة. فنتيجة تأثري بما قالوه، وصفت في الماضي النظرية بأنها «شبه مكررة»، ولقد حاولت شرح كيف أن نظرية التطور الطبيعي يمكن أن تكون غير قابلة للاختبار (كحال ما هو مكرر)، ومع ذلك فإنها ذات أهمية علمية كبيرة. انطوى حلي على أن عقيدة الانتقاء الطبيعي تمثل برنامج البحث الميتافيزيقي الأكثر نجاحًا، حيث تثير مشكلات مُفصلة في العديد من المجالات، كما تخبرنا بشأن ما قد نتوقعه كحل مقبول لهذه المشكلات.

لازلت أعتقد أن الانتقاء الطبيعي يعمل بتلك الطريقة كبرنامج أبحاث. ومع ذلك، غيرت رأيي بشأن قابلية الاختبار والوضع المنطقي لنظرية الانتقاء الطبيعي؛ ويسرني أن أحظى بالفرصة للاستدراك. قد يسهم استدراكي، حسبما آمل، قليلًا في فهم مكانة الانتقاء الطبيعي.

المهم هو إدراك المهمة التوضيحية للانتقاء الطبيعي؛ وخصوصًا إدراك ما يمكن توضيحه دون نظرية الانتقاء الطبيعي.

قد نبدأ بملاحظة أنه، بالنسبة للشعوب الصغيرة بما فيه الكفاية والواقعة في انعزال تكاثري، تعد النظرية المندلية للجينات ونظرية الطفرة والتوليف الجيني سويًا كافيتان لتوقع، دون الانتقاء الطبيعي، ما أطلق عليه «الانحراف الجيني». فإن عزلت عددًا صغيرًا من الأشخاص عن الشعب الرئيسي ومنعتهم من التزاوج مع الشعب الرئيسي، بعد فترة، سيختلف توزيع الجينات في تجميعة جينات الشعب الجديد بشكل ما عن الخاص بالشعب الأصلي. سيحدث ذلك حتى وإن كانت ضغوط الانتقاء غائبة بالكامل.
كان موريتز فاجنر، أحد معاصري داروين، وبالتأكيد عاش قبل المندلية، مدركًا لهذا الوضع. وبناء على ذلك، وضع نظرية التطور عن طريق الانجراف الوراثي، التي أصبحت ممكنة بفضل الانعزال التكاثري عبر الفصل الجغرافي.

من أجل فهم مهمة الانتقاء الطبيعي، يجدر تذكر رد داروين على موريتز فاجنر. حيث كان رد داروين الرئيسي على فاجنر: إن لم يكن هناك انتقاء طبيعي، فلا يمكنك تفسير تطور الأعضاء المصممة على نحو واضح، مثل العين. أو بعبارة أخرى، دون الانتقاء الطبيعي، لن تتمكن من حل مشكلة بالي.

في صورتها الأكثر جرأة وشمولًا، تؤكد نظرية الانتقاء الطبيعي على أن جميع الكائنات الحية قد تطورت، وخصوصًا جميع تلك الأعضاء المعقدة للغاية التي قد يُفسر وجودها كدليل على التصميم الذكي، وجميع صور السلوك الحيواني، قد تطورت كنتيجة للانتقاء الطبيعي؛ أي، كنتيجة للاختلافات القابلة للتوريث الشبيهة بالصدفة، التي يتم فيها التخلص من الاختلافات عديمة الفائدة، حتى تبقى المفيدة فقط. إن صيغت بهذه الطريقة الشاملة، لا تعد النظرية قابلة للتفنيد فقط، بل ومدحوضة. حيث لا تخدم جميع الأعضاء أغراضًا مفيدة؛ مثلما أشار داروين نفسه، بل هناك أعضاء مثل ذيل الطاووس، وبرامج سلوكية مثل استعراض الطاووس لذيله، والتي لا يمكن تفسيرها حسب منفعتها، وبالتالي ليس بالانتقاء الطبيعي. فسرها داروين بتفضيل الجنس الآخر؛ أي الانتقاء الجنسي. بالتأكيد يمكن تجاوز هذا الدحض بواسطة بعض المناورات الكلامية، بل يمكن تجاوز أي دحضٍ لأي نظرية. لكن عند ذلك نقترب من جعل النظرية مجرد تكرار. يبدو أفضل كثيرًا الاعتراف بأنه ليس كل ما يتطور يكون مفيدًا، رغم أن عدد هذه الأشياء مذهل؛ وأنه من أجل تخمين وجه الاستفادة من أحد الأعضاء أو البرامج السلوكية، نخمن تفسيرًا محتملًا بواسطة الانتقاء الطبيعي؛ لسبب تطورها بهذا الشكل، وربما حتى لكيفية تطورها.

بعبارة أخرى، يبدو لي أنه كحال نظريات عديدة في الأحياء، لا تعد نظرية الانتقاء الطبيعي شاملة بدقة، رغم أنها تبدو منطقية في عدد كبير من الحالات الهامة.

وفق نظرية داروين، ضغوط الانتقاء الثابتة بشكل كافٍ قد تحول الانحراف الجيني، العشوائي في حالات أخرى، إلى انحراف في ظاهره يمكن توجيهه لأغراض مفيدة. بهذه الطريقة، ستترك ضغوط الانتقاء، إن وجدت، بصمتها على المادة الوراثية. (إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن هناك ضغوط انتقاء يمكن أن تعمل بنجاح على مدار فترات قصيرة جدًا؛ أحد الأوبئة الخطيرة قد لا يصيب فقط من لديهم مناعة وراثية).

سألخص الآن سريعًا ما قلته حتى الآن بشأن نظرية الانتقاء الطبيعي لداروين.
قد تكون نظرية الانتقاء الطبيعي مصاغة بشكل جيد لدرجة جعلتها بعيدة عن التكرارية. في هذه الحالة لا تعد النظرية قابلة للاختبار فقط، بل ويتضح أنها ليست صحيحة على نحو شامل. حيث يبدو أن هناك استثناءات، كحال العديد من النظريات البيولوجية؛ وبالنظر إلى الطبيعة العشوائية للاختلافات التي يعمل على أساسها الانتقاء الطبيعي، لا يعد حدوث الاستثناءات مفاجئًا. وبالتالي، لا تعد جميع ظواهر التطور مفسرة من قبل الانتقاء الطبيعي وحده. لكن في كل حالة خاصة يتطلب الأمر برنامج بحث صعب من أجل إظهار المدى الممكن لتحميل الانتقاء الطبيعي مسؤولية تطور عضو أو برنامج سلوكي محدد.

من المثير للاهتمام بشكل كبير فكرة أن الانتقاء الطبيعي يمكن تعميمها. وفي هذا الصدد، من المفيد مناقشة العلاقة بين الانتقاء والتعليمات. فبينما نظرية داروين انتقائية، تعد النظرية الإيمانية لبالي تعليماتية. إنه الخالق الذي، وفق تصميمه، تُهمه القوالب، ويرشدها إلى أي شكل تتخذه. وبالتالي يمكن اعتبار نظرية داروين الانتقائية نظرية تفسر عن طريق الانتقاء أمرًا يبدو كالتعليمات. بعض السمات الثابتة للبيئة تترك بصمتها على المواد الجينية كما لو أنها قد صبّتها؛ بينما في الحقيقة، هي انتقتها.

قبل سنوات، زرت برتراند راسل في غرفته بكلية ترينيتي، حيث أراني إحدى مخطوطاته، والتي لم يكن بها أي تصحيحات في صفحات كثيرة. فبمساعدة قلمه، كان قد لقن الورقة. يعد ذلك مختلفًا بالفعل عما أفعله. فمخطوطاتي مليئة بالأخطاء والتصحيحات – وهي ممتلئة لدرجة أنه من السهل إدراك أنني أعمل وفق أسلوب أشبه بالتجربة والخطأ؛ وفق التقلبات الأكثر أو الأقل عشوائية التي أنتقي على أساسها ما يبدو لي مناسبًا. ربما نطرح السؤال حول ما إذا كان راسل لم يفعل أمرًا مشابهًا، حتى وإن كان ذلك في باله فقط، وربما حتى دون وعي، وعلى أي حال، بسرعة شديدة. في الواقع، يعد ما يبدو على أنه تعليمات، مبني بشكل متكرر على آلية ملتوية للانتقاء، حسبما يوضح حل داروين للمشكلة التي يمثلها بالي.

أقترح أننا قد نحاول الظن بأن أمرًا كهذا يحدث في العديد من الحالات. قد نظن بالفعل أن برتراند راسل قد أنتج صيغًا تجريبية بقدر ما فعلت أنا تقريبًا، لكن عقله عمل بشكل أسرع من عقلي في تجريبها ورفض الترشيحات اللفظية غير المناسبة. يقول أينشتاين في مكان ما إنه قد أنتج ورفض عددًا مهولًا من الفرضيات قبل أن التوصل إلى معادلات النسبية العامة (بعد رفضها في البداية). من الواضح أن طريقة الإنتاج والانتقاء تعمل في وجود ردود فعل سلبية.

منذ أكثر من أربعين عامًا، اقترحت الظن بأن هذه أيضًا هي الطريقة التي اكتسبنا بواسطتها معرفتنا بالعالم الخارجي. نحن ننتج التخمينات، أو الفرضيات، ونجربها، ونرفض غير المناسب منها. إنه أسلوب الانتقاء الحاسم، إن نظرنا إليها عن كثب. وعن بُعد، تبدو كتعليمات أو، مثلما يطلق عليها عادة، استقراء. ما يفعله رسام عادة ما يكون مشابهًا بهذا إلى حد مذهل. حيث يضع على قماشه بقعة من اللون ويتراجع ليحكم على أثره، من أجل إما قبوله، أو لرفضه والعودة إلى ذات البقعة مجددًا. لا يهم بالنسبة لنقاشي هنا إن كان يقارن الأثر بشيء مرسوم، أو بصورة داخلية، أو إن كان فقط يوافق على الأثر أو يرفضه. لقد وُصف ما هو مهم هنا من قبل إرنست جومبريتش بمقولته الممتازة «الصنع يسبق المطابقة». يمكن تطبيق هذه المقولة بنجاح على جميع حالات الانتقاء، خصوصًا على أسلوب إنتاج واختبار الفرضيات، والذي يتضمن الملاحظة، وخصوصًا على الطريقة الجشطالتية. بالتأكيد، يمكن تطبيق مقولة جومبريتش أيضًا على الانتقاء الدارويني. يتقدم صنع العديد من المتغيرات الجينية الجديدة على انتقائها بفعل الطبيعة، وبالتالي مطابقتها مع البيئة. يعد عمل البيئة ملتويًا لأنه يجب أن تسبقه عملية جزئية تنتج، أو تصنع، المادة التي يمكن على أساسها للانتقاء، أو المطابقة، أن يعمل.

تسلط إحدى النقاط الهامة بالنسبة لهذا الأسلوب الملتوي للانتقاء الضوء على مشكلة السببية النازلة التي دعا دونالد كامبل وروجر سبيري إلى الانتباه لها.

قد نتحدث عن السببية النازلة كلما عمل هيكل أسمى سببيًا بناء على أساسه. وهنا تتضح صعوبة فهم السببية النازلة. نظن أننا نستطيع أن نفهم كيفية تعاون أساسات أحد الأنظمة للتأثير على النظام بالكامل؛ يعني ذلك أننا نظن أننا نفهم السببية الصاعدة، لكن المقابل صعب التصور للغاية. بالنسبة لمجموعة من الأساسات، حسبما يبدو، تتفاعل سببيًا في أي حالة، ودون مساحة، ولا ثغرة، لتدخلٍ من أعلى. هذا هو ما يؤدي إلى الطلب الإرشادي بأن نشرح كل شيء من حيث الجزيئات أو الجسيمات الأولية الأخرى (الحاجة التي يطلق عليها أحيانًا «الاختزالية»).

أقترح أن السببية النازلة، أحيانًا على الأقل، يمكن تفسيرها كعملية انتقاء تعمل على الجسيمات الأولية المتذبذبة عشوائيًا. عشوائية حركات الجسيمات الأولية – التي يطلق عليها عادة «الفوضى الجزيئية» – تقدم، إن جاز التعبير، ثغرة لتدخل الهيكل الأسمى. تكون الحركة العشوائية مقبولة عندما تتناسب مع الهيكل الأسمى، وتكون مرفوضة في الحالات الأخرى.

أظن أن هذه الاعتبارات تخبرنا بالكثير عن الانتقاء الطبيعي. فبينما استمر قلق داروين حيال عدم قدرته تفسير الاختلاف، وبينما شعر بعدم الارتياح تجاه إجباره على النظر إلى الانتقاء كأمر شبيه بالصدفة، يمكننا الآن أن نرى أن الطابع الشبيه بالصدفة الخاصة بالطفرات، الذي قد يُعزى إلى عدم التعيين الكمومي، يفسر كيف أن الثباتيات المجردة في البيئة، ضغوط الانتقاء المجردة بشكل ما، يمكنها، عن طريق الانتقاء، أن يكون لها تأثير نازل على الكائنات الحية الملموسة – تأثير قد يتضخم بواسطة سلسلة طويلة من الأجيال المتصلة عبر الوراثة.

انتقاء صورة من السلوك من ضمن مجموعة مقدمة عشوائيًا ربما يكون فعل اختيار، أو حتى فعل قائم على الإرادة الحرة. أنا مؤمن باللاحتمية؛ وعند النقاش حول اللاحتمية، أشرت عادة للأسف إلى أن عدم التعيين الكمومي لا يبدو مساعدًا لنا ؛ من أجل تضخيم شيء ما مثل عمليات التفكيك الإشعاعي التي لن تؤدي إلى العمل الإنساني، أو حتى العمل الحيواني، بل فقط إلى الحركات العشوائية.

لقد غيرت رأيي بالنسبة لهذه المسألة.  فعملية الاختيار قد تكون عملية انتقاء، وقد يكون الانتقاء بين مجموعة ما من الأحداث العشوائية، دون أن يكون عشوائيًا بدوره. يبدو ذلك لي مقدَمًا لحلٍ مُبشر لإحدى مشكلاتنا الأكثر إزعاجًا، وواحدة ناتجة عن السببية النازلة.

3. مشكلة هكسلي

يعد إنكار وجود العقل وجهة نظر أصبحت عصرية جدًا في عصرنا: حيث استبدل العقل بما يُطلق عليه «السلوك اللفظي». عاش داروين ليشهد إحياء وجهة النظر هذه في القرن التاسع عشر. واقترح صديقه المقرب، توماس هنري هكسلي، فرضية أن الحيوانات، وضمنها الإنسان، كائنات آلية. لم يُنكر هكسلي وجود الوعي أو الخبرات الذاتية، مثلما يفعل الآن بعض خلفائه؛ لكنه أنكر أن يكون لهم أي تأثير مهما كان على آلية الإنسان أو جسد الحيوان، بما في ذلك المخ. كتب هكسلي: «ربما يكون مفترضًا13 أن هذه التغيرات الجزيئية في المخ هي أسباب جميع حالات الوعي .. لكن هل هناك أي دليل على أن هذه الحالات من الوعي ربما، عكسيًا، تتسبب في .. تغيرات جزيئية في المخ، ما يتسبب في حركة العضلات؟» هذه هي مشكلة هكسلي. ويجيب عليها كما يلي: «لا أرى دليلًا كهذا … يبدو الوعي مرتبطًا بآلية الجسد كنتيجة ثانوية لعمله … يبدو الوعي دون أي قدرة على تعديل عمل الجسد، تمامًا كعدم امتلاك صافرة البخار لمحرك القاطرة لأي تأثير على آليته».


يقدم هكسلي سؤاله بحدة وبوضوح. كما يجيب عليه بدقة ووضوح. حيث قال إن عمل الجسد قائم على العقل من طرف واحد؛ أي أنه ليس هناك تفاعل مشترك. لقد كان آليًا ومؤمنًا بالحتمية المادية؛ وقد استلزم موقفه تقديم إجابته. عالَم الفيزياء، أو الآلية المادية، مغلق سببيًا. وبالتالي، لا يستطيع الجسد أن يتأثر بفعل حالات الوعي. والحيوانات، كحال الإنسان، يجب أن تكون آلية، حتى وإن كانت واعية. بينما كانت رؤية داروين للمادة مختلفة تمامًا. ففي كتابه «التعبير عن العواطف لدى الإنسان والحيوانات»، أوضح بتفصيل شديد كيف أن مشاعر الإنسان والحيوان يمكنها، وتعبر عن نفسها بالفعل، بحركات عضلية.

يعد أحد ردود داروين المباشرة على صديقه هكسلي، الذي أعجب به وأحبه بشدة، أكثر تميزًا. انتهت رسالة ساحرة إلى هكسلي قبل موت داروين بثلاثة أسابيع، بمزيج مميز بين الرقة، السخرية وخفة الدم، حيث قال: «… صديقي القديم العزيز، أتمنى من الله لو كان هناك آلات أكثر في العالم مثلك».

في الواقع، لا يجب أن يقبل أي دارويني برؤية هكسلي كحل لما يطلق عليه مشكلة العقل والجسد. حيث ناقش داروين في مقاله 1844، في كتابه «أصل الأنواع»، بل وأكثر من ذلك في مخطوطته الأكبر عن الانتقاء الطبيعي، القوى العقلية للحيوانات والبشر؛ وقال إن هناك منتج للانتقاء الطبيعي.

والآن إن كان هذا صحيحًا، يجب على القوى العقلية أن تساعد الحيوان والإنسان في النضال من أجل الحياة، من أجل البقاء المادي. يستنتج من هذا أن القوى العقلية يجب أن تكون قادرة بدورها على ممارسة تأثير هام على الأفعال المادية للحيوان والإنسان. وبالتالي، لا يمكن للحيوان والإنسان أن يكونا آليين على طريقة هكسلي. إن كانت الخبرات الذاتية، حالات الوعي، موجودة – واعترف هكسلي بوجودها – فعلينا، وفق الداروينية، أن نبحث عن فائدتها، وعن وظيفتها التكيفية. فمثلما هي مفيدة للحياة، يجب أن يكون لها توابع في العالم المادي.

وبالتالي تشكل نظرية الانتقاء الطبيعي حجة قوية ضد نظرية هكسلي لعمل الجسد من جهة واحدة على العقل وللتفاعل المتبادل بين العقل والجسد. لا يتصرف الجسد وفقًا للعقل فقط – على سبيل المثال، في الإدراك أو في المرض – لكن أفكارنا، توقعاتنا، ومشاعرنا قد تؤدي إلى أفعال مفيدة في العالم المادي. إن كان هكسلي على حق، فإن العقل سيكون عديم الفائدة. لكن عند ذلك، ما كان له أن يتطور، مثلما فعل، وفق الانتقاء الطبيعي.

تقول فرضيتي الأساسية هنا أن نظرية الانتقاء الطبيعي تقدم حجة قوية لعقيدة التفاعل المتبادل بين العقل والجسد أو، ربما الأفضل، بين الحالات العقلية والحالات الجسدية.

بالتأكيد، أنا مدرك تمامًا لحقيقة أن عقيدة «التفاعل المتبادل» قديمة الطراز تمامًا. ومع ذلك، أقترح الدفاع عن التفاعل، والثنائية قديمة الطراز (باستثناء أنني أرفض وجود ما يطلق عليه «المواد»)؛ حتى أنني أدافع عن التعددية، لدرجة أنني أقول إن هناك ثلاثة (أو ربما أكثر) من مستويات أو مناطق أو عوالم التفاعل: العالم الأول للأمور: الأحداث أو الحالات المادية، بما في ذلك أجساد وأدمغة الحيوانات، العالم الثاني: خاص بالحالات العقلية، والعالم الثالث: يتكون من منتجات العقل البشري، خصوصًا الأعمال الفنية والنظريات العلمية.

أخشى أنني ليس لدي الوقت لأسهب في الحديث عن العالم الثالث. بل يجب أن أقتصر على صياغة الظن بأن العالم الأول للأشياء المادية، والعالم الثاني للحالات والتفاعلات العقلية، وأن العالم الثالث للنظريات العلمية، على سبيل المثال للنظريات الطبية، ويتفاعل بقوة أيضًا مع عالم الأشياء المادية، عبر العالم الثاني النفسي.

ينطوي الشكل الحالي إما على إنكار وجود أي شيء كالخبرة العقلية، أو التأكيد على أن الخبرات العقلية تعد بطريقة أو بأخرى متطابقة مع الحالات العقلية للجهاز العصبي المركزي.

لا أظن أن أول هذه الأشكال – اقتراح أننا ليس لدينا خبرات – مثير للاهتمام للغاية. لدينا اختبارات ذاتية جيدة للفرضية القائلة بأن لدينا مثل هذه الخبرات. وكل ما يبدو أنه قد قيل ضد فرضياتنا هو أن الكون سيكون مكانًا أبسط إلى حد كبير إن لم يكن لدينا خبرات – أو بما أنها لدينا بالفعل، فقط إن أمكننا التزام الصمت بشأنها.

ومع ذلك، هناك ما يبدو كموقف أكثر جدية من مجرد الحرمان من العقل. إنها النظرية الأكثر عصريةً حاليًا القائلة بأن الحالات العقلية تعد بشكل ما متطابقة مع الحالات المادية: إنها ما يطلق عليها نظرية الهوية للجسد والعقل.

في مواجهة نظرية الهوية، أظن أنني يمكنني استخدام نفس الحجة من الانتقاء الطبيعي التي استخدمتها ضد هكسلي: تبدو لي نظرية الهوية متعارضة مع نظرية الانتقاء الطبيعي. وفقًا لنظرية الهوية، يعتبر عالم الأشياء والحالات المادية مغلقًا. كل السببية هي سببية مادية. وبالتالي حتى مُنظِّر الهوية الذي يعترف بالوعي لا يستطيع أن ينسب لها أي وظيفة سببية مستقلة في العالم المادي. لا يمكن أن تكون قد تطورت وفق الانتقاء الطبيعي. وموقف مُنظري الهوية هو نفسه موقف هكسلي.


4. ملاحظات على ظهور العقل


أظن أن الحياة، ولاحقًا أيضًا العقل، قد تطورت أو ظهرت في كون كان، حتى فترة محددة، دون حياة ولا عقل. ظهرت الحياة، أو المادة الحية، بشكل ما من المادة غير الحية، ولا يبدو الأمر مستحيلًا تمامًا، بل سنعرف في يوم ما كيف حدث ذلك.

تبدو الأمور أصعب كثيرًا مع ظهور العقل. فبينما نظن أننا نعرف بعض الشروط المسبقة للحياة، وبعض أساسات الكائنات البدائية، ليس لدينا أدنى فكرة حول أي مرحلة تطورية ظهر فيها العقل. قال إتش إس جينينجز في عام 1906 في كتابه العظيم «سلوك الكائنات الدنيا»، إنه عند ملاحظة سلوك الأميبا، تمكّن بالكاد من نّسْبِ الوعي إليها. وعلى الجانب الآخر، بعض دارسي الأحياء وبعض دارسي اللغة الإنسانية لا يريدون نسب العقل أو الوعي إلى أي حيوان سوى الإنسان. ومثلما ذكرت آنفًا، هناك فلاسفة ينكرون وجود العقل تمامًا؛ وهم الذين يعتبرون حديث العقل أو حالات الوعي محض ثرثرة: كالعادة اللفظية التي لابد لها أن تندثر، كالحديث عن الساحرات، مع تقدم العلم، وخصوصًا تقدم أبحاث المخ.

على النقيض من هؤلاء الفلاسفة، اُعتبر ظهور العقل حدثًا جللًا في تطور الحياة. فالعقل ينير الكون، واعتبر عمل عالمٌ عظيمٌ مثل داروين على نفس القدر من الأهمية فقط لأنه يساهم كثيرًا في هذا التنوير. يذكر هربرت فيجل أن أينشتاين قال له: «لولا هذا التنوير الداخلي، لكان الكون مجرد كومة من القمامة».

مثلما قلت مسبقًا، أظن أننا يجب أن نعترف بأن الكون مبدِع، أو خلّاق. على أي حال، إنه خلّاق مثلما نقول إن الشعراء، الفنانون العظماء، والعلماء الرائعون خلاقون. في يوم ما لم يكن هناك أي شعر في الكون، ولا موسيقى. لكن لاحقًا، أصبحت موجودة. بالتأكيد، لن يكون هناك أي تفسير لنسبها إلى الذرات، أو إلى الجزيئات، أو حتى إلى الحيوانات الدنيا، القدرة على صنع سابقة من الشعر (أو ربما صنع نموذج بدائي)، تدعى «الشعر البدائي». أظن أنه ليس هناك تفسير أفضل من نسب نموذج بدائي من الروح إلى الذرات أو الجزيئات، مثلما يفعل المؤمنون بالروح الشاملة. لكن لا، فحالة الشعر العظيم تُظهر بوضوح أن الكون لديه القدرة على خلق شيء جديد. مثلما قال إرنست ماير من قبل، ظهور الحداثة الحقيقية في سياق التطور يجب أن تعتبر حقيقة.

نظرًا لصعوبة، إن لم تكن استحالة، اختبار النسبة التخمينية للقوى العقلية للحيوانات، لن تنمو الشكوك بشأن أصل العقل في الحيوانات على الأرجح أبدًا إلى نظرية علمية يمكن اختبارها. ومع ذلك، سأقدم سريعًا بعض التخمينات التأملية. وعلى أي حال، هذه التخمينات عرضة للانتقاد، إن لم يكن للاختبار.

سأبدأ بالفكرة، التي شدد عليها أخصائيو السلوك مثل ثورب، القائلة بأن سلوك الحيوانات، كسلوك الحواسب، تتم برمجته، لكن على خلاف الحواسب، الحيوانات ذاتية البرمجة. البرنامج الذاتي الجيني الأساسي، حسبما نفترض، مكتوب في شريط الحمض النووي المشفر، هناك أيضًا برامج مكتسبة، برامج تعزى إلى التنشئة، لكن ما يمكن اكتسابه وما لا يمكن اكتسابه – مجموعة المكتسبات الممكنة – منصوص عليها في صورة برنامج ذاتي جيني أساسي، والذي قد يحدد حتى الاحتمالية أو الميل إلى الاكتساب.


قد نميز نوعين من البرامج السلوكية: البرامج السلوكية المغلقة والبرامج السلوكية المفتوحة، مثلما يطلق عليهما ماير. البرنامج السلوكي المغلق هو الذي يحدد سلوك الحيوان بتفصيل شديد. البرنامج السلوكي المفتوح هو الذي لا يحدد جميع الخطوات السلوكية، بل يترك المجال مفتوحًا لبدائل محددة، خيارات محددة، رغم أنها ربما قد تحدد الاحتمالية أو الميل لاختيار طريق أو آخر. كما يجب أن نفترض أن البرامج المفتوحة تتطور وفق الانتقاء الطبيعي، بسبب ضغوط الانتقاء الخاصة بالأوضاع البيئية المعقدة والمتغيرة بشكل غير منتظم.

يمكنني الآن أن أعلن ظني كما يلي:

الظروف البيئية كهذه التي تدعم تطور البرامج السلوكية المفتوحة تدعم أحيانًا أيضًا تطور بدايات الوعي، عبر دعم الخيارات الواعية. أو بعبارة أخرى، ينشأ الوعي مع الخيارات التي تبقى متاحة من قبل البرامج السلوكية المفتوحة.

فلنلق نظرة على المراحل المتنوعة المختلفة لظهور الوعي.

كمرحلة أولى محتملة، قد يظهر شيء ما يعمل كتحذير مركزي، كالتهيج أو الانزعاج أو الألم، يحث الكائن الحي على وقف الحركة غير الملائمة وتبني سلوك بديل مكانها قبل فوات الأوان، قبل أن يحدث ضرر بالغ. وسيؤدي غياب تحذيرٍ كالألم في حالات عديدة إلى الدمار. وبالتالي سيدعم الانتقاء الطبيعي هؤلاء الأفراد الذين يتراجعون عندما يتلقون إشارة تدل على حركة غير ملائمة، أي توقع الخطر الكامن في الحركة. أتوقع أن الألم قد يتطور كإشارة مشابهة، وربما أيضًا الخوف.

كمرحلة ثانية، ربما نعتبر أن الانتقاء الطبيعي سيدعم هذه الكائنات التي تجرّب، بطريقة أو بأخرى، الحركات الممكنة التي قد يمكن تبنيها قبل تنفيذها. بهذه الطريقة، قد يُستبدل سلوك التجريب والخطأ الحقيقي، أو يُسبق، بسلوك التجربة والخطا المتخيل أو غير المباشر. ربما يتكون التخيل مبدأيًا من إشارات ابتدائية عصبية صادرة، تعمل كشكل من التمثيل الرمزي للسلوك الفعلي، ومن نتائجه الممكنة.

وضع ريتشارد دوكينز ببراعة بعض هذه التكهنات بشأن بدايات العقل بقدر كبير من التفصيل. هناك نقطان رئيسيتان بشأنها. إحداهما أن هذه البدايات للعقل أو الوعي يجب أن تُدعم من قبل الانتقاء الطبيعي، فقط لأنها تعني أن استبدال السلوك المُتخيل أو الرمزي أو غير المباشر بالتجارب الحقيقية التي، إن كانت خاطئة، قد يكون لها عواقب وخيمة. الثانية هي أننا يمكننا هنا تطبيق أفكار الانتقاء والسببية النازلة على ما يبدو واضحًا أنه حالة اختيار: البرنامج المفتوح يسمح لاحتمالات أن تتحقق بشكل مؤقت – على شاشة، مثلما كانت – من أجل إجراء الانتقاء من بين هذه الاحتمالات.

وكمرحلة ثالثة، ربما نضع في اعتبارنا تطور غايات أكثر أو أقل وعيًا، أو أهداف، لأعمال حيوانية هادفة، مثل الصيد. ربما كان الفعل الغريزي غير الواعي موجه الغرض من قبل، لكن بمجرد بدء سلوك التجربة والخطأ المُتخيل أو غير المباشر، يصبح ضروريًا، في حالات الاختيار، تقييم الحالة النهائية للسلوك المتخيل. قد يؤدي هذا إلى الشعور بالتجاهل أو الرفض – إلى توقعات للألم – أو إلى الشعور بالقبول الحريص للحالة النهائية، والمشاعر الأخيرة قد تأتي لتميز وعيًا بالغاية أو الهدف أو الغرض. وفيما يتعلق بالخيارات المفتوحة، قد يتطور شعور بالتفضيل لاحتمالية واحدة بدلًا من الأخرى، تفضيل نوع واحد من الطعام، وبالتالي نوع واحد من المكانة البيئية، بدلًا من الأخرى.

يسمح تطور اللغة، ومعها، العالم الثالث من منتجات العقل البشري، بخطوة إضافية: الخطوة الإنسانية. أنها تسمح لنا بتبرئة أنفسنا من فرضياتنا، وأن ننظر إليها بعين ناقدة. فبينما قد يُنبذ الحيوان غير الناقد مع فرضياته التي يطرحها بشكل عقائدي، ربما نصيغ فرضياتنا، وننتقدها. فلندع ظنوننا، نظرياتنا، تموت بدلًا منا! ربما لا زلنا نتعلم قتل نظرياتنا بدلًا من قتل بعضًا البعض. إن دعم الانتقاء الطبيعي تطور العقل للسبب المشار إليه، فإنه ربما أكثر من مجرد حلم طوباوي أن نشهد انتصارًا لموقف (الموقف العقلاني أو العلمي) القائل بالتخلص من نظرياتنا، آرائنا، عبر النقد العقلاني، بدلًا من التخلص من بعضنا البعض.

ظني بشأن أصل العقل وعلاقة العقل بالجسد، علاقة الوعي بالمستوى السابق من السلوك غير الواعي، هو أن فائدته – قيمة بقائه – مشابهة لتلك الخاصة بالمستويات السابقة. وعلى جميع الأصعدة، يسبق الصنع المطابقة؛ أي، قبل الانتقاء. ويسبق صنع التوقع، الترقب، أو التصور (الذي هو فرضية) اختباره.

إن كان هناك أي ملاحظات بشأن هذا التفسير، فإن عملية الاختلاف، يليها الانتقاء الذي اكتشفه داروين، لا تقدم مجرد تفسير للتطور البيولوجي من الناحية الميكانيكية، أو من ناحية ما وُصف باستخفاف وعن طريق الخطأ بأنه ناحية ميكانيكية، ولكنها بالفعل تسلط الضوء على السببية النازلة؛ على صنع الأعمال الفنية والعلمية؛ وعلى تطور الحرية لصنعها. وبالتالي فإنها مجموعة كاملة من الظواهر المتصلة بتطور الحياة والعقل، وأيضًا منتجات العقل البشري، المضاءة بواسطة الفكرة العظيمة والملهمة التي ندين بها لداروين.

http://ida2at.com/natural-selection-and-the-emergence-of-mind-1-3/
http://ida2at.com/natural-selection-and-the-emergence-of-mind-2-3/
http://ida2at.com/natural-selection-and-the-emergence-of-mind-3-3/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 

الانتقاء الطبيعي وظهور العقل

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» الغاز طاقم الانتقاء والتوجية بمنطقة التجنيد!
» أختراع يجن العقل بص التليفون ده ..................
» فيلم عام 2000 يسرد سقوط الدولار وظهور الدجال
» عدم تحكيم العقل
» تأثيرالهاتف المحمول على العقل

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: الأقســـام غير العسكريـــة :: المنتدى التقني والعلمي-
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي ادارة الموقع ولا نتحمل أي مسؤولية قانونية حيال ذلك ويتحمل كاتبها مسؤولية النشر

Powered by Arab Army. Copyright © 2019