ثمانیةٌ وخمسون عاماً من الفشل في التوافقِ على دستورٍ دائمٍ للسودان
كتب دكتور/ سلمان محمد أحمد سلمان
تأتي الذكرى الثامنة والخمسون لاستقلال السودان وبلادنا ما تزال بلا دستورٍ دائم يتضمّن المعالم الرئيسية لحكم البلاد، ويوضّح حقوق وواجبات مواطنيها وتُحكمُ البلادُ الآن بما تبقّى من دستور عام 2005 بعد أن قام رئيس المجلس الوطني السابق في شهر فبراير عام 2011 ، مباشرةً بعد إعلان نتيجة الاستفتاء، بحذف المواد التي تشير إلى جنوب السودان والحركة الشعبية من ذلك الدستور تمّ ذلك دون نقاشٍ، سواءٌ على المستوى الشعبي أو حتى داخل المجلس الوطني وكما سنناقش لاحقاً فإن هذا الإجراء في اعتقادنا غير سليمٍ ويتعارض مع الدستور نفسه إضافةً إلى هذا فإن هذا الدستور الجديد غير متاحٍ ولا يمكن العثور عليه لا في مواقع الحكومة الالكترونية أو في مكتبات البلاد سوف نوضّح في هذا المقال أن البلاد قد تمّ حكمها بثمانية دساتير وعددٍ أكبر من الأوامر العسكرية منذ فترة الحكم الذاتي قبل ثلاث سنواتٍ من الاستقلال، وحتى اليوم وسوف نناقش حالة التعثّر والارتباك التي صاحبتْ وما تزال تصاحب مسألة إصدار دستورٍ دائمٍ للسودان، مثل بقية دول العالم
الدستور الأوّل للسودان:-
كان أوّل دستورٍ للسودان هو قانون الحكم الذاتي الذي صدر عام 1953 بغرض تنظيم إدارة السودان خلال فترة الحكم الذاتي والتي كانت ستنتهي بتقرير السودان لمصيره بين الوحدة مع مصر أو الاستقلال وقد جمع ذلك القانون بين حكومةٍ وطنية يتمُّ انتخابها انتخاباً مباشراً، وبين صلاحيات محدّدة للحاكم العام الإنجليزي، يعاونه مستشارٌ من مصر السيد حسين ذو الفقار وآخر من باكستان السيد ميان ضياء الدين وقد شمل قانون الحكم الذاتي كلَّ التفاصيل التي تشملها الدساتير بل لقد زاد عليها باشتماله على ملاحق فصّلت الصلاحيات الدستورية والقانونية للحاكم العام، وكذلك الدوائر والإجراءات الانتخابية وقد تمّ حُكمُ السودان بسلاسةٍ خلال فترة الحكم الذاتي بهذا الدستور الذي أثبت نجاحه وكفاءته، وأدّى غرضه بجدارةٍ
الدستور الثاني للسودان:-
كان من المفترض بعد الاتفاق على إعلان استقلال السودان من داخل البرلمان في 19 ديسمبر عام 1955 ،البدء في صياغة الدستور الدائم للبلاد ولكن التعثّرَ بدأ منذ تلك اللحظة فقد اتضح أن الوقت غير كافٍ لحسم المسائل المعلّقة وإصدار دستورٍ دائم للسودان مع الاستقلال في الأول من يناير عام 1956 عليه فقد تمّ إدخال تعديلاتٍ بصورةٍ عاجلة على قانون الحكم الذاتي وإصداره تحت مسمى دستور السودان المؤقّت لعام 1956". وقد شملت تلك التعديلات إنشاء مجلس سيادة من خمسة أعضاء من بينهم عضوٌ جنوبيٌ واحد كرأسٍ للدولة بصلاحياتٍ محدودة ليحلَّ محلَّ الحاكم العام، على أن تكون رئاسة المجلس شهريةً بالتناوب بين أعضائه الخمسة وهكذا أبقى دستور عام 1956 على النظام البرلماني حتى اتفاقٍ آخر وقد أشار السيد حسن الطاهر زروق الذي كان عضواَ بالبرلمان من دوائر الخريجين إلى أنه كان يأمل أن يتمَّ الاتفاق على دستورٍ قبل الاستقلال، وأنه غير متفائلٍ بالتوافق على صياغة دستورٍ بديل، ويتوقّع أن يظل السودان يُحكم بالدستور المؤقّت لزمنٍ طويل
شكّلت حكومة السيد عبد الله خليل لجنةً لوضع الدستور في شهر سبتمبر عام 1956 برئاسة السيد بابكر عوض الله رئيس مجلس النواب، وتمَّ تعيين السيد أحمد خير نائباً له وقد تمخّضت اللجنة وولدتْ دستوراً إسلامياً عربياً للسودان ودولةً مركزيةً لا مكان فيها للفيدرالية التي وعد الساسة الشماليون إخوانهم الجنوبيين بإعطائها الاعتبار الكافي لهذا السبب فقد رفض الأعضاء الجنوبيون ذلك الدستور وانسحبوا من اللجنة ودبّت الخلافات في تفاصيل مسوّدة الدستور وسط الساسة الشماليين الذين كان بعضهم يفضّل النظام الرئاسي على النظام البرلماني الذي اقترحته لجنة الدستور ولم تتم إجازة ذلك الدستور واستمر حكم البلاد بدستور عام 1956 المؤقّت حتى انقلاب الفريق إبراهيم عبود
قفز الفريق عبود وجنرالاته على السلطة في 17 نوفمبر عام 1958 إثر دعوة رئيس الوزراء عبد الله خليل لهم لاستلام مقاليد الحكم لإنقاذ الوطن من الفوضى التي قال إنها قد عمت البلاد وكان أول قرارات حكومة الفريق عبود هي تعليق العمل بدستور عام 1956 وأصبحت البلاد تُحكم بأوامر عسكرية سُمّيت أوامر دستورية يصدرها المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي أعطى نفسه السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في السودان
بعد عامٍ من الانقلاب، في نوفمبر عام 1959 ، كوّن المجلس لجنةً برئاسة رئيس القضاء السيد محمد أحمد أبورنات لدراسة المشاركة الشعبية في حكم البلاد أصدرت اللجنة مقترحها بقيام مجالس محلية مُنتخبة في كل أنحاء السودان، على أن تقوم هذه المجالس في كل مديريةٍ من مديريات السودان التسعة بانتخاب مجلسٍ لتلك المديرية، ثم يقوم كلٌ من مجالس المديريات التسعة بانتخاب ستةٍ من أعضائه للمجلس المركزي في الخرطوم وبالإضافة إلى أعضائه الأربعة والخمسين المنتخبين انتخاباً غير مباشر، يقوم رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتعيين ثمانية عشر عضواً ليرتفع عدد أعضاء المجلس المركزي إلى اثنين وسبعين عضواً كما اقترحت اللجنة أن يكون أعضاء مجلس الوزراء أعضاء في المجلس المركزي بحكم مناصبهم لم يتم تطبيق تلك التوصيات حتى نهاية عام 1963 عندما تكّون المجلس المركزي لأولِّ مرّة غير أنه لم يصدر المجلسُ الأعلى للقوات المسلحة أو المجلسُ المركزي أيَّ دستورٍ للسودان الذي ظلَّ يُحكم بالأوامر العسكرية حتى اندلاع ثورة أكتوبر