لقد جاءت فكرة تشكيل مليشيا الحرس في بداية انتصار
الثورة الإيرانية بهدف جمع عدة مجموعات مسلحة كانت قد تشكلت بعد الإطاحة
بنظام الشاه و قامت باتخاذ مراكز أمنية ومعسكرات للجيش مقارا لها وأصبح كل
منها تعمل منفصلة عن المجموعة الأخرى جاعلة من نفسها سلطة مستقلة ‘
تعتقل وتحاكم و تعدم دون ضابط محدد ينظم عملها ‘ وكانت كل منها تدعي انها
تمثل الخط الثوري الأصيل وتعلن التزامها بقيادة الخميني. وهذه المجموعات
كان اغلبها خليط من عصابات السطو وقطاع الطرق ومجرمون محترفون كانوا قد
فروا من السجون عقب سقوط نظام الشاه. ولهذا فقد خشي الخميني وأعوانه من تنامي
نفوذ هذه المجموعات ومن إمكانية استغلالها من قبل قوى سياسية منافسة
للإطاحة بهم ‘ لذا فقط تقررا دمج كل هذه المجموعات ضمن مليشيا واحدة أطلق
عليها اسم " قوات حرس الثورة الإسلامية " وقد عين في بادئ الأمر "
جواد منصوري " الذي كان من قادة احد الأحزاب الإسلامية المعارضة للشاه ( أصبح فيما
بعد سفيرا لإيران في الصين )‘ قائدا لهذه المليشيا ولكن سرعان ما تم عزله بسبب
الصراع الذي كان دائرا بين قادة هذه المجموعات و عجزه على ضبط الأمور
وقد تم استبداله بـ " عباس آقا زماني" المشهور باسم " أبو شريف
" ‘ الذي كان احد أعضا مجموعة " مصطفى شمران " من المعارضين الإيرانيين في لبنان
الذين ساهموا في تأسيس حركة " أمل الشيعية " ‘ ولكن سرعان ما تمت إزاحته
هو الآخر وجرى نقله الى وزارة الخارجية حيث عين قائما بإعمال السفارة
الإيرانية في باكستان و من ثم أرسل الى لبنان للإشراف على تأسيس " حزب الله
" و الى الآن مازال باقيا هناك ينظم العمل الأمني والعسكري لهذا الحزب.
ونتيجة
لتصاعد الصراع بين قادة المجموعات المؤلفة لمليشيا الحرس الثوري فقد تم وضع هذه
المليشيا تحت قيادة مجلس شورى جماعي‘ و حين قرر الخميني القضاء على شركائه في الثورة للتفرد بالسلطة ‘
فقد قرر الأخير تعين " محسن رضائي " ( الذي كان احد قادة جماعة "
المنصورون " المسلحة التي سبق لها تنفيذ العديد من الجرائم والتفجيرات الدامية في
عهد الشاه و التي كان من بينها جريمة إحراق سينما " ركس " في
مدينة عبادان سنة 1978م والتي ذهب ضحيتها أكثر من أربعمائة شخص ) ‘ قائدا لهذه
المليشيا و دعمه بكل قوة للقضاء على الأحزاب والجماعات السياسية التي
رفضت القبول بفكرة نظرية ولاية الفقيه و تولي الملالي السلطة. كما تم
تكليف الحرس بمهمة إنشاء المجاميع الإرهابية والحركات الطائفية في
البلدان العربية وعلى الأخص في العراق ولبنان وعدد من بلدان الخليج العربي‘
وذلك في إطار مشروع تصدير الثورة الذي أعلنه الخميني والهادف الى إسقاط
أنظمة البلدان العربية المجاورة لإيران من اجل ما بناء عرف باسم"
الهلال الشيعي" الرامي الى فرض هيمنة إيران على المنطقة.
ومع
نشوب الحرب الإيرانية ضد العراق فقد تحول الحرس الى قوة عسكرية مسلحة أوكلت له مهمة خوض هذه
الحرب حيث كان يتوهم الخميني ان قوات الحرس التي استطاعت ان تقضي على جميع الأحزاب السياسية
المعارضة وقمع حركات القوميات والشعوب غير الفارسية التي انتفضت مطالبة
بحقوقها القومية و السياسية المشروعة ‘ قادرة أيضا من الانتصار على الجيش
العراقي و إسقاط نظام حزب البعث‘ وقد تسبب هذا الوهم في ان تستمر الحرب
مدة ثمانية سنوات اُجبر الخميني بعدها على قرار وقف أطلاق النار ‘
متجرعا كأس السم كما قال.
و
بعد موت الخميني و تولي علي خامنئي (المرشد الحالي) قيادة النظام ‘ فقد أزداد نفوذ الحرس حيث
تولى معظم قادته المناصب السياسية العليا في البلاد و القيام بالاستيلاء على كبرى المؤسسات والدوائر
الاقتصادية والتجارية ‘ و المراكز والمؤسسات الثقافية و الإعلامية ‘ إضافة
لهيمنته على المؤسسات والدوائر الأمنية و الاستخباراتية‘ حتى صار
الحرس الثوري يعني النظام‘ والنظام يعني الحرس الثوري.
لقد
اعتماد نظام الملالي منذ بداية على العنف والقوة في حسم الخلافات السياسية التي نشبت مع
معارضيه وقمع الشعوب والقوميات المطالبة بحقوقها ‘ وقد أصبح هذا منهجا وسلوكا ثابتاً و الوسيلة
المفضلة لهم لمواجهة كل صوت مطالب بحقه أو معترض على الوضع السياسي القائم
في البلاد.فالاعتقالات و الإعدامات الجماعية ‘ كانت منذ انتصار الثورة
والى الآن تسير بنفس الوتيرة وعلى نفس الغمة وهذه النغمة هي ‘ محاربة الله
والإفساد في الأرض !‘ أما المفسدون الحقيقيون و المحاربون لله وخلقه ‘ وهم
الماسكون بالسلطة من الملالي وقادة الحرس الثوري ‘ فهؤلاء محصنون من
أي محاسبة أو عقاب كونهم يحضون برعاية كريمة من الإمام الغائب ‘ فهم جنده
الذين يمهدون الأرض والجو والبحار لظهور فرجه ‘ والمعترض على سلطة و سياسة
وممارسات جنود الإمام المهدي المنتظر ‘ فهو مرتبط بأمريكا و بريطانيا
‘ وأحيان مرتبط بإسرائيل ‘ وأم الحركات والتنظيمات المطالبة بحقوق الشعوب
والقومية غير الفارسية ‘ فهي إما سنية وهابي‘ و إما قومية بعثية ‘ وإما
انفصالية لا تريد الخير لإيران!.
تحت
هذا الشعار و المبررات دفع نظام الملالي بقوات النخبة من الحرس الثوري للقضاء على حركة
المقاومة الشعبية الإيرانية ( جندالله ) المعبرة عن طموح وآمال الشعب البلوشي و باقي الشعوب والقوميات
المضطهدة في إيران ‘ وقد عين نظام الملالي نائب قائد القوى البرية في الحرس
الجنرال " نور علي شوشتري الذي لقي حتفه مؤخرا " للإشراف على تنفيذ
هذه المهمة ‘ وكانت أولى خطوات هذا الجنرال هي استنساخ ما سمي بمجالس ( الصحوة
) وأختها مجالس ( الإسناد ) ‘ التي شكلتها قوات الاحتلال الأمريكي في العراق ‘
في بلوشستان عبر كسب بعض شيوخ العشائر و تجار المخدرات الذين تضرروا
كثيرا من وجود حركة جندالله حيث أخذت هذه الحركة تحارب عصابات
التهريب التي دأبت على استغلال فقر وحاجة أبناء المنطقة و تشغيلهم في عمليات
تهريب ‘ و كانت خطة الحرس الثوري تقوم على استغلال هذه العصابات وبعض
الزعامات العشائرية الموالية للنظام و وضعها في مواجهة حركة جندالله بعد ان
عجزت القوات الإيرانية في الوصول لقواعد الحركة في جبال بلوشستان. وقد
جاءت عملية التفجير الفدائية التي حدثت يوم الأحد الفائت ( 18تشيرين الاول
الجاري ) والتي استهدفت اجتماعا كان يضم العشرات من قادة الحرس و
مسؤولين من وزارة الاستخبارات و زعماء عصابات التهريب و بعض شيوخ العشائر في
مدينة " سربازي" في إقليم بلوشستان ‘ لتحبط مخطط تشكيل المليشيا الجديدة
الذي كان مزمع الإعلان عنها في ذلك الاجتماع الذي ادعى النظام الإيراني انه
كان اجتماعا لإجراء مصالحة بين السنة والشيعة في المنطقة ‘ وهذا خلاف
الحقيقة حيث ان هذه المنطقة" سربازي" الواقعة على الحدود الباكستانية
جميع سكانها من أهل السنة وليس فيها شيعة نهائيا ‘ كما ان قائمة أسماء قتلى
الانفجار لم تظهر اسم رجل دين شيعي أو سني واحد ‘ أضف الى ذلك انه لايوجد
صراعا بين السنة والشيعة في بلوشستان مثل ما يصوره حتى يحتاج الأمر لعقد
اجتماع مصالحة حسب ما ادعته السلطات ‘ و إنما الصراع الحقيقي هو بين
المقاومة الشعبية الإيرانية المتمثلة بحركة " جندالله " المدافعة
عن حقوق أهل السنة والبلوش من جهة ‘ وبين نظام الملالي الكهنوتي من جهة أخرى. كما ان
الانفجار قد كشف أيضا عن هشاشة الوضع الأمني الموجود في جهاز الحرس
الثوري ‘ و بنفس الوقت اظهر قوة حركة جندالله على اختراق هذا الجهاز.
ولكن
كيف استطاعت حركة مثل جندالله حديثة العهد وقليلة الإمكانيات من ان تخترق جهازا
امنيا و عسكرياً بحجم الحرس الثوري الإيراني؟.
ان
هناك وقائع سابقة عديدة قد أكدت تعرض الحرس الثوري لاختراقات وهزات أمنية كان آخرها قيام
احد قادته " شهرام أميري " الذي كان مسئولا عن منشأة قم النووية ‘ بالفرار
الى فرنسا وكشف تفاصيل هذه المنشأة السرية التي وجه الكشف عنها ضربة سياسية للنظام الإيراني وأدخلته
في مأزق حقيقي أجبرته على الركوع والتراجع عن عنترياته السابقة. كما ان
الأزمة السياسية التي تعيشها إيران حاليا والتي حدثت عقب مسرحية الانتخابات
الرئاسية و التي دفعت بخروج الصراع بين الأجنحة النظام الى الشارع ‘ قد
تسببت في تعميق الشرخ بين جميع مؤسسات النظام ولم يكن الحرس الثوري بمنئى من
الشرخ حيث أكدت التقارير ان اغلب ضباط الحرس من حاملي رتبة رائد وما دون قد
أدلوا بأصواتهم في الانتخابات الأخيرة لمنافسي الحرسي " احمدي
نجاد" ‘ إضافة الى ذلك ان إجراءات العزل والإقصاء التي طالت العديد من
قادة وأمراء وحدات الصنوف في الحرس‘ قد زادت هي الأخرى من عمق هذا الشرخ‘
ولهذا لم يكن مستبعدا ان يؤدي هذا الصراع القائم الى توسعت الثغرات أمنية في
جهاز الحرس مما ساعد حركة جندالله على استغلالها لتنفيذ ضربتها التي لم
يسبق للحرس الثوري ان تعرض لمثلها على يد المعارضة الإيرانية من قبل.
لقد
سارع النظام الإيراني وقبل ان يبدأ بجمع أشلاء قتلاه بتوجيه التهم الى أمريكا وبريطانيا
وباكستان بالوقوف وراء عملية الانفجار الدامية ‘ و ذلك دون ان يقدم دليلا واحدا يثبت صحة ادعاءاته.
فكيف يستطيع أي جهاز امن في العالم اكتشاف الجهة المنفذة لأي عملية مسلحة
ومعرفة خطوط الدعم وتفاصيل التنفيذ قبل ان يقوم لجراء مسح لموقع العملية ‘
أو قبل إعلان الجهة المنفذة مسؤوليتها عن الحادث ؟. كما ان كل من
أمريكا وبريطانيا وباكستان قد أدانتا العملية ونعتتها بـ " الإرهابية
" ‘ هذا الى جانب ان باكستان تتعاون باستمرار مع الأجهزة الأمنية الإيراني في
محاربة حركة جندالله وقد سبق لها قبل عامين ان قامت بتسليم إيران "
عبد الحميد ريغي " شقيق زعيم حركة جندالله "عبدالمالك ريغي " ‘
الذي كان قد جرى اعتقاله عند الحدود الإيرانية - الباكستانية وقد امتدحت إيران مرات
عديدة التعاون الأمني الباكستاني معها‘ وهذا بحد ذاته يظهر تخبط
النظام الإيراني في توزيع الاتهامات للآخرين ‘ ويؤكد ان هذه الاتهامات
محاولة منه للتغطية على فشله وعجزه في مواجهة حركة مسلحة صغيرة مثل "
جندالله " ‘ متناسيا ان سياساته الإجرامية كانت هي السبب الاول و الأخير عن كل
ما حدث ويحدث لاحقا.
ان
توزيع الاتهامات الإيرانية المضحكة الهادفة للتقليل من فداحة الضربة التي تلقاها حرس خميني
على يد حركة جندالله ‘تؤكد مرة أخرى ان قوة الحق أعظم من حق القوة ‘و تؤكد كذلك مصداقية القول
الشهير للإمام علي بن أبي طالب عليهم السلام ‘ ان يوم المظلوم على الظالم
اشد من يوم الظالم على المظلوم