سدّ النهضة: مسارات مصرية مختلفة لاحتواء عناد إثيوبيا
إنشاء سد النهضة الإثيوبي يسير على قدم وساق، أعمال البناء اكتملت منها حتى الآن نسبة 57 بالمئة، والتوربينات المُغذية لجسد السد الرئيس تم تركيب 72 بالمئة منها، لهذا تحتفل أديس أبابا بينما تبدو القاهرة متجاهلة الاحتفالات، فماذا بالضبط الآن في عقل المصريين؟. وهل لديهم بدائل ومسارات أخرى للحفاظ على مصالحهم المتوقع أن تتضرر مع الانتهاء من تشييد السد الإثيوبي؟
أقامت إثيوبيا احتفالات رسمية وشعبية ضخمة بمناسبة مرور 6 سنوات على بدء العمل في إنشاء سد النهضة. وشاركت في الاحتفالات التي دامت أياما وفود أفريقية رسمية عدة وكان حاضرا فيها الرئيس السوداني عمر البشير.
وأعلن سراج فقيس وزير الدفاع الإثيوبي، بهذه المناسبة عن اكتمال 57 بالمئة من أعمال بناء السد، وتركيب 72 بالمئة من التوربينات المغذية لجسمه، ضمن خطاب حمل لهجة تحد كبرى موجهة أساسا لمصر التي تعترض على بناء السد ومازالت تأمل إيقاف عملية البناء.
أشار متابعون إلى أن إثيوبيا أرادت من وراء هذه التصريحات التأكيد على أنها لن تتوقف عن بناء السد، وأن تقارير المكاتب الاستشارية لا تمثل أهمية بالنسبة إليها، بل إنها تراهن على أن سياسة فرض الأمر الواقع قد تكون الطريق الوحيد أمامها لإجبار القاهرة على التعامل مع وجود السد، حتى وإن صاحبت ذلك تنازلات قد تكون ملزمة بتنفيذها بناء على التقارير المنتظرة.
وقالت مصادر سياسية بالقاهرة لـ”العرب” إن مصر لن تستدرج إلى هذا الفخ، بل تتجه الآن إلى إقامة علاقات أكثر عمقا مع البلدان الأفريقية ودول حوض النيل للحفاظ على حقوقها المائية.
وإذا كانت إثيوبيا تسعى لكسب المزيد من الوقت لإنجاز أكبر قدر ممكن من السد، فإن التوجه المصري يلعب على الوتر ذاته، إذ تحاول القاهرة توظيف عامل الوقت لصالحها، لإحداث طفرات على مستويات عدة من العلاقات مع البلدان الأفريقية.
لكن أطرافا أخرى تذهب في الاتجاه المعاكس تماما، وتؤكد أن قضية سد النهضة لم تعد قضية أمن مائي فقط بل قضية أمن قومي نهايتها قد تدفع بمصر لتعود إلى واجهة القوى الإقليمية المؤثرة عسكريا وسياسيا، مثلما يمكن أن تزيد من عطش المصريين للماء ولصورة “مصر القوية”.
الواضح، حسب أصحاب هذه الرؤية، أن لا مجال لإيقاف بناء السد بالطريقة “الهادئة” التي تعطي مساحة لإثيوبيا لتتحرك براحة أكبر في اتجاه الانتهاء من بناء السد.
وتستقوي أديس أبابا بدول المنبع التي تدعو لإعادة اقتسام مياه النيل، بشكل “عادل”، عوضا عن الحصص الحالية 1959. كما يقوي الصف الإثيوبي الاستثمارات التركية والقطرية والإسرائيلية، بالإضافة إلى موقف السودان، الذي يتحرك وفق ما تقتضيه مصلحته.
تبدو الخيارات المصرية محدودة بعد فشل المحاولات مع أديس أبابا. ولا يكفي اعتراف القاهرة بأن سد النهضة بات واقعا لإقناع الإثيوبيين بالتعهد بألا يؤثر ملء الخزان خلف السد على حصة مصر المائية.
وتركز مصر حاليا على ثلاثة محاور؛ هي الاقتصاد واستغلال التمثيل الدبلوماسي في المنظمات الدولية، وصياغة علاقات أفريقية مصرية أقوى، ويضاف إليها التعامل بشكل أكبر مع مشاكل القارة وملف مواجهة الإرهاب.
ووفقا لإحصاءات الأمم المتحدة، فإن مصر أضحت ضمن أكبر عشر قوى دولية مساهمة في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في أفريقيا، حيث أسهمت بحلول العام الماضي بأكثر من 30 ألف موظف في 37 بعثة تابعة للأمم المتحدة، تم نشر 60 بالمئة منها في أفريقيا.
وتستضيف مصر أيضا مركزا لحل النزاعات وحفظ السلام في أفريقيا، وهو الوحيد في العالم العربي الذي يدرب المدنيين على مهام حفظ السلام، كما أنها ستستضيف في وقت لاحق من هذا العام مؤتمرا للرابطة الدولية لمراكز التدريب على حفظ السلام، والذي تنشط مهامه بشكل ملحوظ في القارة الأفريقية.
وقال أنطونيو غوتيريس الأمين العام للأمم المتحدة مؤخرا إن مصر في وضع مثالي للاستفادة من الفرص المتاحة لأفريقيا لتحسين وتنسيق جهودها في مجال السلام والأمن مع الأمم المتحدة، وينبغي أخذ هذه الفرص على محمل الجد.
إثيوبيا تتلكأ
أشارت منى عمر مساعدة وزير الخارجية الأسبق للشؤون الأفريقية لـ”العرب” إلى أن أي نجاحات سياسية ستحققها مصر في ما يتعلق باتفاقية عنتيبي أو سد النهضة، لا بد وأن ترتبط بنمو أدوارها وتواجدها داخل البلدان الأفريقية، سواء كان ذلك من خلال الوسائل التقليدية أو غير التقليدية.
وأضافت أن الحكومة المصرية تسعى إلى حصد أكبر قدر من التأييد الأفريقي حيال العديد من المواقف والأزمات، وعلى رأسها إعادة توزيع حصص المياه على البلدان الأفريقية، وهو ما سيساهم في تكوين رأي عام على مستوى القارة يستطيع أن يدعم وجهة النظر المصرية.
وأوضحت أن الموقف المصري المباشر حيال سد النهضة يكمن في انتظار تقارير المكاتب الاستشارية الفرنسية التي ستحدد طبيعة التحركات المصرية مستقبلا، بل إن القاهرة وصلت إلى حد إعلان استعدادها لتقديم يد العون في بناء السد إذا أثبتت الدراسات عدم تضررها من بنائه على صورته الحالية.
لكن البعض من المتابعين أكدوا أن الحكومة المصرية تدرك أن إثيوبيا تتلكأ، وأنها تستخدم كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة من أجل تعطيل خروج هذه التقارير والدراسات إلى النور، كما أن هناك ثغرة قانونية لا تلزمها بتطبيق ما جاء فيها.
وقال هاني رسلان الخبير في الشؤون الأفريقية لـ”العرب” إن التحرك المصري المباشر تجاه سد النهضة لم يشهد تغييرا كبيرا، بعد أن اعترفت القاهرة بالسد وأبعاده، إلا أن التغيير طرأ على الخطط المصرية للتغلب على أزمات المياه التي ستواجهها مستقبلا، وهو ما دفعها إلى توسيع تحركاتها على مستوى القارة.وأشار إلى أن الدبلوماسية المصرية أدركت أن حماية الأمن القومي المصري تستلزم الحفاظ على حقوق مصر المائية، وبالتالي فإن الأمر يعد أكبر من مجرد التعامل مع سد النهضة، ويظل مفتوحا على جبهات عديدة تتعلق بالعلاقات المصرية الأفريقية بشكل عام، وعلاقاتها بدول حوض النيل بشكل خاص.وبعد غياب دام ست سنوات، شاركت مصر العام الماضي في اجتماعات المجلس الوزاري لمبادرة حوض النيل، الأمر الذي تكرر العام الحالي أيضا، بعد أن كانت قاطعت تلك الاجتماعات احتجاجا على البعض من بنود اتفاقية عنتيبي.واستبعد دبلوماسيون مصريون أن يكون للولايات المتحدة دور في الضغط على الجانب الإثيوبي خلال الفترة الحالية.وقالوا إن التقارب المصري الأميركي لا ينطوي على أهداف ترتبط بسد النهضة، مشيرين إلى أن التداخلات الإقليمية السابقة لم تصب في صالح مصر بل إن إثيوبيا كانت المستفيد الأكبر من تلك التدخلات.خطط مصرية جديدةلفت خبراء للأمن المائي إلى أن الإستراتيجية المصرية لا تقتصر فقط على المستوى الخارجي أو الدبلوماسي، لكنها تضم العديد من الإجراءات الفنية لتوفير المياه بالداخل المصري، من بينها تبني مشروع كبير للتغلب على أزمة المياه بالتعاون مع سنغافورة، والتعامل مع بناء السد بقدر من المرونة، لكنها تحتاج إلى إمكانيات اقتصادية ومادية ربما تعطل بدء تنفيذها.وقال ضياء القوصي خبير الموارد المائية لـ”العرب” إن هناك خططا مصرية جاهزة لتحلية مياه البحار، ومعالجة مياه الصرف الصحي والصرف الزراعي لاستخدامها في الأغراض المختلفة، وتدوير مياه الصرف الصناعي داخل المصانع، وإعادة توزيع المياه بين الاستخدامات المختلفة. لكن، مع ذلك يصر البعض من المصريين على أن الأمر يتجاوز خطر الشح المائي الذي يهدد البلاد، معتبرين أن المفاوضات الدبلوماسية والتحركات الإقليمية لن تغير من الواقع شيئا وهي تصب في صالح أديس أبابا، ومن يدعمها، في مثل هذه القضية المصيرية بالنسبة إلى القاهرة.ويعتبر هؤلاء أن مبادرات التعاون مع دول حوض النيل ليست سوى مسكنات ومهدئات في ظل تزايد الاحتياج الفعلي من جانب هذه الدول للمياه، إضافة إلى العبث الخارجي في هذا الملف الاستراتيجي.وإذا واصلت مصر غض الطرف، خصوصا في ظل الإعلان عن مشروعات مائية جديدة تموّلها شركات عالمية كثير منها خفية الجنسية، بعضها يقع حول النيل، فإن سياستها ستؤدي إلي فتح الباب على مصراعيه أمام المستثمرين من كل العالم (دول وشركات) ليجعلوا من إثيوبيا سلاحا يلوون به ذراع مصر. http://www.alarab.co.uk/article/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%82/106285/%D8%B3%D8%AF%D9%91-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%87%D8%B6%D8%A9%3A-%D9%85%D8%B3%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D8%AE%D8%AA%D9%84%D9%81%D8%A9-%D9%84%D8%A7%D8%AD%D8%AA%D9%88%D8%A7%D8%A1-%D8%B9%D9%86%D8%A7%D8%AF-%D8%A5%D8%AB%D9%8A%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%A7