تبدو أكثر الحكايات غرابة هي تلك التي تبدأ من النهاية، فالنهايات الغامضة غالباً ما توقعك في الحيرة. والحيرة في حكاية ديفيد هليون كرجل فقير عاش لسنوات في مخيم الشاطئ للاجئين غرب مدينة غزة، سببها عملية إنزال نفذتها مروحية إسرائيلية عشية وفاة الرجل نهاية السبعينيات من القرن الماضي، بهدف نبش قبره ونقل الجثمان إلى تل أبيب، وفق رواية السكان.
في صبيحة اليوم التالي للعملية، أُشيع بين الناس البسطاء خبر قيام الجنود بعملية كوماندوز معقدة لنقل جثامين الشهداء، الأمر الذي أثار حفيظة الأهالي ودعاهم إلى تفقد قبور أبنائهم الذين سقطوا خلال عقدي الستينيات والسعبينيات، لكنهم فجعوا بأن القبور لم تنبش. وهنا استحال على سكان المخيم حل هذا اللغز الكبير.
طرأت على المخيم تغيرات كثيرة، أهمها: تعاقب الأجيال، وتغير النمط المعماري والتخلي عن أسقف القرميد باعتماد العمارة الحديثة. صار صعباً التعرف على سكن الهليون، فمواليد الثمانينيات وأبناء العقود اللاحقة الذين التقيناهم في شوارع وأزقة المخيم الذي يطغى عليه اللون الرمادي، لا يعرفون شيئاً عن هذا الرجل.
ولكن الحاج محمد عبد الله، وهو في العقد السابع من العمر، لا يزال يتذكر تلك الأيام. حالما سألناه عن الهليون تأوه مذهولاً وقال: "حقاً لقد نسيناه فكيف تذكرتكم هذا الرجل بعد مضي كل هذه السنين؟"، ثم بدأ في سرد القصة.
في زاوية متهالكة مطلة على شارع فرعي يصل إلى شاطئ البحر، غرب مدينة غزة، لا تتجاوز مساحتها 15 متراً، يرتكز هيكل أرجوحة قديمة. هذه الزاوية هي جزء من حجرة كانت مأوى لشخص مجهول الهوية يدعى الهليون سكن المخيم في أواخر ستينيات القرن الماضي، كما يروي الحاج عبد الله، بعد أن اصطحبنا للمكان.
وكان يسود اعتقاد سابق عند الأهالي أن الهليون رجل قادم من لبنان حط رحاله في مخيم الشاطئ بعد أن ساءت أقداره، ودفعته الحاجة إلى العمل في مهنة بائسة (نضح آبار الصرف الصحي)، غير أنه بعد وفاته أصبحت تلك الاعتقادات خلف ظهور سكان المخيم، الذين أُصيبوا بالدهشة وقتها، بعد حادثة الطائرة التي قامت بنقل الرفات.
سليم الباقة، 72 سنة، خالف هذه الرواية. عرّف الهليون باسم "سعد حجاب" وقال "إنه من سكان قرية يافا ونزح إلى غزة بعد الهجرة عام 1948، نافياً ارتباط الرجل بأي علاقات مشبوهة".
الباقة الذي التقيناه وهو يجلس على كرسي بلاستيكي قبالة شاطئ البحر، قال بصوت أصابته البحة: "حدثني والدي أن سعد كان يملك حنتوراً في يافا يستخدمه ليبيع المواشي (رؤوس الخراف والأبقار، وأحشائها) ويقرع جرسه كلما مر بطرقات القرية للفت انتباه المشترين من الناس"، لكنه لم يؤكد إن كان "سعد حجاب" قد نزح إبان النكبة الفلسطينة، مع أهالي القرية زمن الحرب.
ولم تسعف الذاكرة الباقة كثيراً في حفظ أدق التفاصيل الخاصة بالرجل الغريب، غير أنه أكد ما أورده الكاتب سليم عيشان بأن الهليون كان يرفض قطعاً تناول طعام أهالي المخيم، بما يبقي باب السؤال مشرعاً: هل كان يهودياً، لذلك رفض تناول طعام المسلمين؟ أم أنه كان يخشى أن يدس له أحد ما السم في الطعام فيقتله؟ أم تراها توصيات من قيادته يقوم بتنفيذها حرفياً؟
وقبل خمسة عقود، لم تكن المخيمات مؤهلة بشبكات الصرف الصحي، وكان يضطر السكان إلى إقامة أحواض امتصاصية أسفل أرضية المنزل الترابية لأجل تجميع مياه الصرف الصحي، وحالما تفيض يقومون بنضحها، وكانت توكل هذه المهمة في تلك الحقبة إلى الهليون، الذي كان يتقاضى مقابلاً مادياً قدره ليرة واحدة (عملة إسرائيلية استبدلت عام 1980 بالشيكل)، وقنينة "كولونيا" وعبوة صابون، مقابل إفراغ كل بئر.
يقول الحاج عبد الله الذي كان يرتدي الزي التقليدي (الجلابية): "لقد خدعنا جميعاً واستطاع الرجل أن يضللنا بتواضعه وبساطته، لكننا أصبنا بالذهول حين تبين أنه واحد من رجال المخابرات الإسرائيلية"، معتقداً أن مهنة الهليون كانت غطاء أمنياً مكنه من دخول معظم بيوت المخيم، ووضع اليد على الكثير من التفاصيل والأسرار.
ويعد من سمة العمل في سلك المخابرات، أن تموت الكثير من التفاصيل المتعلقة بالأشخاص الذين كلفوا بمهمات خاصة لخدمة إسرائيل، إلى درجة أنه لم يذكر عن الهليون أي تفاصيل عبر الشبكة العنكبوتية، باستثناء الرواية التي أرخ لها الكاتب سليم عيشان.
وتتضح معالم القصة أكثر، حين قدم عيشان معلومات إضافية عن الهليون الذي على ما يبدو، كلف بمهمة رصد رواد العمل الفدائي الفلسطيني، وتزويد جهاز المخابرات الإسرائيلية بالمعلومات، وإحباط أية عمليات فدائية غايتها قتل إسرائيليين، إذ ألمح الكاتب إلى أن الهليون استطاع الإيقاع بعدد كبير من الفدائيين، لا سيما محمد الأسود الملقب بجيفارا غزة ومجموعاته، من خلال إبلاغ الجيش الإسرائيلي عن أماكن وجودهم وخططهم فتمكن من إحباط معظم العمليات العسكرية ضد جنوده في حقبة السبعينيات.
ولعل أحد الفدائيين القدامى، رفض الكشف عن اسمه، ممن وقعوا ضحية كمين عسكري إسرائيلي شرق مخيم الشاطئ، في العام 1975 لم يستطع الجزم بأن الهليون كان سبباً في وقوعه ضحية، قائلاً: "صحيح أن الرجل كان مريباً وغريباً بعض الشيء، لكنني لا أستطيع الجزم بأنه كان السبب في الإيقاع بالفدائيين في ذلك الوقت".
الفدائي ذاته الذي عمل في صفوف منظمة التحرير وقضى حكماً بالسجن 10 أعوام في السجون الإسرائيلية، لم ينف عن الهليون صفة الاشتباه لكونه "مجهول الهوية ولم يستطع أحد من أهالي المخيم حل لغزه"، كما قال.
وبعيداً عن تفاصيل الحياة اليومية للهليون أو لرجل المخابرات الذي لم يكوّن صداقات باستثناء أنه عرف عنه حبه لأطفال المخيم، فإن الحلقة المفقودة في حياته كانت تكمن في سبل إيصال المعلومات، والتي أثير حولها الكثير من الأسئلة، خصوصاً أنه كان يلف على رسغه ساعة غريبة، توقع الكاتب عيشان أن تكون وسيلته في التواصل مع قيادته في دوائر المخابرات.
ويلمح الكاتب عيشان في سياق تأريخه للقصة المريبة، إلى أنه نتيجة عدم وجود ارتباط كبير بين الهليون وأهالي المخيم، كان يزور بشكل دائم الكازينوهات التي انتشرت في تلك الحقبة على شاطئ مدينة غزة، لشرب الويسكي، وإذا ما أتم مهمته الترويحية عاد أدراجه إلى منزله المتواضع في المخيم وهو يدندن بألحان غريبة متمايلاً برأسه وجسده.
وكشف سر الهليون كرجل مخابرات نهاية السبعينيات، حين توفي داخل حجرته وفاحت رائحة الجثة واقتحم أهالي المخيم المكان، وقاموا بمواراتها الثرى في مقبرة (الشيخ رضوان) وسط مدينة غزة، مع الإشارة إلى أن الحانوتي وقتها لم يتمكن من تغسيل الجثة حسب الشريعة الإسلامية لأن الجثة لها رائحة الجيف، فآثر السكان تكفينها دون غسلها، وفق إفادة الباقة.
غير أن المفاجأة حصلت حين فوجئ الأهالي بطائرة مروحية تقل وحدات خاصة نفّذت عملية إنزال فوق المقبرة وتولت مهمة حفر القبر ونقل الجثمان، وبعد وقت قصير أذاع التلفاز الإسرائيلي نبأ الوفاة والكشف عن هوية الرجل وأورد اسمه على أنه دافيد هيلين، وفق إفادة عدد من سكان المخيم.
مصدر