السلطة مرض عضوي... هل يجب علينا التعاطف مع حكامنا؟
"السلطة تُسكر، وتحوّل مجموعة من السكيرين إلى قضاة. تتصاعد أبخرتها فتجتاح الدماغ، ثم تجعل الشخص أحمقاً وفارغاً وشديد الغرور". هي السلطة وتأثيرها على أصحابها، حسب ما وصفها الكاتب الإنكليزي صامويل باتلر (1835 - 1902).
ثمة سمات مشتركة لسلطة السلطة على الأشخاص، مهما اختلفت شخصياتهم قبلها، وهذا ما دفع علماء النفس والاجتماع والسياسة للتمحيص بها، بحثاً عن جواب واضح يفسر سبب تصرف أهل السلطة بهذا الشكل "المسموم".
ولكن هل يعني ذلك تبرئة الحكام من الممارسات "اللا أخلاقية" على اعتبار أن "الحق على المنصب لا الشخص"، أم أن المشكلة في السماح بوصول أشخاص بعينهم أساساً؟ وأين تكمن مسؤولية الجماهير؟
الجواب يبدو من الصعوبة بما يكفي لتتزاحم نظريات كثيرة حوله، غير أن فهم الجانب النفسي للسلطة يبقى مقدمة ضرورية بمطلق الأحوال.
النظريات من "ورم خبيث" إلى "سحر وفساد"
تبدو دراسة العلاقة الثنائية بين السلطة والشخصية، أزلية - أبدية. المؤرخ الأميركي هنري آدامز (1838 - 1918) كتب يصف السلطة بـ"الورم القاتل"، وحيناً بـ"السم الذي لطالما كان تأثيره على الرؤساء تراجيدياً".
وكانت وصفة آدامز السحرية لتجنب هذه التراجيديا كلها كالتالي "لا يجب أن يُعطى الشخص سلطة سياسية، إلا إذا كان صادقاً في عدم الرغبة بها". في المقابل، رأى أن "الصديق في السلطة هو صديق ضائع". لماذا؟ لأن "السياسة تحول الشخص الجيّد إلى سيء، والسيء إلى أسوأ".
على ضفة أخرى، كان هناك من رأى أن السلطة لا تغيّر، هي فقط تكشف الأشخاص على حقيقتهم. من بين هؤلاء كان جان جاك روسو وتوماس هوبز على سبيل المثال.
كما أظهرت الروايات القديمة الساعين وراء السلطة "فاسدين" و"سحرة"، بينما "الحكماء" كانوا البعيدين عنها أو الملزمين بها قسراً، دون رغبة منهم.
وبين الضفتين، خرج فريق ليُحمّل الجماهير بشكل جزئي مسؤولية خراب شخصية من يصل إلى السلطة.
اعتبر الطبيب والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون (1841 - 1931) في كتابه "علم النفس السياسي والدفاع الاجتماعي" أن حالات الاضطراب التي تصيب حشود الناس تجعلهم أكثر قابلية للطاعة وقبول الزعامة. السلطة في جوهرها، تكمن في أن صاحبها يؤذي من يتيح له إيذاءه.
وكتب لوبون في "سيكولوجية الجماهير" ما يلي "الجماهير لا تعقل، فهي ترفض الأفكار أو تقبلها كلاً واحداً، من دون أن تتحمل مناقشتها. وما يقوله لها الزعماء يغزو عقولها سريعاً فتتجه إلى أن تحوله حركة وعملاً، وما يوحي به إليها ترفعه إلى مصاف المثال ثم تندفع به، في صورة إرادية، إلى التضحية بالنفس".
وحديثاً، رأت بعض الدراسات السلطة أشبه بـ"مرض عضوي" يتسبب به الدماغ، معتبرة أن محاولات تكهن أداء المسؤولين المرشحين لتولي السلطة يبقى منقوصاً، على أساس أن هذا الأداء لن يتضح إلا حين يمتلك الشخص السلطة.
السياسة في عيادة الطب النفسي
كان الباحث الألماني أدولف باستيان (1826 - 1905) أول من استخدم مصطلح "علم النفس السياسي" في كتابه "رجل في التاريخ" (1860).
وفي القرن التاسع عشر، ظهر علم النفس السياسي، الذي اهتم بدراسة سلوك السياسيين، في فرنسا غوستاف لوبون، كذلك مع المؤرخ والناقد إيبوليت تين الذي أسس "المدرسة الحرة"، واستوحى من نظريات باستيان في كتابه "أصول فرنسا المعاصرة" الذي عالج فكرة تأسيس الجمهورية الفرنسية الثالثة.
كما يعتبر غراهام والاس، الذي كتب "الطبيعة الإنسانية والسياسة" من المؤسسين لهذا العلم، إضافة إلى سيغموند فرويد الذي عمل على "سيكولوجية الجماعة" و"تحليل الأنا".
ويعتبر الكاتب الأمريكي هارولد لاسويل من أبرز من طور نظريات فرويد، لا سيما في كتابيه "علم النفس والسياسة" و"السلطة والشخصية". ويرى لاسويل أن المشكلة في السلطة، تنتج بسبب تفضيل الحياة الشخصية على العامة، أو بالأحرى تأثير الأولى على الثانية.
بحسب لاسويل، القائد السياسي هو إنسان يحول مشاكله الشخصية إلى قضايا عامة، وعليه فإن معظم من يدخلون الحقل السياسي يسعون إلى القوة الذي يتيحها هذا الحقل كنوع من التعويض عن شيء آخر محرومين منه.
يضيف صاحب "صيغة راسويل"، شارحاً، أن ذلك ربما يكون تعويضاً عن تقدير متدنّ لذواتهم، فهؤلاء "يعكسون صراعاتهم اللاشعورية ورغباتهم الداخلية على الواقع الخارجي، وحتى في الشؤون الدولية".
ويجمع أغلب المحللين في هذا العلم على عدم وجود نظرية موحدة في مجال تحليل السلوك الإنساني، ولكنهم يرون أن الأطر الذهنية التي تحدد فهم الشخص للعالم تنتج من مواقف عاشها أو خبرة راكمها. وهذا هو حال من يصل إلى السلطة.
"فهمتكم، فهمتكم"؟
من يذكر عبارة زين العابدين بن علي الشهيرة "فهمتكم"، حين توجه بها إلى الخارجين ضده في شوارع تونس في العام 2011؟ لم يصدقها الثائرون حينها، أو أن الأمور كانت قد وصلت إلى مرحلة عبور الروبيكون.
غالباً يحاول أصحاب السلطة استقطاب عطف الجماهير من خلال بثهم بإحساس من المساواة الشعورية بين الطرفين، فيخاطبونهم بعبارات "التفهم لمشاعرهم" و"الإحساس بمشاكلهم" و"التقدير لظروفهم"، بموازاة بث مشاعر أبوية توحي بالرعاية، وصولاً إلى مشاعر تقديس وألوهية.
بعد أكثر من قرن على مقولة المؤرخ الإنكليزي جون أكتون "أن السلطة تميل إلى الإفساد، والسلطة المطلقة تفسد تماماً"، نشط الباحثون في دراسة التأثير العضوي للحكم على الدماغ.
وجنحت سلسلة من الدراسات إلى اعتبار أن أكثر النبلاء يفقدون قيمهم عندما يستلمون الحكم، فبمجرد أن يتذوق الناس الصادقين السلطة لا يمكن أن يقاوموا فكرة مكافأة أنفسهم على حساب الآخرين.
قد يحتوي الأمر على بعض المبالغة، لكن النتائج تستحق الوقوف عندها.
في دراسة حملت عنوان "لعبة الديكتاتورية"، طلب علماء سويسريون من المشتركين أن يتقاسموا مالاً بينهم وبين أشخاص آخرين، فظهر أن الجميع سعى للاحتفاظ بالجزء الأكبر من المال.
من هنا، شبّه الباحث السويسري جون أنتوناكيس تأثير السلطة على الحكام بتأثير الدماء على مصاصيها. عندما يتذوقون طعمها للمرة الأولى لا يعود بإمكانهم التخلي عنها، وكلما أخذوا منها كلما طلبوا المزيد.
وبحسب الدراسة، تفعل السلطة بالدماغ تماماً ما يفعله الكوكايين، فهي ترفع مستويات التستوستيرون لدى الرجال والنساء على السواء، ما يؤدي إلى ارتفاع مستوى الدوبامين المسؤول عن الشعور بالرضى النفسي، الأمر الذي ينتهي بصاحبه إلى الإدمان.
وكما الحال مع الكوكايين، يتوقع العلماء أن يسبب إفراز المزيد من الدوبامين إلى خلق تأثيرات سلبية كالعجرفة وانعدام الصبر.
عمى أم جهل؟
يُعدّ كتاب عبد الرحمن الكواكبي "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" منهلاً غنياً في هذا المجال.
يصف الكواكبي الجماهير وأهميتها للحاكم بالتالي: "العوام هم قوة المستبدُّ وقوْته. بهم عليهم يصول ويطول؛ يأسرهم فيتهللون لشوكته؛ ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم؛ ويهينهم فيثنون على رفعته؛ ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته؛ وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريماً؛ وإذا قتل منهم لم يمثِّل يعتبرونه رحيماً؛ ويسوقهم إلى خطر الموت، فيطيعونه حذر التوبيخ؛ وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بُغاة".
أما حين يدعي الحاكم قربه من الجماهير ومعرفته بهم، فتفسر دراسات حديثة ذلك بأنه أداة سياسية لامتصاص غضب الجماهير ليس إلا، لأن الحاكم يصاب بالعمى الاجتماعي، الذي يطال أحياناً أقرب الناس إليه. وذلك ينبع من عدم احتكاكه بالجمهور، وعدم تعرضه المباشر لنفس ظروفه وتأثيراتها.
في مقال لأخصائي السلوك دوريان فورتونا تحت عنوان "كيف ولماذا تغير السلطة الناس؟"، تحدث عن "الحاجز الفعلي بين الشبعان والجوعان".
وذكّر فورتونا بدراسة أجريت على أفراد طلب منهم دعم خيار سياسي. وبينت النتائج أن الأشخاص الجائعين بينهم كانوا أكثر ميلاً لتبني سياسة توزيع عادل للثروات، مقارنة بالبقية الذين كانوا أقل ميلاً للتعاطف اجتماعياً.
هكذا لا يرى السياسيون احتياجات الناس حولهم، لأنهم لا يختبرون الحياة نفسها ولا الأدوات نفسها، وبالتالي لا يحكم التفكير المنطقي خياراتهم.
وبحسب علماء النفس، فإن "السلطة تلغي جميع أنواع التعاطف"، فلا يمكن أن نصدق الحاكم حين يدّعي أنه يفهم مشاعر أم فقدت ابنها، أو مريض مات على باب مستشفى، أو جائع لا يملك ثمن طعام أولاده.
المصدر