مذكرات البكباشى زاهر سرور الساداتى عن حرب فلسطين 1948
البكباشى زاهر سرور الساداتى
البكباشى زاهر سرور فى الأسر بمعسكر ” عتليت ” بفلسطين المحتلة بالقرب من تل ابيب مع مجموعة من الأسرى المصريين
البكباشى زاهر سرور الساداتى مع القوة التى حاربت فى فلسطين مذكرات البكباشى / المقدم (م)
حربنا ضد اليهود :
بعد نشوب الحرب بين العرب و اليهود تطوعت للذهاب للميدان للحرب ضد اليهود سنة 1948م سافرت على رأس أول سرية من المتطوعين و بارحنا الخرطوم بالقطار فى 21-5-1948م بين تهليل كبير من
الجمهور من نادى الخريجين بامدرمان حتى محطة السكة بالخرطوم فى طابور عظيم و قوبلنا فى الخرطوم بحرى و شندى و عطبرة ووادى حلفا بحفاوة بالغة ووصلنا الشلال و ركبنا القطار الى محطة باب الحديد بالقاهرة و عند وصولنا لها قابلنا رئيس هيئة أركان القوات المصرية اللواء عثمان المهدى باشا و صافحنا مرحبا مسرورا و ركبنا العربات المخصصة لنا وذهبنا الى معسكر هاكستيب الذى يقع شرق مطار القاهرة الدولى ووجدنا بعض المتطوعين من الحجاز و تونس و المغرب فقابلونا بحفاوة بالغة و كنا نحن القوة النظامية المدربة و كنا نعلم المتطوعين كيفية استعمال السلاح و رمى القنابل اليدوية و بعد يومين حضر لنا بالمعسكر الفريق محمد حيدر باشا وزير الدفاع و القائد العام للجيش المصرى و كنا مصطفين فى ارض الطابور و استعرضنا و خطب فينا مشيدا بحسن النظام و شجاعة الجندى السودانى و قال ايضا انه مسرور لحضورنا لمؤازرة الجيش المصرى الذى لا ينسى اخوته السودانيين ، و فى مساء نفس اليوم تحركنا الى محطة القاهرة و ركبنا القطار و عبرنا قنال السويس و دخلنا سيناء و فى مساء اليوم الثانى وصلنا الى غزة و هناك قابلنا الاميرالاى محمد نجيب بك قائد الالاى الضارب بالموقع و رحب بنا و معه كل ضباطه و احضروا لنا الشاى و البسكويت ثم عشاءا ساخنا و كانت مقابلة لا تنسى من ذلك القائد الملهم و الاديب الممتاز .
فى اليوم الثانى تحركنا بعربات الجيش المصرى الى (المجدل) و هى مقر رئاسة القوات المصرية بفلسطين و قد قوبلنا بحفاوة بالغة من اللواء أحمد محمد على المواوى باشا و هيئة اركان حربه و تناولنا الغذاء بميس الضباط و من ثم صدر الامر الى قوتنا و سرية مكونة من خمسة ضباط و 125 جندى بالتوجه الى (اسدود) الخط الأول للقوة المصرية أمام العدو اليهودى ووصلنا هناك بعد ساعتين فلا تسل عن الحفاوة و الابتهاج الذين قوبلنا بها من الالاى الثالث المصرى المعسكر هناك و هو يحتوى على الكتائب الرابعة و السادسة و السابعة و كان قائد الالاى هو الاميرالاى محمد أبوالعينين ، و كان قائد الكتيبة السادسة هو القائمقام جاد سالم و كان بالسودان بسلاح الهجانة ببارا و أركانحرب الكتيبة هو الصاغ جمال عبدالناصر(الزعيم العظيم فيما بعد) و القائمقام عبدالحميد بدران و هذا الضابط كان برتبة الملازم ثانى بفرقة العرب الغربية بالفاشر عندما خرج الجيش المصرى من السودان سنة 1924م ووالده اليوزباشى ابراهيم بدران الذى كان مأمورا لمركز النهود بمديرية كردفان و مدة وجوده بالسودان تزوج كريمة الامير يونس الدكيم التعايشى المشهور فى المهدية و رزق منها بعبدالحميد هذا و لذا كان يحضر الى معسكرنا باستمرار لان السرية السودانية ألحقت من حيث الضبط والربط بالكتيبة السابعة و كان يطلب منا ان نعمل له القهوة السودانية و ملاح الويكة التى كان يحبها كثيرا ، القوة المصرية باسدود كانت مستحكمة بشكل نصف دائرة مرتكزة على البحر الابيض المتوسط شمالا و الى الجنوب فوق التلال المقابلة للعدو الذى هو محتل التلال الشرقية و بيننا وادى عميق يفصلنا و المسافة بيننا 300 ياردة فقط و نحن نرى العدو بوضوح و يرانا
فى يوليو سنة 1948م زارنا باسدود صاحب الجلالة الملك فاروق القائد الاعلى للقوات المسلحة المصرية و ملك مصر و قبل حضوره صدر الامر من قائد الالاى لكل الضباط بالحضور الى خيمة الرئاسة و لما اكتمل العدد جمعنا و قال لنا احلفوا اليمين على ان لا تقولوا لاحد ما سوف ألقيه عليكم فحلفنا اليمين ، و هنا قال لنا ان جلالة الملك سيحضر باكر بالطائرة الى المجدل و منها بالعربات المدرعة الى اسدود و سيزور كل وحدة فى موقعها و عليكم ان تخبروا الجنود فقط عن حضور ضابط كبير لمشاهدتهم و اثناء مروره لا أحد يلتفت للخلف لرؤيته بل كلهم يكونوا فى حالة الاستعداد متجهين الى خنادق العدو بدون اى كلام و لا أى حركة ، و انصرفنا كل ضابط الى موقعه بالقطاع و صرفنا الاوامر بصفة سرية وكررنا الامر بأن لا يتكلم أى أحد عن الزائر ، هذا الاستعداد و التصرف هو لمنع تسرب الخبر الى العدو لأن العدو اذا عرف ميعاد وصول الملك فإنه بلا شك سوف يرتكب حماقة كبرى و يهجم بالطائرات و المدرعات لقتله لأنه وقع بين يديه على مسافة قريبة جدا .
وصل الملك ومعه الفريق محمد حيدر باشا وزير الحربية و نحو عشرة من كبار ضباط الجيش و مر على كل مواقع الجنود مشيا على الاقدام و كان لابسا لبس الميدان و بدون علامات على الاكتاف و لا شرايط على الصدر و هكذا كل الحاشية التى كانت برفقته ، و كان الملك اطول قامة بين كل الضباط المحيطين به عدا الفريق حيدر الذى كان مساويا له فى ارتفاع القامة و امتلاء الجسم ، و لما وصل موقع الجنود السودانيين اعطيته التحية العسكرية فسلم علىّ باليد و قال لى انه مسرور جدا لوجود الجندى السودانى كتفا لكتف مع الجندى المصرى و انه يعرف من قبل تاريخ الجندى السودانى و شجاعته و قوة شكيمته ، و سألنى هل تلزمكم أى حاجة فأجبته لا يا صاحب الجلالة بل نحن فقط مستعدون لتلقى الامر بالهجوم على العدو و هنا إلتفت الملك الى الفريق حيدر و قال له اصرف للعساكر السودانية كل شيئ يريحهم خصما على ميزانية قصر عابدين و فى هذه الأثناء كان جنودى فى حالة الاستعداد الكامل متجهين للعدو و البنادق معمرة و السونكيات مركبة و القبعات الحديدية على الرؤوس و كنا نحن أقرب لمواقع العدو من كل مواقع باقى الوحدات فى الميدان و كانت المسافة بيننا و بين العدو لا تزيد عن 200 ياردة و يفصلنا وادى عميق يكبر أى صوت و ذهب الملك الى خيمة الرئاسة و دعى كل الضباط لمقابلته و قال لهم أنه مسرور جدا من حالة الجنود و صحتهم و روحهم المعنوية البادية و أمر بأن أقدم ضابط و أصغر ضابط فى كل وحدة ان يذهبوا الى العريش لتناول طعام الغداء معه بمنزل محافظ العريش و ذهبنا فى رتل طويل محاطا بالقوة الكافية لحمايتنا و عند وصولنا و هى مسافة 100 غربا من اسدود وجدنا الاكل الملوكى الشهى قد أحضر من قصر عابدين بالقطار من القاهرة و هى انواع من الاكل لم نراها من قبل و بعضها لم نعرف كيف تؤكل مع ادوات المائدة الكثيرة التى وضعت بين تلك الصحون ، و كان الملك يتوسط المائدة و كان يظهر عليه المرح و الانبساط و ينكت مع الضباط و نادانى و قال لى يا قائد السودانيين تعال و أقعد جنبى و هنا قام أحد اللواءات من كرسيه بجانب الملك و جلست عليه و فى الواقع انى كنت فى غاية الاضطراب لهذه الجلسة التى ما كانت فى خيالى فى يوم من الايام و كان الملك متبسطا معى طوال تناول الطعام و من وقت لآخر يقول لى كل كل كل أنت ضيفى ، و هذا التكريم لى من الملك كان موضع إعجاب من كل الضباط و عددهم أربعمائة ان يروا الضابط برتبة الصاغ(رائد) يجلس على يمين (المشير) و هى رتبة الملك فى القوات المسلحة المصرية .
و امتد البساط مع الاكل اللذيذ و المزاح و التنكيت لغاية الساعة 30 4 مساءا و هنا استأذنت جلالة الملك فحضرنا من مواقعنا باسدود و الان الظلام يوشك ان يخيم علينا و نحن لم نعطى كلمة( سر الليل) لجنودنا و ذهابنا بهذا الطابور الطويل من العربات سيكون هدفا بارزا للعدو و هى منورة فالتمس من جلالتكم ان تسمح لنا بالانصراف لأن وراءنا مسئوليات ، و هنا صفق الملك بكلتا يديه و قال مظبوط مظبوط فأذهبوا و أنتم مشكورين و الله يساعدكم و مع السلامة . ولما ابتدأنا نركب العربات اجتمع حولى كثير جدا من الضباط و قالوا نهنئك أنت شجاع قوى ما حدش كان قادر يقول للملك الكلام ده .
عدنا من الغداء الملوكى الى مواقعنا و بعد يومين من زيارة الملك صدرت الاوامر بالهجوم على العدو فى 18-7-1948م ، و قد جمع قائد الالاى كل الضباط و بسط لنا معلوماته من واقع ما وصله من مدير مخابرات التجريدة و من ثم صدر أمر العمليات كتابة لكل قائد كتيبة و قائد الكتيبة ان يصد أمره المفصل أقرب من مواقعها للعدو ان تبدأ الهجوم ، وقائد الكتيبة السابعة جمع الضباط و كنت انا ضمنهم لأن السرية السودانية كانت ملحوقة بتلك الكتيبة و كان العدو متجمعا فى منطقة (بيت دوراس) جنوب شرق اسدود و بعد المناقشة و الحوار بين قادة السرايا اتفقوا على ان تكون السرية السودانية راس الحربة للهجوم و عينوا ساعة الصفر30 03 ميعادا لابتداء المعركة و ذهبت انا الى مركز قيادتى و جمعت الضباط قادة الفصائل و هم المرحوم اليوزباشى عثمان عبدالله ، و المرحومين الملازم اول على رمضان ، و الملازم اول على محجوب ، و الملازم اول آدم محمد ، و الملازم اول حسين احمد خليفة الذى قتله المتمردين بتوريت سنة 1955م ، و المرشد الدينى للسرية المرحوم الاستاذ عبدالله شوقى الاسد ، و اخبرتهم بأوامر الهجوم و كيفية التحرك من موقعنا لجهة العدو و أمرتهم بالذهاب كل منه الى موقعه و يخبروا فصائلهم فصائلهم و جماعاتهم و يستعدوا و يعطونى التمام و عادوا لى فى الساعة 0200 وقالوا لى كل شيئ جاهز و هم على أتم استعداد للتحرك ، محل العدو معروف لنا و لكن خوفا بأن يكون هنالك كمين او خنادق معروشة او ديدبان على رؤس الاشجار لأن المنطقة كلها مزروعة باشجار الحوامض و بها غابة كثيفة من شجر النيم ، ذهبت انا بنفسى ومعى ثلاثة عساكر للاستكشاف و بعده اضع نظام الفصائل للهجوم و اقتربت الى مسافة انى شفت ديدبان اليهود و لكن وجدت الوادى كله مغطى بالقمح الذى لم يتمكن اصحابه العرب من عملية الهرس .
و عدت بعد الاستكشاف و جمعت كل السرية و قلت لهم هذا اليوم يومكم و اننا جميعا حضرنا من السودان لغرض مقدس و اننا سوف نحارب العدو حتى النصر أو الاستشهاد و السودان كله ينتظر اخباركم السارة و بنات اعمامكم متلهفات و مستعدات ان يقابلوكم بالفرح و الدلاليك فعلينا ان لا نخيب ظنهم فينا فكونوا رجالا لحمل المسئولية و الموت له وقت سواء كان هنا أم فى السودان ، و بعدى تقدم الاخ المرحوم عبدالله شوقى الاسد و قرأ آيات من القرآن و بعض الادعية و الاحاديث النبوية و دعا لنا بالنصر المؤزر و تركنا 15 جندى بالمعسكر للحراسة مع الاستاذ شوقى الاسد و اصبحت القوة الضاربة 110 جنديا ، و استمر تقدمنا الى ان وصلنا الى منطقة القمح المفروش و لم يشعر بنا الديدبان الى ان كانت المسافة بيننا و بينه نحو 25 ياردة و هنا صاح الديدبان ، قبل تحركنا كان قائد الكتيبة قد أصدر أمره بأن اتقدم بسريتى و عند الانتصار تتقدم سرية من الكتيبة السابعة بقيادة الصاغ الصاوى عيسى لمساعدتى و سد الخسائر و تعزيز الموقف لأن سرية الصاوى معها مدافع الماكينة و كمية كبيرة من الجبخانة و ذلك بعد ان اطلق لها قنبلة خضراء فى الجو علامة الانتصار و لأن سريتى كانت رأس الحربة فليس معها الذخيرة الكافية فقط البنادق و مدافع البرن ، هجمنا على العدو الذى كان متحصنا فى الخنادق المحفورة حول الاشجار حتى لاترى من الجو بواسطة الطائرات و الاشجار تمنع رؤيتها .
هجمنا على العدو بشراسة و قتلنا منهم عددا كبيرا و هنا أصيب الملازمين اوائل على رمضان و على محجوب و استشهدا و جرح آدم محمد بجرح فوق أنفه و أخذت انا الاحتياطى و دخلت المعركة و هنا هرب اليهود الباقين من الخنادق و لم تزل الرؤية قليلة و أثناء مطاردتى للعدو أصبت بأول رصاصة فى ذراعى الايسر فربطت الجرح و استمريت فى المطاردة و هنا أيضا أصبت برصاصتين احداهما فى كتفى و الثانية بساعدى الايمن و كثر النزيف و لا يوجد رباط ميدان و استمر النزيف و قد إنتهى تقريبا صوت إطلاق النارمن جهة العدو ووصلتنى الاخبار من الفصائل بعدد الخسائر و كان عدد الموتى 16 جنديا و الجرحى 22 جنديا و كنا منتصرين و العدو هرب و ضربت قنبلة خضراء فى الجو علامة الانتصار حتى تصل السرية المصرية لتعزيز الموقف و لسد الخسائر لأن قوتى الضاربة الباقية كانت 72 جندى و 2 ضباط و نفذت الجبخانة التى معنا ، فجلست على الارض و منعت المطاردة و لكن المؤسف جدا ان السرية المصرية التى كان مفروضا عليها ان تحضر لنجدتنا لم تصل و اصبح الصبح و كل شيئ كان ظاهرا و اليهود الهاربين ذهبوا للوراء الى مركز قيادتهم و اخبروها بالموقف .
و فيما نحن نعالج جرحانا رأينا أربعة دبابات يهودية وصلت الى ارض المعركة و انتشرت لمحاصرتنا و ابادتنا و هنا ايضا قال لى الضباط الاحياء ان أعود عدد طلقات الرصاص لا تزيد عن خمسة طلقات بخزنة كل بندقية و هى كمية لا يمكن الحرب بها لأنها ستكون الوسيلة الوحيدة للدفاع عن النفس و نحن فى هذه الحالة السيئة اقتربت الدبابات فرأيت انه من الجنون أن اترك جنودى هؤلاء الشجعان ان يقتلوا بالدبابات من غير طائل و النجدة المصرية لم تصل مع اطلاقنا القنبلة الخضراء علامة اننا انتصرنا ، فأمرت الضابطان الباقيان ان يجمعوا باقى عساكرنا و ينسحبوا و قلت لهم اذا قابلتم السرية المصرية فعودوا معها بالعساكر الصحاح و ارسلوا الجرحى للمستشفى و أنا قاعد هنا فى انتظاركم و الله يفعل ما يشاء و الضابطان و أحدهما مجروح جمعوا باقى القوة و بالكاد نجوا من الابادة .
العملية كانت ناجحة نجاحا عظيما و لولا تأخر السرية المصرية بقيادة الصاغ الصاوى عيسى لتغير مجرى التاريخ ، وصلت الدبابات و معها بعض عربات صغيرة و نزل منها اليهود منها لنظافة أرض المعركة ، بعد ذهاب عساكرى كما ذكرت أغمى علىّ من النزيف و الجوع و العطش لأنى لم أذق شيئ من الساعة 8 مساء 17-8-1948م لغاية الساعة 4 مساء يوم 18-8-1948م و كان بجانبى جنديين سودانيين مجروحان جروحا بليغة لم تمكنهم ملاحقة زملائهم المنسحبين و أنا راقد على الارض سمعت صوت طلقات رصاص كثيرة تدوى فى أذنى ففتحت لأرى عساكر اليهود يقتلون كل الجرحى السودانيين لأنهم تلقوا تعليمات من رؤسائهم بأن لا يبقون على أسير حيا لأن دولة إسرائيل صغيرة و فقيرة و لا إستعداد عندها لإعالة جنود من أعداءها و لكن لا تقتلوا( الضباط ) فإذا قبضتم على أى ضابط حيا فاحضروه للقيادة فربما نستفيد منه ، والجريحان اللذان كانا بجانبى أسعدهم الحظ بقربى منهم و إلا كان حظهم مثل الذين استشهدوا .
كنت انا راقد على وجهى من شدة حرارة الشمس و ملابسى اتسخت بالدماء النازفة من جروحى و إلتصقت بجسمى و كانت الطبنجة و ذخيرتها معلقة بكتفى مع النظارة المكبرة و زمزمية الماء الفارغة و شنطة الخبز التى هى أفضى من فؤاد أم موسى ووصل الى قربى ضابط يهودى و نزل من عربته و لما رأى علامة التاج على كتفى و الطبنجة تحتها سألنى اولا بالعبرية ثم بالانكليزية هل أنت ضابط فأجبته بالايجاب فقال لى إرفع يدك الى فوق فأجبته بالانجليزية انى غير قادر على ذلك لأنى مجروح فقال لى قم على رجليك فقلت له ايضا إنى غير مستطيع فافتكر إنى أخدعه بعدم مقدرتى فنادى سواق العربية و تكلم معه بالعبرية و شهر طبنجته و تقدم نحوى ببطء ووقف على رأسى و صوب علىّ الطبنجة و قال للسواق خذ منه الطبنجة و النظارة و العصا و باقى الاشياء و قد فعل .
العسكريان السودانيان المجروحان اللذان كانا راقدين بجانبى كانا يشكوان من شدة العطش و كانا يعلمان بأنى أعطش منهما و أزيد بعدم تدخين الكدوس فى تلك المدة الطويلة فكنت أصبرهم و أقول لهما ان القوة المصرية ستحضر لنا الان و معها الماء و الاكل و الشاى كمان و ظلا يشكوان لى باستمرار حتى اراحهم الله بأن اغمى عليهم . الضابط اليهودى و سواقه اجلسانى طبعا بعد ان أخذا كل ما معى الساعة و القروش القليلة التى كانت بجيبى و عليه التباكو و الكدوس و الكبريتة ايضا ، و هنا سألته هل لديك ماء أشربه فقال نعم و أمر السائق بأن يحضر (جركن) مملؤ بالماء فقلت للضابط اعطى هذا الماء الى اولئك الجنديان المجروحان فقال لى اشرب انت اولا ولدى ماء كثير لهم فقلت له انا لا اشرب حتى يشرب الجنديان الجريحين قبلى فقال اشرب اشرب فالماء كثير فكررت رفضى و هنا تحول للجنديين و سقاهم و عاد لى و سقانى و قال لى :ـ ( l Iam very proud to see a gallant officer like you who
Preferred his man than to himself )
هذا الضابط اليهودى كتب هذه الحادثة فى الجرائد الاسرائيلية و جريدة التايمس اللندنية ، مما يجب ذكره هنا أنه أثناء هجوم البلاتون الاول بقيادة المرحوم الملازم اول على رمضان بوريه كان امامهم مدفع (برن) داخل خندق و عشرة يهود فعساكرنا صاحوا بصياح الحرب و علقوا البنادق على ظهورهم و استلوا سكاكينهم و هجموا على اليهود شاهرين السكاكين و ذبحوهم عن آخرهم قبل ان يطلقوا أى رصاصة ، و الاغرب و الاعجب و مما يدعوا للفخار ان الاونباشى تية كافى و هو من أولاد النوبة بالدلنج هجم على ضارب المدفع اليهودى و امسك برأسه و تكاءه و ذبحه و أخذ رأسه و يقطر دما و ضرب به عسكرى المدفع اليهودى الثانى و كانت النتيجة ان المضروب بالرأس المقطوعة وقع ميتا من شدة الرعب و الفزع و الخوف الشديد و الاونباشى تية كافى لم يزل حيا يرزق و بعد نهاية الحرب و عودتنا للقاهرة رقى الى رتبة باشجاويش و الحق بحرس الحدود الشرقية بعين شمس بالقاهرة .
هذه المعركة قال عنها ابا ايبان وزير خارجية اسرائيل أمام مجلس الامن :ـ
(The block troops undercommand of major Zahir Elsadati were very hard and savage against our troops in the battle of Beit Doras in Palastine )
(و الفضل ما شهدت به الاعداء )
و الضابط اليهودى حملنى ووضعنى بالعربة و ركب بجانبى و السواق أخذ عساكرى الجرحى و اركبهم معه فى الخلف معه و إبتداء سيرنا فى إتجاه ارض المعركة بين الادغال و الرمال الاحراش و أثناء سيرنا كنت الاحظ عساكرنا الموتى يمينا و شمالا وسط الخنادق و الاشجار فرأيت المرحوم الملازم اول على رمضان بوريه واقعا و الدماء تخرج من جبهته و ماسكا الطبنجة بيده و أصبعه على التتك و بعد مسافة 50 ياردة تقريبا رأيت المرحوم الملازم اول على محجوب راقدا منبطحا و الطبنجة بيده و أصبعه على التتك أيضا ، هنا انا انفعلت جدا ولاحظ الضابط اليهودى حالتى فأوقف العربة و عصب رأسى و عيونى بمنديل أسود كبير كى لا أرى شيئ و من ثم لا يمكن أن أعرف إتجاه سيرنا و كان الوقت نحو الساعة 30 05 تقريبا و استمرت العربة سائرة مسافة ساعة كاملة ووصلنا الى امام مبنى كبير و أنزلونا جميعا و أدخلونا الى داخل المبنى و لم تزل عيوننا مربوطة ووضعونا على حصيرة و كان الظلام سائدا فطلبت من الضابط اليهودى أن يسرع بمعالجة الجرحى الذين كانوا فى حالة سيئة أحدهم ضرب برصاصة فى جنبه الايمن و خرجت من كليته اليسرى و الآخر كسرت ساقيه زد على ذلك وجدنا البرد شديدا فى تلك المنطقة و بعد قليل أخذوا العساكر الجرحى الى جهة لا أعلمها و تركونى تحت حراسة جندى مسلح و قالوا له بالانجليزية إذا حاول هذا الماجور فك العصابة من عينه او حاول الهروب فأضربه بالرصاص و أطعنه بالسونكى فى عينيه ثم أحضروا لى ماء فى علبة فواكه و معها أربع قطع بسكويت من النوع الناشف و لما أشرقت الشمس أحضروا لى كباية شاى بدون سكر و بعد هذا الغذاء الفاخر!! فكوا العصابة من عينىّ و نقلونى الى عربة كانت واقفة امام المبنى و ساروا بى الى مستشفى يقع على ساحل نهر و انزلونى و دخلنا المستشفى و هنا قام أحد الاطباء بقطع كل الملابس التى كانت على جسمى بالمقص لأنها كانت ملوثة بالدم ولاصقة على الجسم و عمل لى غيارات على الجروح و هنا حضر ضابط كبير و أمر بأن يلبسونى ملابس المستشفى و أخذنى الضابط و أثناء مرورى بردهات المبنى وجدت عساكرى المجروحين قاعدين على كنبة منتظرين المعالجة فقلت لهم أنا لا أعلم الجهة المساق اليها وطبعا سوف تلحقوا بى و أوصيكم بأن تكونوا رجالا و لا تنطقوا بأى كلام ضد الجيش المصرى و ذهبوا بى الى مبنى آخر قرب المستشفى و دخلنا الى مكتب وجدنا فيه أحد ضباط المخابرات فقام و حيانى بالتحية العسكرية و طلب منى الجلوس على كرسى أمامه و بدأ يسألنى عن شخصى فقلت له أنا الصاغ زاهر سرور الساداتى سودانى و قائد الجنود السودانيين المتطوعين لحرب اليهود بفلسطين و قال كم عدد الوحدات المصرية بالميدان و أين موقع رئاستها و أين محل التعيينات وورش تصليح العربات و مخازن الذخيرة و ما هى الطرق بين الوحدات و هل للوحدات آلات لاسلكية و كم عدد المدافع و المدرعات و أين مواقع الوحدات بالضبط و خصوصا المدفعية فقلت له أولا أنا لست ضابطا بالجيش المصرى بل أتيت متطوعا و لا أعلم أى شيئ عن الجيش المصرى و معداته و هنا أعطانى سيجارة وولعها لى و أحضر لى كباية شاى بلبن فشربت الاثنين و كنت متوقع أن تكون مسمومة و أنا لا يهمنى شيئ بعد أن أديت رسالتى فى الميدان بعد الشاى و السيجارة قال لى لماذا حضرت من تلك البلاد البعيدة الى فلسطين لتحارب دولة لم تحاربكم ؟ فقلت له أننا فى السودان سمعنا عن المجازر التى إرتكبها اليهود ضد العرب فى بلدة دير ياسين و أنهم قتلوا النساء و الشيوخ و الاطفال و بقروا بطون النساء الحوامل و كلهم مسلمون و أهالى السودان عرب و مسلمين فهاجوا عند سماع هذه الكارثة و مؤتمر الخريجين العام تولى الدعوة لارسال رجال لمساعدة أهل فلسطين الضعفاء ، فقال لى كم عدد أفراد القوة المصرية الان بميدان القتال فأجبته بأنى لا أعلم فأعطانى سيجارة ثانية و طلب لى فنجان قهوة آخر ، كل هذه الاسئلة و نحن الاثنين فقط فى غرفة التحقيق و فجأة ضرب جرس و دخل علينا أربعة عساكر و أمرهم بأن يلتفوا حولى و كلهم صوبوا بنادقهم علىّ و قال لى أسمع جيدا هذه آخر فرصة لانقاذ حياتك و نهرنى بصوت عالى و ضرب التربيزة بشدة و أردف بقوله اذا لم تقل كل المعلومات التى تعرفها و ترد على كل الاسئلة التى سأطرحها عليك الآن فإنى سأمر هؤلاء العساكر أن يطلقوا عليك النار و أنا بدورى تهيجت و قلت له أسمع يا جناب الكولونيل أنت تعلم إنى ضابط عظيم و أعرف جيدا قوانين الحرب بين الدول المتمدنة و أعرف ايضا (معاهدة حنيف الدولية) لمعاملة أسرى الحرب و ان الاسير لا يطلب منه سوى معرفة اسمه و رتبته و سلاحه الذى ينتمى اليه فقط و لا غير ذلك و أنا حاربت من قبل و لا أخاف الموت و أنا حضرت الى فلسطين متطوعا و كنت أعلم سلفا بأنى سأموت و لهذا فانى ليس لدى ما أقوله اكثر مما قلته و لا داعى سؤالى بعدهذا فافعل ما شئت ، وهنا ابتدأ صاحبنا يحشوا كدوسه وولعه و نظر فىّ مليا و قال يظهر أنك رجل عنيد و انا سارسلك لجهة أخرى تتولى استجوابك بطرقة اخرى و هنا لما الحال وصل الى التهديد المباشر و انا اعلم ما وراءه قلت له بحزم انا لا اذهب الى تحقيق آخر و اذا لديك إجراء آخر فافعله ، هنا صاحبنا ولع كدوسه و قال للعساكر الذين شاهدوا هذا الحوار باللغة الانجليزية و لا أدرى ان كانوا يفهموها بأن يخرجوا من الغرفة .
________________________________________
خروج العساكر تبدلت نغمة صاحبنا الكولونيل و شد على كدوسه و تكلم معى بلطف و قال لى أنا فهمت بوضوح انك ضابط شجاع و سمعت ذلك من الضابط الذى ألقى عليك القبض فى ارض المعركة و خسارة أن تموت و فى امكانك إنقاذ حياتك فهل لك ان تساعدنى على إنقاذك ؟ و انا اعلم طبعا ان لك زوجة و اولاد و هم فى حاجة لرعايتك و انت لم تزل فى سن الشباب ، فقلت له ان الحكومة المصرية بالتأكيد تعلم نبأ وقوعى فى الاسر و بلغته الى جمعية الصليب الاحمر الدولية و ستتخذ كل الاجراءات الدولية لانقاذى و اذا انا مت فهذا ما كنت اسعى اليه ، هنا قفل التحقيق معى و أمرنى بالخروج من الغرفة ووجدت عربة بانتظارى و بها ستة عساكر حرس مسلحين أخذونى الى معسكر الاسرى فى (عتليت) على شاطئ البحر الابيض المتوسط قرب مدينة (تل ابيب) هذا المعسكر كبير جدا و محاط بالاسلاك الشائكة المضيئة ليلا و نهارا و به نحو ثلاثة الف اسير من العرب الذين خربت قراهم و اخذت ممتلكاتهم بواسطة اليهود و به كميات هائلة من الملابس و البطاطين المنهوبة من الاهالى العزل ووجدت عددا من الضباط المصريين و رحبوا بى كثيرا و كانوا يلهجون بشكر السودان و اهله و قدروا مرؤتنا بالحضور لمشاركتهم عناء الحرب و كان الضباط اليهود يحترمونى لانى فرضت احترامى عليهم بسلوكى و لذلك عملوا خيمة منفردة لشخصى و كان الماجور قومندان المعسكر يأتينى كل صباح و يحينى بالتحية العسكرية ، و مكثت فى هذا المعسكر مدة ثلاثة شهور و نعلم شيئا عما يدور فى الخارج و بعدها سرت اشاعة بان الضباط يدبرون طريقة للفرار من هذا المعسكر لينضموا الى جيش سوريا تحت قيادة الرئيس حسنى الزعيم و لذلك نقلوا الضباط المصريين و انا طبعا معهم الى معسكر قرب مدينة (يافا) على شاطئ البحر تحت حراسة سفينة حربية بميناء يافا الى ان اعلنت الهدنة فى مدينة (رودس) و حصل تبادل الاسرى بين الحكومات و نقلنا الى غزة و هناك تحت رعاية الصليب الاحمر الدولى عدنا للقاهرة ، الجيش المصرى حارب فى فلسطين بشجاعة و جدارة و لولا التخاذل الذى ظهر من بعض الحكومات و الخيانة من بعض الرؤساء مثل خيانة الملك عبدالله ملك الاردن الذى كان القائد الاعلى لكل الجيوش العربية بفلسطين لما حصل ما حصل و كانت النتيجة ان قتل الملك عبدالله فى بيت المقدس فى يوم الجمعة فبل الصلاة بيد احد المحامين .
العودة للقاهرة : عدت للقاهرة و دخلت المستشفى العسكرى بكوبرى القبة و كان قائد المستشفي هـــو اللـــواء
عبدالرحمن نديم ـ الذى فتح عيادة فيما بعد لعلاج الانف و الاذن و الحنجرة بالخرطوم ـ لان اليهود تعمدوا عدم معالجتى لانى كنت أشم العفونة من جراحى و المادة تخرج منها و جلت قدرة الله تعالى انى فى مدة التسعة أشهر التى قضيتها بسجون اليهود لم اشعر بالالم من الجروح و لا أدرى للآن كيف حصل هذا و انا مصاب بأربعة جروح فى أربعة محلات مختلفة فى جسمى و القيح ينساب منها و الله قادر على كل شيئ .كتبت عنى الجرائد المصرية عن أعمالى بالميدان و زارنا عدد كبير من المصريين و كان اولهم الاخ الشهم الاميرالاى محمد نجيب بك قائد مدرسة الضباط العظام آنذاك و الشاعر الفحل محمد سعيد العباسى الذى أهدانى ديوان شعره المطبوع حديثا بخط يده و لم ازل محتفظا به و السادة الصحفيان النابهان اسماعيل العتبانى صاحب جريدة الرأى العام و المرحوم محمد أحمد السلمابى رئيس تحرير جريدة صوت السودان سابقا و كتبوا عنى مشكورين فى صحيفتيهما ، و فى أحد الايام حضر لى الاخ الاميرالاى محمد نجيب و قال لى أنه أخذ تصريح قائد المستشفى كى اتغذى معه بمنزله و هذا تصريح صعب الحصول عليه و الدولة فى حالة حرب و لكن نجيب و ما اتصف به من الشهامة و الرجولة و الشجاعة كانت تفتح أمامه كل الابواب و كان محبوبا من كل افراد القوات المسلحة المصرية و احضر لى معه بدلة عسكرية و قبعة بعلاماتها و قميص و كرافتة و عصا أيضا و قال لى أنه قد جهز لى مفاجأة فى البيت فركبنا عربته الى منزله بمنشية البكرى شرق المستشفى العسكرى بقرب منزل الوزير المشهور مكرم عبيد و عند صعودنا الى الدور الرابع بدون اسانسير و دخلنا الى الصالون وجدت أمامى اللواء عبدالله النجومى باشا ياور الملك فاروق فتعانقنا بحرارة لانى أعرف النجومى عندما كان برتبة الملازم اول فى البلوك الخامس باورطة خط الاستواء بمحطة (لوسنجا) بمديرية منجلا آنذاك و حضر الاكل امامنا و كانت التربيزة الكبيرة ملآنة جدا بالمأكولات و لكن الذى لفت نظرى طبق غرباوى ملآن بالكسرة البيضاء و صحن صحن كبير مملؤ بملاح (أم رقيقة) و اللحم محمر فى صحن آخر و صحن كبير فارغ امام كل واحد كى يأخذ أم رقيقة بالمغرافة و يخلطها بالكسرة داخل الصحن و يخمج كما يريد اذا لم يغمس و هجمنا على ام رقيقة و تركنا باقى المأكولات و نهشنا اللحمة المحمرة باصابعنا بدلا عن الشوك و السكاكين و خلصنا عليها و تركنا باقى الاكل كما هو بما فيه الحلوى و بعدها قدمت لنا الجبنة السودانية مبخرة فشفطناها و هنا بعد هذه الاكلة السودانية الشهية سألت انا نجيب اسمع يا اخى سؤالى من الممكن احضار الشرموط و توابعه لعمل الملاح و لكن كيف عملتم الكسرة و انتم تسكنون فى الدور الرابع فى قصر بدون اسانسير فأجابنى و هو يضحك يا عزيزى هذا هو سر المهنة و عقبت عليه و كيف ذلك ؟ فقال طلبت من الاخ الصاغ خميس حلمى و هو يسكن بحى بولاق ان يكلف الست زوجته بأن تعمل الكسرة عندهم و نقلوها بالعربة من بولاق الى حى منشية البكرى و هى مسافة تزيد على المسافة من الخرطوم الى مدينة مسيد ود عيسى بالجزيرة ، ثم ولعت كدوسى وولع نجيب كدوسه اما اخينا النجومى فهو فكى كبير و لا يدخن أبدا و بعد هنيهة فاجأنى الاخ اللواء عبدالله النجومى بأنه دبر هذه المقابلة و الغدوة مع نجيب كى يقابلنى و يبلغنى تحايا صاحب الجلالة الملك لوصولى بالسلامة من اسر اليهود و انه يرجوا لى عاجل الشفاء و أن جلالته ايضا منحنى وسام (نوط الجدارة الذهبى) اعترافا بشجاعتى ، حقا انها أكلة تاريخية اولا لانى لم أرى الكسرة و الملاح منذ ابريل سنة 1948م لغاية هذا اليوم و هو سبتمبر سنة 1949م و ثانيا منحت فيها نوط التقدير ممن يعرفون قدر الرجال ، و عولجت فى المستشفى العسكرى معالجة مكثفة و اخرجوا من ذراعى الايمن شظية رصاصة كانت راقدة وسط الشرايين و سببت المادة و لغاية اليوم انا اشعر ببعض الشلل فى اصبعى السبابة ، و بعد خروجى من المستشفى قمت بزيارة للاخ محمد نجيب بمنزله بالحلمية ثم زرت المرحوم عبدالرحمن عزام باشا الامين العام للجامعة العربية و عدت للسودان و بعد ان أخذت استراحة خدمت فى شركة الكسندر جيب فى مشروع كبرى الدمازين شرق الروصيرص و مكثت هناك اربعة اشهر اصبت خلالها بحمى الملاريا فاستقلت من الخدمة و رجعت لام درمان .
وصل الى السودان البطل المرحوم الصاغ صلاح سالم أحد زعماء مجلس الثورة المصرى بعد الاطاحة بالحكم الملكى فى مصر سنة 1952م و قمت معه لجنوب السودان و زرنا المديريات الجنوبية الثلاث و معنا الاخ الشهم القائمقام سليمان ابراهيم (وهذه رحلة تاريخية تقرر على اثرها استقلال السودان و قد كتبت عنها مذكرة تتكون من 25 ورقة فلوسكاب و ليس هنا محل نشرها وهى محفوظة لدىّ) ، بعد العودة من الجنوب وصلتنى دعوة رسمية من الحكومة المصرية لحضور الاحتفال الرسمى بمرور ستة اشهر على قيام الثورة المصرية و ارسلت الدعوة لعدد كبير من اعيان السودان و الصحفيين و انزلونا فى فندق الجراند هوتيل و حضرنا الاستعراض العسكرى الفخم بميدان التحرير و كان الفريق أ.ح محمد نجيب هو القائد الاعلى للقوات المسلحة المصرية و رئيس اول جمهورية فى القطر المصرى و بعد الاستعراض الفريق دعانا سليمان ابراهيم و انا و انعم على سليمان ابراهيم برتبة القائمقام(عقيد) و انعم علىّ انا برتبة البكباشى(مقدم) و الحقنا بالجيش المصرى فى الكتيبة المصرية التى كانت بقشلاق توفيق باشا بالخرطوم(رئاسة مطافئ السودان الآن) من يناير لغاية سبتمبر سنة 1954م ، و على اثر الحوادث التى حدثت فى مصر و عزل محمد نجيب من رئاسة الجمهورية و اعتقاله و كان للحادث دوى هائل بالسودان و خرجت المظاهرات فى شوارع الخرطوم استنكارا لما حدث له و تأييدا لموقفه لان الفريق نجيب كان معروفا و محبوبا من الشعب السودانى و فى مصر حصلت حركة تأييد له من الوحدات السودانية الهجانة بعين شمس بضواحى القاهرة و امكن التغلب عليها بصعوبة و من ثم قررت القيادة الجديدة الاستغناء عن خدمة كل الضباط السودانيين العاملين بالجيش المصرى ووصل اخطار رسمى لقائد الكتيبة المصرية بالخرطوم باحالتنا الى المعاش سليمان و انا ، ومما يذكر ان محمد نجيب كان فى وقت ما قبل حملة فلسطين قائدا لسلاح الحدود الهجانة السودانية و هذا هو سبب تمردهم لما علموا باقالته و اعتقاله .
http://www.adnanzahir.com/%D9%85%D8%B0%D9%83%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%83%D8%A8%D8%A7%D8%B4%D9%89-%D8%B2%D8%A7%D9%87%D8%B1-%D8%B3%D8%B1%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A7%D8%AF%D8%A7%D8%AA%D9%89-%D8%B9%D9%86/