أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، اذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بالاطلاع على القوانين بالضغط هنا. كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة المواضيع التي ترغب.
موضوع: رد: الفريق عزيز المصري ......ابو الثوار السبت 17 يونيو 2017 - 15:38
«أبو الثوار».. معلم عسكرى بألمانيا.. وعرض من «أتاتورك» (16)
ارتبط عزيز المصرى بالألمان وجدانيًا وعقليًا لفترات طويلة من حياته. اقترب منهم فى اسطنبول، وسعى للعمل إلى جوارهم فى الحرب العالمية الأولى لمحاربة بريطانيا، وذلك بنصيحة من أمير الشعراء أحمد شوقى فى إسبانيا. ووصلت هذه العلاقة إلى ذروتها خلال الحرب العالمية الثانية. وهنا نعود إلى زمن الحرب العالمية الأولى وقصة اتصال «عزيز» بالألمان. فى مدريد، وبعد المقابلة الفاترة فى السفارة الألمانية بعدة أسابيع، سعى إليه أكثر من مسؤول من السفارة.. ذهب عزيز ليجد ترحابًا شديداً.
وقابله السفير وأخبره أن السلطات الألمانية تطلب سرعة سفره إلى هناك. وتكفل السفير بواسطة رجاله بإيصال «المصرى» أو توصيله إلى هناك. يقول عزيز المصرى فى حواره مع محمد عبدالحميد: «كانت رحلة شاقة، فقد ركبنا باخرة إسبانية من أحد الموانئ فى شمال إسبانيا، وسارت بنا فى خليج «بسكى» على امتداد السواحل الفرنسية، ولقد اختبأت داخل الباخرة طوال سيرها فى بحر المانش. كانت الأراضى الفرنسية على يمينى والإنجليزية على يسارى، واخترقنا مضيق دوفر وسرنا بمحاذاة الشواطئ البلجيكية والهولندية، ثم رست على الشاطئ الألمانى، ومن هناك ذهبنا إلى هامبورج ثم إلى برلين. ويحكى عزيز المصرى قصة استدعائه من إسبانيا إلى ألمانيا وقصة التحول فى المواقف «كان كمال أتاتورك فى زيارة ألمانيا، وتقابل مع المارشال (لوندروف) وأثناء الحديث أخبره المارشال أن مغامراً نصابًا مصريًا حضر إلى إسبانيا وأخبرنا عن طريق السفارة الألمانية هناك أنه كان فى أركان حرب الدولة العثمانية، وادعى أنه كان على خلاف مع أنور باشا، وقد طلب عرض خدماته العسكرية، وأبدى استعداده لقيادة مائة ألف جندى فى حربنا ضد الحلفاء.. وبصراحة شككنا فى نواياه ولم نحسن استقباله، وهو موجود الآن فى مدريد، وبلغنا أن الحكومة الإسبانية تبحث عنه للقبض عليه بإيعاز من الإنجليز.
وطلب كمال أتاتورك اسم الضابط الذى تحدث عنه «المارشال» وانتفض واقفًا عندما سمع اسمى. مدحنى كثيراً. وقال المارشال لوندروف: ولكن أنور باشا حذرنا منه وأخبرنا أنه أحد عملاء الإنجليز. وقال أتاتورك: إن أى رجل يعاديه أنور باشا لهو رجل عظيم.. وعزيز المصرى على رأس هؤلاء العظماء. وطلب أتاتورك حضورك، وألح على المارشال أن يعاوننى ولا يدخر أى جهد فى تذليل أى عقبة أمامى فى الحياة داخل ألمانيا، وأخبره أيضًا أننى كنت من التلاميذ النجباء للجنرالات الألمان فى تركيا، ومدى حبى وعشقى لهم. وصلت ألمانيا وذهبت لمقابلة المارشال لوندروف الذى أحسن استقبالى، وحكى لى القصة كاملة، وأبدى أسفه لكل ما حدث وأطلعه على مشوارى كله منذ غادرت اسطنبول بعد العفو عنى، وأيضًا ماذا فعلت مع الإنجليز وماذا فعلوا معى. وطلب منى المارشال أن أختار المكان الذى أراه مناسبًا حتى أعمل فيه، وأخبرنى أيضًا أن كمال أتاتورك طلب منى أن يعرض علىّ العودة مرة أخرى إلى تركيا، وأنه سيعمل على رد جميع حقوقى. شكرته وتركت اختيار العمل لحين التفكير فى ذلك الموضوع.
وأخبرنى المارشال أن مكتبه مفتوح أمامى فى أى وقت. «مضى على وجودى فى ألمانيا قرابة الثلاثة أشهر، وفى تلك الأثناء حضر إلى ألمانيا أنور باشا وزوج أخته طلعت باشا، وطلب منى طلعت باشا مقابلة أنور لأمر مهم، والحق أقول إننى لم أرغب أبداً فى لقاء ذلك الرجل الكاذب المخادع الذى كان وراء محاكمتى وتشريدى وتشريد جميع ضباط جمعية العهد، وهو الذى كان وراء جرائم السفارة جمال باشا فى سوريا، وأيضًا خلف كل المؤامرات والدسائس فى تركيا. وبالرغم من كل ذلك، أخبرنى أصدقائى الألمان أنه لا ضرر من هذا اللقاء، فهى فرصة لنرى فيم يفكر. التقيت أنور باشا وزير الحرب التركى، هو الذى يسعى لاستقبالى فنحن على أرض ألمانيا المحايدة بالنسبة لى وله. وطلب منى أن أعود إلى تركيا حتى أعاونه فى خطته. كانت خطتى ذات وجهين: وجه مع الألمان والآخر مع الرؤساء وأخبرونى أنه يعد لى وزارة الحربية، وهو فى منصب آخر أكبر لم يخبرنى به ورفضت العرض. وفى يوم من الأيام وأنا جالس فى حجرتى بعد هذا اللقاء بعدة أشهر، جاءنى تليفون من وزارة الخارجية الألمانية يخبرنى فيه المتحدث أن أنور باشا قد قتل على حدود أفغانستان. واكتشفوا أنه كان عميلاً ذا وجهين: وجه للإنجليز والآخر للروس. وأنه كان يؤيد ضرب مؤخرة جيش كمال أتاتورك، ومساعداً لليونان على ضرب تركيا. وقد أرسل كمال أتاتورك أحد قواده المشهورين «كاظم قره بكير» واشتبك مع جيش أنور وهزمه، ولم يكن أمام أنور باشا سوى الهروب، وعبر القوقاز وبحر قزوين إلى تركستان، وهناك قتل وقطع رأسه.. وهكذا انتهت أسطورة هذا الرجل القبيح الذى خان وطنه وشرفه وجيشه والذى كان على قمة الفساد فى تركيا.
يستكمل عزيز راويته عن رحلته فى ألمانيا والتى- كما قلت- نشرها محمد عبدالحميد فى كتابه «أبوالثائرين» ونشرها فى حلقات صحفية قبل ذلك. يقول عزيز: عشت فى ألمانيا، وعملت مدرسًا فى كلية أركان الحرب. كنت أدرس تجربتى فى حربى ضد البلغار وأسلوب حرب العصابات الذى ابتدعته وسط المناطق الجبلية ووسط الصحراء والغابات فى ليبيا فى حربى ضد الإيطاليين. وعشت أتجول فى أوروبا سنوات عديدة، والقلق ينهش أعصابى. كانت بى رغبة لأن أعود إلى مصر كما عاد إليها أمير الشعراء أحمد شوقى. وقد وافق رجوعه أصداء ثورة 1919 بقيادة الوطنى الكبير سعد زغلول، لكن الإنجليز كانوا لى بالمرصاد. لم يوافقوا على عودتى بعد انتهاء الحرب. وذات يوم وبينما كنت جالسًا فى البنسيون الذى كنت أقيم فيه بألمانيا، فوجئت بحافظ رمضان باشا وحمد الباسل باشا يدخلان البنسيون ويسألان عنى. كنت فى دهشة من أمرى حينما وجدتهما أمامى وقالا لى نحن نريدك فى مصر، وحكومة الوفد ليس لديها مانع من عودتى. قلت لهما: والإنجليز؟ إنهم يملكون قرار عودتى وللأسف ليس للوفد أى قرار إلا بإذن سلطات الاحتلال. قالا لى: نريدك قائداً للجيش المصرى. فقلت بتعجب: قائداً مرة واحدة. وهل يسمح الإنجليز بذلك. إن القيادة بين أيديهم، وأنا بالنسبة لهم شخصية غير مرغوب فيها على الإطلاق. وافترقنا، وكان الفراق صعبًا إلى أقصى حدود.. وواصلت حياة الغربة والاغتراب، حتى شاء الله أن أعود مرة أخرى إلى القاهرة بعد نفى استمر عشر سنوات. فى هذه الأثناء، ظهرت اتفاقية سايكس بيكو التى تم بموجبها تفتيت العالم العربى وتقسيمه بين النفوذ البريطانى والنفوذ الفرنسى، وكانت العراق بموجب الاتفاقية من نصيب بريطانيا حيث أقاموا هناك دولة عربية ملكها فيصل الأول الهاشمى، وأرسل إليه إخوانه فى جمعية العهد ليعيش وسطهم، وعلى الرغم من وجود أصدقائه هناك، مثل ياسين الهاشمى وطه الهاشمى وجميل المدفعى وحكمت سليمان وجعفر العسكرى، إلا أن الإنجليز كانت لهم اليد العليا هناك.
ولم يتمكن عزيز من تقديم شىء جاد يليق مع شخصيته واستعداده.. وهناك عرضوا عليه تمثيل حكومة العراق لدى شركة البترول العراقية ولكنه رفضه. ويكتب محمد صبيح فى كتابه «بطل لا ننساه» أنه فى العراق، اقترن بسيدة أمريكية، تبادلا معًا الحب والوفاء. وكان أبوها من ملوك البترول فى بلاده وقد أغضبه أن تتزوج ابنته عربيًا مسلمًا، فحرمها من ثروته وميراثه، ولكن هذا الحرمان لم يؤثر عليها. ولا سيما بعد أن أنجبت من زوجها «عمر». فقد كان عزيز المصرى مفتونًا بشخصية عمر بن الخطاب. فى حوار معه منشور فى مجلة آخر ساعة عام 1964 يذكر أن اسم هذه الفتاة الأمريكية التى تزوجها «فرنسيس دريك» ويذكر فى الحوار أنها كانت طويلة وملابسها كانت تصل إلى قرب قدميها، ولكنها كانت مثقفة تحب الحياة التى اختارها «عزيز». ولذلك فقد سافرت معه كل بلاد العالم تقريبًا وإلى العراق وبلاد العجم وأفغانستان، وعند العودة إلى القاهرة تزوجا.
ويقول عزيز: قبل زواجى منها كنت فى العراق، وهناك قابلت ياسين الهاشمى، وفاتحنى فى أمر ثورة العراق، ولكنى قلت له إن الثورة لابد أن تبدأ من القاهرة، فهى الوحيدة القادرة على إنارة الطريق إلى باقى الدول العربية، وهى القادرة على تحمل العبء الأكبر فى هذه الثورة الكبرى. ومن الغريب أن مهر عزيز المصرى- كما يذكر فى الحوار- كان ثلاث روبيات هندية.. أى بما يساوى 14 قرشًا، وكان قد رفض عرض ياسين الهاشمى- فى العراق بأن يدفع المهر ومؤخر الصداق ألف جنيه، كان ذلك فى 1923. وفى القاهرة عاش معها فى شقة بها مائدة صغيرة وأريكة عليها وسادتان كان يضعانها على الأرض ليناما عليها. وفى حوار آخر مع إنجى رشدى الأهرام، فإن «فرنسيس» صحبته إلى طهران حيث قابلا «بهلوى» قبل توليه العرش. فى نفس الحوار، يقول إن زوجته- السابقة- تعيش فى بلادها أمريكا، وكذلك ابنه الوحيد «عمر».
موضوع: رد: الفريق عزيز المصري ......ابو الثوار السبت 17 يونيو 2017 - 15:41
«أبو الثوار» العودة لـ «إصلاح مدرسة البوليس» (17)
كانت ثورة 1919 هى أول تحرك شعبى حقيقى يجمع كل مكونات النسيج المصرى بحثًا عن الاستقلال والحرية. صنع المصريون- سواءً أكانوا موظفين أو عمالًا أو شبابًا أو نساء أو أطفالًا- ثورة شعبية من أجل طرد الإنجليز. تراجعت النزعات الدينية وانتهى حلم الخلافة الإسلامية فى عقول أصحابها بانهيار الدولة العثمانية، ولم يجد المخلصون من أبناء الوطن عنوانًا أمامهم إلا العمل المشترك من أجل التحرر التام.
فى هذه الأجواء، وبعد انتصار ملحوظ لسعد زغلول ورفاقه، عاد عزيز المصرى إلى مصر بعد نحو عشر سنوات من المنفى والتشرد فى أوروبا. عاد والقناعات مختلفة وسمعته رائعة فى عقل ووجدان الصفوة ابتداءً من سعد زغلول و«الوفد» وانتهاء بالملك فؤاد. يقول عزيز المصرى، فى حواره الممتد مع محمد عبدالحميد: «عندما نزلت من الباخرة فى الإسكندرية عام 1924، كان الشوق يؤرقنى ويشقينى، وكان الحب لبلدى مصر يسكن فى أعماقى ويطفو فوق السطح ممزوجًا بالحسرة والألم. كانت نسمات الهواء الرطب ترطب مشاعرى، وتهدئ من لوعة الفراق التى طالت بسبب الإنجليز، وعندما وصلت القاهرة كأنما فتحت أمامى أبواب الحياة والجنة والأمل».
بعدها بشهور التقى عزيز المصرى بسعد زغلول فى منزله «بيت الأمة»، يقول ذهبت أنا وفتح الله بركات.. استغرقت الجلسة أكثر من ساعة، كان قد تقدمت به السن. يضع ساقًا على أخرى، وعصاه تحت إبطه ونظراته ثاقبة وحديثه يجذبك إليه، ولابد أن تطيل السمع لما يقول. وقال الكثير عن تطاحن الأحزاب وأن تلك هى فرصة الإنجليز لإحداث الانقسام بين كل حزب وآخر.. تحدث معى عن سنوات النفى التى قضيتها فى الخارج وأثنى على جهودى.. وجهادى.
فى هذه الأثناء، كان عزيز يسكن أحد البنسيونات فى بداية شارع الأزهر بسبب خلاف مع أخته وأولادها على ملكية بيته وحديقته فى عين شمس بعد أن نقل ملكيتهما إلى أخته قبيل نفيه إلى إسبانيا.
يقول: رفضت شقيقتى إعادة البيت والحديقة، ووافق على ذلك زوجها، وحاولت توسيط أهل الخير ولكن دون جدوى.. لذلك لم يكن أمامى سوى رفع قضية على شقيقتى ودخلنا فى منازعات قضائية استمرت قرابة عامين، وكان المحاميان اللذان يدافعان عن حقوقى هما مصطفى الشوربجى وحافظ رمضان. وفى نهاية الأمر حكمت المحكمة لصالحى، وتسلمت المنزل والحديقة التى بعت جزءًا منها على الفور للإنفاق على حياتى. خلال هذه الفترة، وخلال معيشته فى «البنسيون» تعرّف على الفتاة الأمريكية فرنسيس دريك التى تزوجها فيما بعد، كما سافرت معه إلى العراق وإيران.
بعد ذلك بفترة وجيزة تشهد مسيرة عزيز المصرى نقلة جديدة، فى 5 ديسمبر عام 1928، نشرت صحيفة الأهرام خبراً رئيسيًا بعنوان: مدير لمدرسة البوليس. ومن ضمن الخبر.. وافق مجلس الوزراء على تعيين حضرة الأميرالاى عزيز المصرى بك مديراً لمدرسة البوليس.
وكانت وظيفة مدير المدرسة قد خلت بإحالة شاغلها على المعاش، وهى من الوظائف المرتبة من الدرجة الثانية 90-1140 جنيهًا، وتقترح وزارة الداخلية بدء العمل فى أول ديسمبر 1921 وبإسناد الوظيفة إلى حضرة الأميرالاى عزيز على المصرى بك مع منحه ماهية قدرها 1020 جنيهًا فى السنة. ويستعرض الخبر مؤهلات «عزيز» وأماكن خدمته وبطولاته فى داخل مصر وخارجها.
وفى 26 مايو 1929، تنشر الأهرام تقريراً قصيراً عن إصلاح مدرسة البوليس ووصفت الصحيفة فى عنوان آخر تقريرها بأنه «تقرير نفيس لمديرها» وجاء فيه وضع القائد المصرى الكبير عزيز بك على المصرى مدير مدرسة البوليس والإدارة تقريراً نفيسًا عن أوجه إصلاح المدرسة، وقدمه إلى حضرة صاحب الدولة وزير الداخلية، وقد تصفحنا التقرير فإذا هو برنامج جليل الشأن لإصلاح تلك المدرسة التى ارتفعت الشكوى عن عيوب نظامها القديم، وفى إصلاح مدرسة البوليس إصلاح للبوليس نفسه. والبوليس هو أقرب موظفى الحكومة إلى الجمهور، هو آلة الحكومة التنفيذية، فكل ما نرى من قوانين ولوائح وكل ما يصدر من أحكام يكون حبراً على ورق إذا لم ينفذ، ويكون تنفيذه خطراً مفسداً للنظام باعثًا على الفوضى وفقدان الثقة إذا سلم زمامه إلى أيدى الجهلة وذوى المآرب والشهوات. وإذا لم يرَ الجمهور رجال البوليس مثالًا للشهامة والاستقامة والنزاهة وطهارة الأيدى والنشاط والمثابرة والإنسانية لا يطمئن. بل لن يتوقف المجرمون عن إجرامهم والفاسدون عن فسادهم. لذا تقابل الاقتراحات الجامعة التى حولها تقرير مدير البوليس بالترحاب وتطلب إلى دولة وزير الداخلية وإلى وكيلها وكبار موظفيها أن يحلوها محلها من التمحيص. وأنقل هنا جزءًا من مذكرة عزيز المصرى لإصلاح مدرسة البوليس. أولاً: زيادة العناية بالثقافة العامة والتكوين العلمى بإصلاح المناهج والمكتبة والاتصال بالهيئات البوليسية.
ثانياً: العناية بالتدريب العملى على الطرق الفنية والتعاليم اللازمة لعمل البوليس بإصلاح التدريب العسكرى وإضافة طرق التدريب الفنية الجديدة. ثالثًا: العناية بالرياضة البدنية بإدخال السباحة والمصارعة اليابانية. رابعًا: العناية من الوجهتين المادية والخلقية بالطلاب، ووضع أسس للتربية والأخلاق، بحيث تكون أساسًا للتقاليد الراقية فى المدرسة وفى البوليس تبعًا. ويبدأ عزيز فى تنفيذ منهجه وفى التدقيق فى اختيار الطلاب بعيداً عن الواسطة والمحسوبية. وتتعرض سياسات عزيز المصرى فى مدرسة البوليس إلى هجوم حاد من أحد نواب البرلمان وبأنه رجل عسكرى وليس رجل بوليس، فتخصص مساحة كبيرة لمساندة «عزيز» ومهاجمة النائب. يشرح محمد صبيح فى كتابه «بطل لا ننساه» جزءًا من ممارسات «عزيز» فى مدرسة البوليس ويقول «كان قرارًا غريبًا أن يتم اختيار عزيز المصرى مديراً للمدرسة، فهذا «المعهد» وضع له الإنجليز نظامًا غريبًا، فقد كان عليه أن يخرج أدوات القمع المصرية، التى يحكم بها الإنجليز البلاد. وكان على عزيز المصرى أن يدخل الهواء الطلق النقى يستنشقه الشباب المصرى الذين ستوكل لهم مهام صيانة الأمن فى مقبل الأيام. ويذكر «صبيح» نقلاً عن بعض تلاميذه أن «عزيز» مر على عنابر الطلبة، فوجدهم يضعون نقودهم وحاجياتهم الخاصة فى دواليب، على كل دولاب قفل يحتفظ الطالب بمفتاحه. فأمر بإزالة هذه الأقفال على الفور قائلاً: كيف تكونون رجال أمن فى المستقبل مسؤولين عن أرواح وأعراض وأموال الناس وأنتم منذ الصغر، يتشكك أحدكم فى صاحبه. فلما قيل له: ولكنهم يضعون نقودهم فى هذه الدواليب.
أجاب: ولو.. فلما قيل له إنه يوجد غير الطلبة بعض الخدم.. قال: ولو، ولماذا لا يتعلمون الأمانة أيضًا. ولم تحدث حادثة سرقة واحدة طوال إدارة عزيز المصرى لمدرسة البوليس. فقد رفع شعار الأمانة، فآمن به الجميع. وفى أثناء الامتحان، مر بصالات الامتحان، فوجد مراقبى الطلبة يقفون بينهم فى يقظة وانتباه فسألهم: ماذا تعملون هنا؟.. قالوا نراقب الطلبة! فأجاب: ولماذا تراقبونهم؟ فأجابوا: حتى لا يغش أحد منهم. فما كان منه إلا أن أمر بإيقاف الامتحان، وقال للطلبة غداً يبدأ امتحانكم من جديد، وعلى كل طالب أن يحضر كتاب المادة أو المواد معه، ويضعها أمامه، ويجيب عن الأسئلة، دون أن يفتح الكتاب.. ولن يكون عليكم مراقبون منذ الغد!
ونجحت هذه التجربة نجاحًا باهراً. وأنصف طالبًا متفوقًا فى رياضة الجودو أهانه ثلاثة ضباط إنجليز فى «الترام» بعد أن ألقوا طربوشه على الأرض فأوسعهم ضربًا، وأجبر الضباط على الاعتذار له، ورقاه إلى رتبة «أمباشى» ومنحه 75 قرشًا كل شهر. وحدث فى عهده كما يذكر «صبيح» تجاوز ما كان يسمى «كشوف التوصية» فى القبول. «وجرت العادة أن يحضر «رسل» باشا حكمدار العاصمة الإنجليزى، ومعه قائمة ويتولى هو اختيار أربعين طالبًا، ويُبقى للمدير وأعوانه العشرين الباقين. جلس عزيز المصرى يشاهد رسل باشا وهو يقوم بمهمته التقليدية وأهالى الطلبة يقفون عن بعد يشاهدون ما يتم. فهذا ابن فلان، وذاك ابن علان، وصاحب الرأى هو أكثر الناس رهبة فى مصر إنه الحكمدار رسل باشا. قام عزيز صامتا، وذهب إلى غرفته، دون أن يقول شيئًا. فأدرك أعضاء اللجنة وعلى رأسهم رسل باشا. فقال لهم: إنه لا علاقة لأحد خارج المدرسة باختيار الطلاب. فأنا المسؤول عن تعليمهم، فيجب أن يتم اختيارهم وفق قواعد معينة.
وبعد حديث طويل، رضى «رسل» تفاديًا من أزمة مؤكدة، أن يتركه يخرج عن المألوف. فعاد وأبقى الأربعين الذين اختارهم «رسل» فى مكانهم. ثم طلب من معلمى المدرسة أن يأخذوا الباقين عند خط معين، ثم يطلبوا منهم التسابق، ويحضروا من الستين الأوائل. وما إن تم هذا حتى هتف الأهالى من أعماقهم لعزيز. وقد شحب وجه رسل باشا، ولم يحر جوابا. وكل ما استطاع أن يفعله هو التشفع لواحد فقط من الأربعين الموصى بهم، فقبل عزيز شفاعته. وكان من أهم مبتكراته فى مدرسة البوليس إدخال الكلاب البوليسية والحمام الزاجل والتصوير، كما أدخل المصارعة اليابانية. كل هذه الإنجازات والسمعة الجيدة، لفتت نظر الملك فؤاد إلى مدرسة البوليس وإلى عزيز المصرى. فطلب زيارة المدرسة، وكان فى نيته منصب آخر مهم ورفيع للغاية من أجل عزيز».
موضوع: رد: الفريق عزيز المصري ......ابو الثوار السبت 17 يونيو 2017 - 21:08
«أبو الثوار».. رائد «فاروق».. وصراع مع «حسنين» (18)
يسجل تاريخنا الذى نقرؤه الكثير من المآخذ لحكام الأسرة العلوية، ومن ضمنهم الملك فؤاد، فهو الذى جاء به الإنجليز إلى الحكم رغمًا عن إرادة الشعب، ورغمًا عن رغبة أسرة محمد على نفسها، وهو الذى لم يتحمس لثورة الشعب من أجل الاستقلال فى 1919..
بل إنه أعلن زواجه من «نازلى» يوم قرار الإنجليز نفى زعيم الثورة سعد زغلول للخارج. فى المقابل، فإن الاستغراق فى مفردات هذا الزمان بتفاصيلها الأصلية يكشف ملامح سياسية وإنسانية مختلفة إلى حد كبير فى شخصية «فؤاد» وغيره من هؤلاء الحكام. كانوا يعرفون حدودهم مع «الاحتلال» ونفوذه وبطشه وفى نفس الوقت يعرفون قيمة وقامة رجالات الحركة الوطنية، حتى لو كانت هناك خلافات جوهرية بينهم. كان الملك فؤاد حريصًا على التواصل مع عزيز المصرى.. بل اختاره ليكون رائداً لابنه ولى العهد «فاروق»، ولكن التعارف بينهما بدأ فى مدرسة البوليس. يروى «محمد صحيح ومحمد عبدالحميد» نقلاً عن حوارات صحفية لعزيز المصرى فى أكثر من صحيفة ومجلة، أن الملك قد سمع بمدرسة البوليس ونظمها الجديدة، فاتصل كبير الأمناء بعزيز المصرى وقال له: مولانا جلالة الملك يريد زيارة المدرسة!
فرد عليه: نرحب به. فرد كبير الأمناء فى دهشة: متى؟ فأجاب: الآن.. فكاد سعيد ذوالفقار باشا- كبير الأمناء- أن يصعق. وقال: هكذا من غير ترتيب ولا استعداد فرد عزيز المصرى فى هدوء: نعم يا باشا.. نحن لا نستعد أبداً لحضور أى زائر عظيم، نحن لا نفتعل النظام والدقة، بصراحة نمثل غير الواقع، مولانا عند حضوره سيشاهد سلوكنا اليومى العادى فى جميع إدارات المدرسة «أهلاً وسهلاً» حددوا أنتم الميعاد. «وتم تحديد الميعاد، وأخطرت به رئيس الوزراء ووزير الداخلية، وفى الموعد جاء الملك فؤاد، كان المحدد لزيارته ساعة على أكثر تقدير، ولكنه استمر داخل المدرسة من العاشرة صباحًا وغادرها الساعة الثالثة والنصف. قدمنا له استعراضات على ركوب الخيل والدراجات النارية وركوب الجمال، وأعجب جداً بسلاح الكلاب الذى قام بأعمال رائعة أكدت بحق ذكاء الكلب وحسن الأداء الذى قامت به فى أكثر من مجال، وصفق طويلاً لأداء تمرينات المصارعة اليابانية، واقتحام الحرائق وإنقاذ المصابين ودخل فصول الدراسة والعنابر. كان كل شىء يتم أمامه فى نظام ودقة، مع تعاون بين الطلبة والمعلمين من الضباط، وشاهد أيضًا المكتبة». خلاصة القول أنه أثنى على كل شىء شاهده، وكان من حين لآخر يقول: يا عزيز بك شىء رائع..
لا أصدق أن هذه المدرسة فى مصر. وقال لى سعيد ذوالفقار باشا، كبير الأمناء فى اليوم التالى: إن الملك فؤاد كان يتحدث عنك طوال الطريق.. وفى القصر استدعانى وأثنى عليك بكلمات لم تخرج من فمه لسواك. ولشدة إعجاب الملك فؤاد أرسل ولى العهد الأخير فاروق لزيارة المدرسة وكان عمره وقتها لا يزيد على ثلاث عشرة سنة، ولم أكن أعلم أن هذه الزيارة من الملك فؤاد، وما شاهده كان وراء اختيارى عن اقتناع كامل من الملك لأكون الرائد الأول للأمير فاروق ليكمل دراسته فى لندن..
ولكن حدث ذلك بعد خمسة أعوام تقريبًا. فى عام 1935، عندما انتوى فؤاد أن يبعث بولى عهده فاروق إلى إنجلترا ليكمل دراسته، اختار له عزيز المصرى، رائداً، كما اختار أحمد حسنين باشا رائداً ثانيًا. تناول عزيز المصرى هذا التكليف بكل جد لكن واجهته مشاكل من نوع مختلف تمامًا حيث اتضح تحكم أحمد حسنين باشا والملكة الأم نازلى فى تصرفات فاروق.. وهو ما لم يستقم مع طبيعة «عزيز» الصارمة والعسكرية.
يقول: «علمت فيما بعد أن هناك شخصيات كثيرة رشحت للقيام بهذا الدور، ولكن الملك فؤاد كان مُصراً على وجودى وقيامى بهذه المسؤولية لا يقبل المزيد من الجدل والنقاش. أذكر أننى طُلبت إلى القصر وكان لقائى مع الملك فؤاد الذى أكد لى أنه اختارنى دون سواى لأنه رأى أننى الوحيد القادر على الإشراف على «فاروق» بالطريقة والشكل المناسبين. قبل عزيز المنصب، وجاء موعد الرحلة.. وركب الباخرة وكانت وظيفته الرائد الأول لولى العهد، أما الرائد الثانى، فكان أحمد حسنين يقول لعزيز المصرى فى حواره لمحمد عبدالحميد ضمن كتاب أبوالثائرين: لم أكن أرتاح لأحمد حسنين؟ وطالما كنت أستشعر منه الخيانة.. وقد تحققت كل مخاوفى تمامًا عندما استطاع بالفساد والإفساد لشخصية ولى العهد أن يستحوذ على التقرب منه أكثر منى، ومن هنا جاءت المشاكل، ومن هنا أيضًا كان الجفاء الذى أقلقنى من جانب ولى العهد «على ظهر السفينة التى كانت تجمعنا، وبعد أن غادرنا ميناء الإسكندرية، كان علىَّ أن أتذكر لقاءاتى مع كبير الأمناء والقريبين من ولى العهد حتى أعرف أشياءً كثيرة عن عاداته وتقاليده، وماذا يحب.. وماذا يكره، وما الأشياء التى تستحوذ على اهتمامه، وما هى هواياته، وما قراءاته والكتب التى يفضلها.. وعرفت ضمن ما عرفت أنه وثيق الصلة بوالدته الملكة نازلى، وأن لها دوراً مؤثراً فى شخصيته إلى درجة أقلقتنى أثناء وجودنا بالخارج. أدركت أن حسنين فى غاية الذكاء، وأيضًا فى غاية الرياء، خاصة حينما كان يلعب الشطرنج مع فاروق، ويدعه يكسب وبسهولة.. فى المقابل، كنت أرفض الهزيمة مع فاروق. كان حسنين وصولياً.. وتوقعت المزيد من المصادمات معه خلال الأيام المقبلة، وكان علىَّ أن احتاط لما سوف يفعل، وما سيقوم به من أخطاء، وأيقنت تمامًا أن واجبى ثقيل، ولكننى قررت ألا أتخلى عن مبادئى وألا أنحنى أمام تيار الكذب والخداع.. ولم أكن أدرى فى ذلك الوقت بالذات أن الأيام كانت تدخر لى المزيد من المصادمات، والكثير من المواقف المحرجة التى انتصر فيها خصمى أحمد حسنين. يضيف: لقد أفسد ولى العهد وهو شاب صغير. ثم أفسده أكثر وهو ملك كبير يجلس على عرش شعب احتله الإنجليز: «إننى أتخيل أحمد حسنين شيطانًا فى صورة إنسان، كان كل همه أن يسيطر على ولى العهد.. وقد استطاع أن يصل إلى أمله وخطته لتحطيم شاب تخلو حياته، ويخلو عقله من الإيمان بالله، لقد قاده فى هذا السن إلى عالم النساء فى لندن وكذلك شرب الخمر. ولقد هممت ذات مرة لضربه.. وقلت له «ما إحساسك الآن على الأقل بينك وبين نفسك عندما تقف على باب الفسق يا أحمد.. أنت عنده وسيلة للتسلية والفساد. انظر إلى نفسك فى المرآة، ستجد إنسانًا بلا شرف. وقلت له: سوف أخبر الملك فؤاد بكل شىء. أعلم أن تلك ليست سابقتك الأولى، وأعلم بعد كلماتى القاسية معك أنك لن تغفر لى أى كلمة تفوهت بها عنك، ولكننى لا أخاف، ولن أخشى أى شىء. وكتبت أول خطاب إلىّ الملك فؤاد بسوء قيادة وأخلاقيات أحمد حسنين مع ولى العهد فاروق خلال الشهور الماضية.
فى المقابل، تقول المصادر المحايدة فى هذه المرحلة، إن الرجلين- عزيز وحسنين- اختلفا فى منهج الإعداد التربوى لولى العهد.. ولم يستمر الخلاف طويلاً.. والثابت أن عزيز المصرى حينما أرسل بتقرير إلى الملك لم يصل هذا التقرير فى حينه، خشية أن يؤثر على حالته الصحية، لكن «الملكة نازلى» عرفت بما يتضمنه، فأرسلت إليه «عزيز» تطلب منه ألا يشتد على ولدها، وأن يكون رفيقًا به، فغضب عزيز من تدخلها، واعتبره دعمًا لأحمد حسنين ضده، وكتب إلى الملك يكرر الشكوى، ويحذر من أسلوب حسنين، وأنه سوف يعلمه الطراوة والرخاوة، مهدداً بالعودة إلى مصر، إذا لم يتدخل الملك لتصويب الوضع، ويمنحه اختصاصات تمكنه من القيام بواجبه فى تربية الأمير تربية عسكرية. علم الملك بما حدث وأصدر أوامره للملكة نازلى بالكف عن التدخل فى كل ما يتعلق بدراسة وتربية ولى العهد، لكنه لم يحسم الخلاف حول منهج عزيز المصرى الصارم فى التربية. محمد التابعى فى المقابل يؤكد أن حسنين فى هذه المرحلة كان قائداً لفاروق وليس قواداً له..
وأنه لو مارس الدور المشار إليه لسقط من عين ولى العهد ولعجز عن التأثير فيه. من جهة محايدة، يكتب الدكتور حسن حسنى فى مذكراته عن هذه النقطة، أن اختيار عزيز المصرى ليكون إلى جوار فاروق، وهو المعروف عنه نشأته العسكرية وقربه للألمان وبغضه للإنجليز، أغضب سلطات الاحتلال. وكانوا يوصون فى البداية بترشح شخصية إنجليزية، وهو ما لم يوافق عليه الملك فؤاد الذى عاد للتفكير فى حسنين المقبول لدى الإنجليز ليكون إلى جوار عزيز المصرى. هذه الحيثيات جميعها، قادت إلى نهاية رحلة «عزيز» إلى جوار فاروق.. فيما فتح الباب أمام أحمد حسنين لتكون له مكانة خاصة لدى الملك الشاب ولدى أمه «نازلى».
موضوع: رد: الفريق عزيز المصري ......ابو الثوار السبت 17 يونيو 2017 - 21:10
«أبو الثوار»: جفاء مع «فاروق».. وقرب من «مصر الفتاة»(19)
كانت رحلة «عزيز المصرى» إلى لندن ذات فائدة كبيرة بالنسبة له، فإذا كان قد هُزم في مهمته، ونجح أحمد حسنين باشا في التقرب من ولى العهد، فإن «عزيز» ظل ثابتًا على مواقفه.. وجاءت وفاة الملك فؤاد لتنهى علاقته كرائد لفاروق قبل شهور من تنصيبه ملكًا في 1936. في وسط هذه الأجواء، في لندن، يلتقى «عزيز» الشيخ على عبدالرازق، صاحب المعركة الشهيرة بعد صدور كتابه «الإسلام وأصول الحكم». كان الرجل يعيش في لندن وحيداً في منفى اختيارى بعد ما تعرض له من حملة ظالمة وقاسية. يقول «التقيت به صدفة، كان اللقاء صادق المشاعر من القلب.
كان السؤال الذي طرحه الشيخ على عبدالرازق: متى نصحو من غفلتنا؟.. متى نتحرر من الاستعمار ونبنى مصر فتقوى البلاد العربية؟ إن الدين الإسلامى فيه أساس البناء ولكننا سلفيون جامدون.. خائفون أن نتقوقع داخل الماضى ونحارب الحاضر، نحارب أنفسنا. عالم يحارب عالمًا، ومثقف يحارب مثقفًا، وحزب يهاجم آخر، وأطماع تغلف هذا الصراع والشاهد في شماتة الإنجليز، والاستعمار الذي يجد عندنا خطة أو هدفًا أو رجالاً لديهم القدرة على مزيد من التضحية». يضيف عزيز «قلت للشيخ على عبدالرازق: تلك هي حكايتك.. وهذا هو الطريق الذي أردت أن تسلكه فوضعوا أمامك العراقيل.. وفصلت من عملك بسبب كتابك (الإسلام وأصول الحكم)». ودع «عزيز» الشيخ على وعاد إلى القاهرة ولكن في ظروف سياسية مختلفة.
ففى شهر إبريل 1936، وصلت برقية عاجلة تفيد بوفاة الملك فؤاد وضرورة عودة فاروق على الفور ليتوج ملكًا على مصر. يقول عزيز المصرى «جلست مع فاروق بعد وصوله للقاهرة وقدمت له التعازى في وفاة والده. وقلت له: لقد كنت في خدمتك يا مولاى وأنت وليًا للعهد، والآن أضع خبرتى وكل إمكانياتى في خدمتك، وفى المكان الذي تراه مناسبًا لأداء مهمتى على الوجه والأسلوب الذي تراه». يقول عزيز المصرى في حواره مع محمد عبدالحميد «كانت دهشتى بالغة عندما قام من جلسته في أدب جم، وقال ويداه بجوار فخذيه كأنما هي وقفة عسكرية من ضابط إلى قائده: لا أعتقد أننى سوف أنساك، ولا شك أن مكانك سيظل إلى جوارى تأكد من ذلك». يقول عزيز المصرى: كان يقينى أنه لن يفى بأى وعد نحوى.
ولم أكن أطمع في أي منصب إلى جواره مادام هو لا يريد ذلك، لذلك حدث ما يشبه الجفوة بينى وبينه.. وكان أحمد حسنين واللواء عمر فتحى لا يفارقانه ليل نهار، وتأكد لى أن فاروق قد اختار جانب الفساد والمفسدين. واقترب عزيز المصرى من حركة مصر الفتاة ومؤسسها أحمد حسين في فترة مبكرة، يكتب محمد صبيح في كتابه «أبوالثائرين»: «فى فترة وجوده في إنجلترا كانت حركات الشباب فيها تتطور تطوراً كبيراً. وكانت القاهرة قد عرفت مشروع (القرش) ثم تألفت جمعية وطنية استعارت اسمها من الجمعيات الوطنية في تركيا وإيران والهند وتونس وهى جمعية (مصر الفتاة).
كما قامت حركة الإخوان المسلمين. وكان الصراع الحزبى على أشده، وقد تحول إلى صراع ضد الإنجليز. وحدث اصطدامات عنيفة بين الشباب وقوات الاستعمار وأعوانهم في 1935، سقط فيه كثير من الشهداء مثل عبدالحكم الجراحى ومحمد عبدالمجيد مرسى وعلى طه عفيفى. وما من حركة من هذه الحركات، قبل سفر عزيز المصرى إلى لندن وبعد عودته منها، إلا كان لها نصيب من توصياته.. حيث كان بالنسبة لهم مثل جمال الدين الأفغانى نهاية القرن التاسع عشر. كان عزيز المصرى يرى في حركة مصر الفتاة تجديداً أميناً وسليماً لجمعية العهد، مع فارق واحد، وهو أن جمعية أوائل القرن كان لها جناح عسكرى، أما هذه الجمعية، فكانت تعتمد على الشباب المثقف وغيره من أفراد الشعب. وكان عزيز المصرى يأنس كثيراً لأركان حركة مصر الفتاة، فقد رأى في كثير منها صورة من شبابه، وكان يستقبل أعضاءها في كل وقت وفى جميع الظروف: في مدرسة البوليس، وفى بيته، وفى عمله، وبعد أن تولى قيادة الجيش، وبعد ذلك. كان يعرف الكثير من أفرادها ويدفع إليهم بالكتب، ويدلهم على خير ما يقرأون». في مقال منشور في صحيفة الأخبار «القاهرة» بتاريخ 20 يوليو 1976 يكتب أحمد حسين، مؤسس مصر الفتاة جزءًا من ذكرياته مع «المصرى»: «لست أنسى عندما أظهر رغبته في أن يقابلنى لأول مرة، وكانت «مصر الفتاة» مدموغة بأنها هيئة ثورية والبوليس يطاردها، ومع ذلك فقد أصر عزيز المصرى على أن يقابلنى في المدرسة «مدرسة البوليس». وفى الموعد المحدد وجدت من ينتظرنى ليقودنى إليه. ولما حاولت أن ألمح إلى ما قد يعرضه ذلك إلى بعض المتاعب، قال لى: إحنا معندناش كده وإسماعيل صدقى رئيس الحكومة، ومحمد القيسى باشا (وزير الداخلية) ينتهى سلطانه عند أبواب هذه المدرسة. وقد اعتاد الرجل أن يحدثنى عما لاحظه على فاروق من أنه غير طبيعى، ولما كنا في ذلك الوقت مفتونين بفاروق فقد اعتدت أن أقول عنه أنه هو غير الطبيعى، وسرعان ما كشفت الأيام صدق نظريته في فاروق. وزرته في مكتبه في وزارة الحربية وقد أصبح رئيسًا لأركان الجيش، وكانت الحرب قد أعلنت، فراح يحدثنى عن غباوة الإنجليز، وأنهم خسروا الحرب، فقلت للرجل وهل تتصور أنه من الممكن أن تقول هذا الكلام ثم تبقى في منصبك، فأجابنى: إننى لا أشغل تفكيرى بالمناصب ولو قلت غير الذي أقوله الآن لتصور الإنجليز أننى أخفى شيئًا منهم يعرفون أفكارى ورأيى فيهم. عقب تنصيب الملك فاروق بيومين فقط، طلب منه على ماهر باشا، رئيس الوزراء، إعداد تقرير عاجل حول تقوية الجيش المصرى وإمكانية زيادة عدد أفراد قوته التي كانت تصل في ذلك الوقت إلى 20 ألف جندى وضابط مع تسليح أقل ما يوصف أنه كان متدنيًا إلى درجة كبيرة». يقول عزيز المصرى لمحمد عبدالحميد «سارت الأمور بعكس الاتجاه المطلوب، فقد تولى النحاس باشا رئاسة الوزراء في العاشر من مايو 1936، لم تكن العلاقة بينى وبين النحاس قوية، ولم أكن من رجال الوفد، ومن هنا وجهت الجفاء من جبهتين: الأولى: جبهة الملك فاروق التي انقطع الاتصال بها تمامًا. الثانية: جبهة الحكومة التي كان على قمتها مصطفى النحاس باشا».
وكانت مفارقة طريفة جداً.. أننى كنت أحصل على راتب رتبة اللواء دون أن أؤدى أي عمل. وبعد عدة أشهر أرسلت خطاباً إلى مصطفى النحاس باشا أطلب فيه أداء العمل المناسب مقابل الراتب الذي أحصل عليه أول كل شهر. تحدد لى موعد للقائه. جلست معه قرابة خمس عشرة دقيقة، قال لى: أنا لا أملك أن أقطع عنك هذا الراتب مهما كانت الأسباب. تلك هي أوامر الملك.
موضوع: رد: الفريق عزيز المصري ......ابو الثوار السبت 17 يونيو 2017 - 21:12
«أبو الثوار»..«إحياء الجيش.. ومقاومة الاحتلال والملك»(20)
هناك محطات مميزة للجيش المصرى منذ وحد الملك مينا القطرين (القبلى والبحرى) قبل ما يزيد عن الخمسة آلاف سنة، مروراً بانتصارات قديمة وحديثة.
أسس محمد على باشا وأبناؤه من بعده جيشًا عظيماً استطاع الوصول بحدود مصر إلى أطراف أوروبا شمالاً، وإلى قلب أفريقيا جنوبًا وإلى قلب الجزيرة العربية. تراجع الأداء العسكرى مع هزيمة أحمد عرابى واحتلال بريطانيا لمصر، إلا أن هناك طفرات مهمة في عقود ما قبل ثورة يوليو، قام بها سياسيون عظماء اهتموا بقوة الجيش الوطنى رغماً عن الإنجليز وأتباعه من المصريين.
في 1938، استدعى محمد محمود باشا رئيس الوزراء- حينئذ- عزيز المصرى وأخبره أنه يفكر جديا في تعيينه رئيسا لأركان حرب الجيش المصرى، وطلب منه تقديم خطة عاجلة لما يراه مناسبا لإصلاح حال الجيش. وبعد عدة أيام، عاد وأخبره أن منصب رئيس الأركان يجد معارضة شديدة من الملك فاروق والإنجليز، وهناك تخوف من أسلوب عزيز الجاف. وموقفه المعارض من استمرار الاحتلال البريطانى، كان مقتنعا بضرورة تقوية الجيش المصرى وتزويده بالسلاح المناسب وبعد مفاوضات استمرت عدة أيام، صدر قرار تعيين عزيز المصرى مفتشاً عاماً للجيش المصرى.
يقول عزيز في حواره مع محمد عبدالحميد.. ذهبت للاجتماع مع الفريق حسين رفقى باشا وزير الدفاع، وكانت المقابلة للتعارف ولكنها انقلبت إلى حوار ساخن استمر ثلاث ساعات.. لم أجده متحمساً قدر حماسى، ولم أجد منه الشخصية العسكرية التي تساعنى في أداء واجبى. كان من المفروض أن نكون أصدقاء، ولكننا بعد هذه المقابلة كنا في حاله خصام تنذر بفشل مهمتى، وبرغم ذلك حاولت وضع خطة لتدريب قرابة ثلاثين ألف جندى جوى، وكتبت تقريراً بالسلاح المطلوب من طائرات وعربات مدرعة ومدفعية وتشكيل سلاح مهندسين عصرى، لأن السلاح الموجود كان لا يصلح للاستعمال لقدمه وعدم صلاحيته لإجراء أي مناورة عسكرية مثالية. والصراع الذي وجدته عن حسين رفقى باشا وجدته من خليفته في وزارة الدفاع حسن صبرى باشا. وكان الإنجليز يقفون بالمرصاد لجميع تحركاتى ولقاءاتى بالضباط والجنود، وكنت أحس بالسعادة وأنا أعيش وسط رجال الجيش، وأتحرك وسطهم وأبث فيهم الحماس بأنهم بداية لجيش مصرى جديد.
اعتبر الإنجليز وجودى في وظيفتى كمفتش عام للجيش المصرى بالأسلوب الذي كنت أتبعه من خلال محاضراتى للضباط، واعتبروا هذا التصرف عملاً عدوانياً على مصالحهم السياسية في مصر وعلى استمرار وجودهم على قمم قيادات الجيش. كما اعتبروا مطالبتى المستمرة بتحديث السلاح عملاً ثورياً يجب أن أحصل مقابله على الجزاء المناسب، وكان هذا الجزاء تجميد وظيفتى ووقف نشاطى وسحب جميع اختصاصاتى وكان جوابى الجلوس في بيتى، ووضع ردائى العسكرى داخل دولاب بحجرة النوم.. وتحول الرداء إلى مجرد ذكريات كلها ندم وحسرة على الدولة الضعيفة التي توضع لها سياساتها من المستعمرين لضعف عام في رجالها وأفرادها وجيوشها وحاكمها.
يسجل محمد صبيح عبدالقادر الكاتب الصحفى رواية بها تفاصيل مختلفة لهذه الفترة في كتابه عن عزيز المصرى وعنوانه «بطل لا ننساه» خاصة وأنه كان قياديا في «مصر الفتاة» وارتبط بـ«المصرى» فيما بعد وسجنا الاثنان معًا خلال الحرب العالمية الثانية.
«فى 1939 كلف الملك فاروق، على ماهر باشا تأليف وزارة جديدة، وأراد على ماهر أن يعطى وزارته الحيادية، ومظهر قوة باختيار وجوه يحبها الشعب لنضالها ومواقفها الوطنية، فكان من وزارته عبدالرحمن عزام وعبدالقوى أحمد وصاغ حرب، وانضم إليه عدد من أقطاب السعديين منهم إبراهيم عبدالهادى. كما قرر إنشاء الجيش المرابط والمجندون فيه لا تزيد مدة تدريبهم عن ستة أشهر. وكان يشرف عليه عبدالرحمن عزام باشا. إلا أن ضربة معلم.. كما يقولون التي قام بها على ماهر هي تعيين عزيز المصرى باشا، (أخد رتبة اللواء والباشوية في عهد وزارة محمد محمود الأخيرة) مفتشاً للجيش المصرى- وهو نفس المسمى فيما بعد لرئيس الأركان- في المنصب الذي خلا بخروج الجنرال سفنكس الإنجليزى من هذا المنصب.
وكانت توجد في الجيش المصرى بعثة عسكرية بريطانية يرأسها الجنرال ماكريدى. وفى أول اجتماع مع رئيس البعثة، قال إن مهمته أن يجيب على ما تستشيره القيادة المصرية منه. وقد أزعج هذا التحديد لمهمة البعثة التي كانت تتدخل في كل شىء من تلقاء نفسها، السلطات البريطانية، فسكتت على مضض وكان بعض ضعاف النفوس يهرعون إلى ماكريدى ويخبرونه بكل عمل يقوم به عزيز المصرى.
هجر «عزيز» مكتبه في وزارة الحربية واختار له مكتبا وسط الثكنات ليكون قريبا من الجيش الذي يعمل مفتشاً له. وهذه أيضا كانت خطوات مزعجة جدا للقيادات المصرية المتهالكة القديمة التي كان يسميها «الزراير اللامعة»، والعلم الذي يرفرف على السيارة دال على الرتبة الجليلة. ثم ما لبث عزيز أن قام برحلة طاف فيها بالصحراء الغربية ومعسكرات الجيش في الأقاليم. وما لبثت الحرب العالمية الثانية أن أعلنت، وراح الإنجليز يكدسون معداتهم في مطروح.. ويتأهبون ليوم تدخل فيه إيطاليا الحرب، لعله ليس بعيداً. وكان من بين القوات هناك وحدات مصرية، وخطر لعزيز المصرى خاطر، فأوعز للملك فاروق أن يزور مطروح، ليفتش على القوات المصرية هناك، وسافر مع الملك رئيس الوزراء على ماهر باشا ووزير الدفاع صالح حرب باشا، وكان قواد الجيش الإنجليزى في استقبال الملك وعلى رأسهم قائد القوات البريطانية الجنرال «ويلسن».
وعقد مؤتمر عسكرى، أحضرت له خرائط المنطقة، وراح ويلسن يشرح للملك خطة الدفاع عن مصر إذا هوجمت من الغرب، وكيف أن مرسى مطروح أصبحت قلعة مسلحة. كان عزيز المصرى كثير التدقيق في الخريطة المبسوطة أمامهم وإذا به يقول ما اسم هذا الموقع، إن نظارتى ليست معى، فرد الجنرال ويلسن بعد أن قرأ الخريطة: اسمه العلمين.. فرد عزيز المصرى: يا جنرال هنا يمكن الدفاع ضد أي غزو يأتى من الغرب، فهذا عنق الزجاجة ويمكن تحصينه جيداً، ويصعب بل يستحيل اختراقه. أما مطروح، فيمكن تطويعها مهما كانت الاستعدادات حولها، أو حماية الأسطول لها.
وساد على القاعة صمت عميق، فقد بدأ المنطق واضحاً فيما قال.. ورد الجنرال ويلسون: إن وجهة نظرك لها وزن خطير.. ويجب دراستها، ومع كل حال، لقد حاربت يا باشا في ليبيا سنة 1911، وعنك نتلقى الدروس. وضجت القاعة بالضحك، وقال عزيز المصرى: لم أكن وحدى، كان معى صالح حرب باشا وزير الحربية. في جلسة ثنائية، التقى ويلسون مرة ثانية عزيز المصرى، ومعهم خرائط مكبرة لمنطقة العلمين، وشرح له أماكن هضبة الروسيات، ومنخفض القطارة. وبعد أيام تلقى عزيز المصرى رسالة خطيرة من الجنرال ويلسون، وفيها إشارة لعزيز المصرى واعتزاز بمشورته، ووصف له بأنه لا يقل في عبقريته العسكرية عن عظماء العالم العسكريين. فينقل صبيح في روايته أن عزيز ضحك وقتها وقال: مادام الإنجليز أسرفوا في المدح، فلابد من أنهم مبيتون شيئا سلبياً. هكذا فعلوا عندما عدت من الحجاز سنة 1916. وقد صدق حدسه فما لبث على ماهر أن تلقى رسالة من السفير البريطانى يطلب عزل عزيز المصرى.
وقد أزعج القريبين من الرجل هذا الطلب، ورحنا نسأل على ماهر: ماذا سيصنع؟ فأجاب برد سخيف وقال: عزيز المصرى لا يستحق أزمة، وقرر إعطاءه إجازة طويلة. في هذه الأيام، اتخذ البرلمان قرارات بتجنب مصر ويلات الحرب، وهو ما لم يعجب الإنجليز. وتولى حسن صبرى باشا رئاسة الحكومة، وكان من رأيه مع أفراد حكومته- وغالبيتهم من السعديين- اشتراك مصر في الحرب إلى جوار الحلفاء وحجتهم في ذلك أن ذلك سيخلق لمصر جيشها القوى المدرب، القادر فيما بعد على تحقيق الاستقلال إذا ما انتهت الحرب.
موضوع: رد: الفريق عزيز المصري ......ابو الثوار السبت 17 يونيو 2017 - 21:16
الفريق «عزيز المصرى» «أبو الثوار»: إقالة من رئاسة الأركان على مشارف الحرب العالمية (21)
مع دخول مصر الحرب رسميًا إلى جوار بريطانيا والحلفاء أخذت الأمور مساراً مختلفًا تمامًا وهو ما ترك أثره فى نفوس نخبة جديدة كانت تراقب ما يحدث خلال يوميات الحرب، خاصة فى المنطقة الغربية من مصر، وكذلك فى العاصمة حيث الصراع المحتدم بين حكومات جاءت وذهبت سريعًا لخلافات مع الإنجليز ومع الملك.
بعد مناقشات عميقة، تم اتخاذ القرار السياسى بدخول مصر الحرب.
كان رأى عزيز المصرى مؤيداً لدخولنا الحرب مقرونًا بموافقة الإنجليز على طلبات مصر من السلاح مع ترك الحرية للمصريين فى العمل على الأرض. كانت بريطانيا بموجب بنود معاهدة 1936 قد وافقت على زيادة أفراد الجيش المصرى، وإنشاء قوة للطيران، وإنشاء بحرية مصرية.
كانت التقارير الرسمية فى هذه الفترة تشير إلى أن عدد قوات الجيش آنذاك ثلاثون ألف جندى وفرقة من الدبابات وبعض الوحدات الميكانيكية والجوية. لكن فى المقابل، كانت هناك «بعثة عسكرية بريطانية زاد عددها فى مايو 1939 مع إعلان الحرب، وتجاوز عددها المائة فرد، وكانت تسيطر على كل صغيرة وكبيرة من أمر هذا الجيش المصرى. ولم يكن عزيز المصرى بالرجل الذى يقبل ذلك. رأى عزيز أن البعثة تضع العقبات فى طريق ما كان يحلم به من إعادة تنظيم الجيش، الذى قال عنه فى مذكرة رسمية للملك، إنه سند للاستقلال وإن كافة أفراد الشعب- على حد قوله- متحمسون لفكرة إنشاء جيش جديد قدير محترم.
كانت البعثة العسكرية البريطانية، وكذلك وكما يكتب محمد عبدالرحمن برج فى دراسته الصادرة عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية عن «عزيز المصرى والحركة العربية» لديها مخاوف عميقة من تعيين «عزيز المصرى» كرئيس أركان حرب الجيش، كان ذلك يعنى إنشاؤه لجيش حديث، قوى، قادر وكفء للقتال، وهو الأمر الذى يبطل زعم الإنجليز فى بقائها فى مصر، كما أن عزيزاً كان يؤمن بضرورة تقوية الروح العسكرية لدى أبناء الشعب كله.
ينقل «برج» عن عزيز «أن الإنجليز لا يبغون لجيش مصر أن يقوى، وأن البعثة العسكرية البريطانية وقفت لى بالمرصاد منذ اليوم الأول.. بل إنهم كانوا يحرصون على مرافقتى فى محاضراتى لضباط الجيش.. وكانوا حريصين على التخلص من الرتب الكبيرة التى يتشككون أنها لا ترضى بالاحتلال». ينقل «برج» عن عزيز وصول الأزمة بينه وبين الإنجليز إلى ذروتها يقول: «فى يوم دق التليفون فى منزلى، وقال لى رئيس موظفى السفارة البريطانية إن السفير لامبسون يود أن يراك، وإنه يسره لو حضرت باكراً، وذهبت إلى دار السفارة فإذا برئيس التشريفات يقدم لى دفتر التشريفات لأقيد اسمى ودهشت من ذلك، فإن هذا أمر يجب أن يقصر على الملوك ورؤساء الدول، ولكن السفارة البريطانية فى ذلك الوقت كانت تحكم البلد من وراء ستار، واجتمعت بلامبسون يومها وجلست أتحدث معه وإذا بالسفير يفاجئنى بسؤاله لى عن السر فى إعجابى بالألمان، وصارحته بأن الألمان ليست لهم مطامع فى مصر وأن المعاملة الطيبة تكسبنا، وأننا شعب عاطفى، وأننى أشعر أن هناك عقبات جديدة توضع فى سبيل تقوية قواتنا المسلحة، إن جيشنا القوى سيساعدكم أنتم كحلفاء».
ويقول عزيز: «إننى شعرت بعد هذه الزيارة أن بقائى فى رئاسة الجيش أصبح بلا جدوى منه، وأن مدتى فى رئاسة أركان الجيش أصبحت وشيكة الانتهاء، ولقد حدث ما توقعته. مع بداية الحرب، تمتعت البلاد بحرية إلى حد كبير. يذكر محمد صبيح أن حسن صبرى، رئيس الوزراء آنذاك، رفض طلب الإنجليز باعتقال مئات من المصريين ومنهم عزيز المصرى- الذى كان قد أجبر على الاستقالة- وكذلك محمد صبيح نفسه- كما يذكر- وقد توفى حسن صبرى فجأة، وخلفه حسين سرى باشا الذى لم يزد عن أن يكون منفذاً للسياسة الإنجليزية ففتحت المعتقلات أبوابها مما تسبب فى تسطير قصة من أمتع قصص الحرب»- كما ينوه صبيح. وكان عزيز ضمن المسجونين وهو ما سنأتى لذكره.
فى حواره مع محمد عبدالحميد يقول عزيز المصرى إن الإنجليز انقلبوا عليه لأنه كشف فساد خططهم العسكرية فى مرسى مطروح، وطلبى نقل هذه الاستعدادات إلى منطقة العلمين. كان هناك سبب جوهرى فى رغبتهم فى إبعادى عن هذا المنصب القيادى داخل الجيش وهو احتمال قيامى بضربهم أو التمردد على خططهم العسكرية وبما يؤدى إلى هزيمتهم فى تلك الجهة العسكرية. وأقول بكل صدق ولأول مرة إن هذا الهاجس اجتاحنى وشغل تفكيرى عدة أسابيع، لدرجة أننى وضعت خطة عسكرية من خلال إمكانيات الجيش المصرى لتحقيق ذلك الهدف. وقد رسمت بعضًا من جوانب هذه الخطة على عدة أوراق، وللأسف الشديد ولا أدرى حتى الآن كيف ضاعت منى هذه الأوراق، ولقد بحثت عنها طويلاً ولكن دون جدوى، واعتقادى أنها سربت إلى الإنجليز.
ويرسم «عزيز» ملامح لأعدائه وأصدقائه على الساحة فى مجموعة من الحوارات والتصريحات وذلك قبيل دخوله مرحلة حاسمة فى حياته ومحاولته الهروب فيقول: مع وصولى لمنصبى كرئيس للأركان تشكلت الجبهة الثالثة التى كانت تقف ضدى- يقصد هناك جهتان ضده قبل ذلك هما (الانجليز والقصر) كانت الأحزاب باستثناء (مصر الفتاة) الذى كنت أشجعه وإن اختلفت معه فى الكثير من أهدافه وأيضًا باستثناء جماعة الإخوان المسلمين الذين كنت أعتبرهم عنصراً إيجابيًا فى الحركة الوطنية المصرية لإيمان راسخ عندى أن أهدافهم فى مراحلهم الأولى كانت إنسانية ودينية وأخلاقية مع حسن تنظيم يمكن أن يؤدى إلى خلق جبهة خالية من عيوب الأحزاب، يمكن أن تتصدى للنضال الوطنى دون مصالح دنيوية زائلة.. بالإضافة إلى صداقة شخصية مع زعيمهم المرحوم حسن البنا. ولقد زال هذا كله بالتدريج عندما انحرفت مسيرتهم. وأيضًا استثنى من ذلك حزب الأحرار الدستوريين طوال حياة المرحوم محمد محمود باشا حيث كنت على صلة وثيقة به- كرئيس للحزب- وأيضًا مع الفاعليات الفكرية المثقفة بداخله. «لم أكن عضواً فى حزب مصر الفتاة أو الأحرار الدستوريين أو فى جماعة الإخوان.. لأننى كنت من المؤمنين بأنه بعد وفاة سعد زغلول انحرفت جميع الأحزاب عن مسارها، وتاهت وسط مواثيقها وشعاراتها فى زحام لعبة كراسى رئاسة الوزراء التى كان الملك والإنجليز المحرك الأول لاختيار من يجلس عليها.
يذكر عزيز المصرى أنه تم إجباره فى إحدى المرات على الترشح فى مجلس النواب بناءً على رغبة جماعية من عدد كبير من المستقلين، وكان اتفاق الأحزاب هو عدم ترشيح أحد من أقطابهم فى دائرتى بالقاهرة.. ثم ما لبث أن تدخل الملك شخصيًا وعمل على تخريب ذلك الاتفاق. فوجئت بعدد هائل من مرشحى الأحزاب، وتحولت المعركة إلى هجوم شديد لا أخلاقى نزل إلى مستوى السوقة والصعاليك. وطبعوا منشورات ضدى، واستأجروا جماعات تطوف الشوارع تهتف بسقوطى، ووجدت أن الأمر لا يستحق كل هذه المعاناة، وقررت أنه إذا كان مجلس النواب هو برلمانى صغير فإن مصر هى برلمانى الكبير.
أما الجبهة الأخرى، التى وقفت ضدى فى هذه المرحلة فهى الحركة الشيوعية فى مصر يقول إننى بطبعى لا أميل فكريًا للنظرية الشيوعية والأسباب عندى كثيرة ومتعددة. إننى أولا بحكم تربيتى الدينية وكونى مسلمًا وباعتبار أن الدين الإسلامى يحمى الملكية الفردية ويرفض الأفكار والمبادئ الشيوعية، رفضت هذه العقيدة رغم كونى شخصية متحررة فى حدود الدين.. وأميل إلى العصرية كمنهج ثقافى متحرر من أى قيد. إننى أرفض ديكتاتورية طبقة على حساب طبقة أخرى. كل هذه الجهات (الإنجليز- القصر- الأحزاب- الشيوعيون) كانوا يضربون «عزيز» من كل جانب.. فوق الحزام أحيانًا وتحته فى معظم الأحيان.
لكل هذه الأسباب مجتمعة، قرر عزيز المصرى أن يترك مصر. كانت شظايا الحرب العالمية الثانية منتشرة فى كل مكان.. فقرر أن يغادر إلى ألمانيا التى كانت تكتسح الميادين حينئذ.. وكانت سمعة هتلر فى العالمين العربى والإسلامى جيدة للغاية بفعل دعاية «جوبلز».
موضوع: رد: الفريق عزيز المصري ......ابو الثوار السبت 17 يونيو 2017 - 21:18
الفريق «عزيز المصري» «أبو الثوار»: خطة هروب إلى هتلر وروميل (22)
استطاع التيار الوطنى أن يتعايش مع قسوة الحرب العالمية الثانية وآثارها الاقتصادية والسياسية، بل إنه نجح فى تحديد بوصلته نحو الاستقلال، وسعيه الدؤوب للبحث عن «زعيم» بعيداً عن مؤامرات الأحزاب والقصر والاحتلال. كان ضباط الجيش الشباب- الذين تعايشوا أو استمعوا إلى قصة كفاح عزيز المصرى وسعيه لتطوير الجيش خلال الشهور القليلة التى تولى فيها رئاسة الأركان، قد لقت انتباههم وسعوا إلى لقائه والتعلم منه وهو ما سنأتى إليه لاحقًا. الذى استفاد منه «عزيز» فى هذه الفترة- نهايات 1940 ومطلع 1941- علاقته القوية والأبوية بعدد ليس بالقليل من ضباط البوليس والذين أبلغوه بشكل عاجل أن حياته فى خطر وأن عليه الهروب.
كان عزيز بمثابة الأب الروحى لهؤلاء الضباط وهو مدير مدرسة البوليس قبل ذلك بسنوات. جاءت النصائح بشكل سرى لعزيز المصرى بأن عليه الهروب وبسرعة. كانت الحرب العالمية تنشر الدمار فى كل مكان، وجيوش هتلر تزحف بسرعة جنونية داخل حدودنا الغربية، وقطاعات الشعب المصرى تؤيد هتلر باعتباره المنقذ من الاحتلال الإنجليزى، وتمت حملة اعتقالات واسعة.. وكانت قائمة الاعتقال على رأسها عزيز المصرى باعتباره شخصية غير مرغوب فيها إضافة إلى تقارير ووشايات للإنجليز بأنه قريب من الألمان. يرد عزيز المصرى على سؤال لمحمد عبدالحميد ولماذا فكرة الهروب. فيقول: كلمة «هروب» لست راضيا عنها «إنما كنت أرغب فى الذهاب إلى روميل ثم إلى هتلر.. تلك كانت رغبتى، وتلك كانت وجهتى».
يضيف «إذا فتحنا خريطة مصر فى ذلك الوقت، سنجد على ماهر باشا رئيس الوزراء قدم استقالته عندما تم الضغط عليه لإعلان الحرب على ألمانيا، وبعده جاء حسين سرى باشا رئيسًا.. أما الأحزاب جميعها فكانت خارج دائرة الضوء. والشباب المصرى ثائر وحائر فى نفس الوقت.. والشعب المصرى مغلوب على أمره».
مصر كانت ضائعة بين أحلام رجالها وأحزابها ووزرائها بدليل أنه كان ضمن خطة الإنجليز فى ذلك الوقت إغراق الدلتا- الوجه البحرى بالماء بالإضافة إلى نسف جميع الكبارى والقناطر. وكان معنى ذلك شىء واحد لا خلاف عليه. كان معنى ذلك إغراق مصر فى ماء النيل. إغراق شعب مصر بالماء، أى أن شعب مصر- 16 مليونًا- عليه أن يذهب إلى الجحيم ويموت غرقًا. ويموت من عدم وجود الغذاء.. وتنفش فيه جميع الأوبئة من أجل صالح وعيون الإنجليز، وكانت حجتهم أو كانت خطتهم أن ذلك ضرورى لمنع تقدم القوات الألمانية داخل الأراضى المصرية. كان صاحب هذه الخطة ونستون تشرشل فى إحدى رحلاته إلى القاهرة.
وقد علمت بقصة الشاب المصرى المهندس مصطفى خليل- رئيس وزراء مصر فيما بعد ونائب رئيس الحزب الوطنى الأسبق- والذى كشف الخطة البريطانية.
كانت خطتهم نسف كوبرى إمبابة أكبر شريان حيوى لربط الوجه البحرى بالوجه القبلى عن طريق السكة الحديد، وكانت بعض وحدات الجيش المصرى مكلفة بحراسة الكوبرى. وكان يتولى قيادة المنطقة بكاملها الفريق حسن الزيدى الذى كان يشغل وظيفة مفتش عام الجيش، وكان يشرف فنيًا على الكوبرى المهندس مصطفى خليل، واتفق الضباط المصريون مع المهندس مصطفى خليل على عدم تنفيذ أوامر نسف الكوبرى والسكة الحديد والقناطر الخيرية التى بناها محمد على باشا ولو كانت النتيجة إزهاق أرواحهم. وكان هذا التصرف منتهى الوطنية من المهندس المصرى والضباط المصريين ومفتش عام الجيش المصرى الفريق حسن الزيدى الذى كان على علم تام بهذه الخطة. يقول عزيز المصرى فى حواراته الصحفية عن هذه المرحلة: «كانت أمامى قضيتان أساسيتان وراء رغبتى فى السفر إلى القيادة الألمانية- روميل كمحطة أولى لمهمتى خارج مصر. القضية الأولى: كانت تتبلور فى التفاوض مع روميل ثم هتلر ومحاولة إقناعهما بأهمية العون المصرى ضد الإنجليز، لأن هزيمة الحلفاء فى ميدان القاهرة سوف تفتح الباب على مصراعيه للجيش الألمانى للوصول إلى العراق وسوريا ولبنان وذلك يضعف من الجبهة الروسية على حدود أوروبا الشرقية. وكان فى خاطرى أن تقديم هذه المعونة يقابلها شرط استقلال مصر. كنت متأكداً تمامًا أن نفس العون يمكن أن تقدمه الدول العربية التى تقع تحت الاحتلال الإنجليزى والفرنسى فى ذلك الوقت. فى الزمان الذى كان فيه الأحداث هذه لم يكن هناك مفر من القيام بتلك المهمة الصعبة».
كانت خطة عزيز المصرى وما يفكر فيه قريب لما فعله رشيد عالى الكيلانى فى العراق والذى قام بثورة مسلحة ضد الاحتلال البريطانى لكنه لم يحصل على الدعم المناسب والسريع من الألمان. يقول عزيز «كان من المفروض أن تتزامن مع ثورة العراق ثورة مشابهة فى مصر، ولكن عدم توافر السلاح الكافى وعدم وجود جيوب ثورية داخل الجيش منع قيامها». محمد صبيح الذى رافق عزيز المصرى فى السجن، يروى فى كتابه «بطل لا ننساه» أن عزيز لم يكن يقدر لحركة رشيد الكيلانى النجاح، لأن عناصر الخيانة من حوله كانت متوفرة جداً، فضلاً عن البرود الشديد الذى قابل به الألمان حركته التحررية.
ولم تكن عناصر المقاومة المصرية من هذا الرأى. فقد كان يمثلها فى الجبهة العراقية- المرحوم الدكتور مصطفى الوكيل. كان قد سافر إلى هناك كأستاذ للرياضيات فى إحدى الكليات العالية فى العراق. فلما بدأت ثورة (رشيد عالى الكيلانى) انضم لها ممثلاً عن مصر. وكان مصطفى يذيع علينا من راديو بغداد تطورات الموقف ويطلب منا أن نتأهب للقيام بحركتنا.
«وكنا نطبع البلاغات الحربية العراقية ونوزعها. وكانت وزارة (حسن صبرى) قد سقطت بوفاة رئيسها وتولى (حسين سرى) الحكم. وحدث ذات صباح أثناء محادثة تليفونية مع أحد ضباط القلم السياسى أن علمت منه أنه سيأتى لزيارتى، وفهمت منه أن أمر اعتقالى صدر. كان آخر بلاغ عراقى تم طبعه وكان فى منزلى معداً للتوزيع. ولم يتسنّ لى إخطار زوجتى وشقيقتى بأن تتخلصا من المنشورات.. قرر اليوزباشى (محمود طلعت) أن ينتظرنى فى منزلى حتى أعود. وكان على زوجتى وشقيقتى أن تتخلصا من المنشورات، فقد يخطر ببال الضابط ومخبريه تفتيش البيت، وفى المطبخ، بدأت عملية حرقه، تصاعد منها الدخان حتى عم منطقة المالية، والضابط يقرأ كتابًا على مكتبى فى هدوء واطمئنان.. ولم يحدث شىء إلا أن السيدتين كادتا تختنقان. وجاءنى من عزيز المصرى عن طريق أصدقاء أنه يريد مقابلتى لأمر عاجل فى مكان حدده. وتنكرت فى زى ساعى، وذهبت إليه بعد حملة تمويه. ودخلت إلى صالون فى شقة آنسة نعرفها.. وضربت الجرس وفتحت الخادمة الباب، وقبل أن تقول شيئًا، كنت فى الصالون أعانق الرجل الكبير الذى طال شوقى إليه. قال لى عزيز المصرى إن ترتيبات أحسن من ترتيبات رشيد الكيلانى سوف تُعد، وإن عونًا كبيراً من الأسلحة سوف يأتينا من الخارج. سوف تحمله الطائرات فى أماكن معينة، وإن إشارات بعينها سوف تدل على موعد قدومها، وسيتصل بنا من يدلنا على كل التفاصيل. وعلينا أن نستعد ولا نمكن الإنجليز منا. حاولت أن أعرف منه التفاصيل أكثر فلم أستطع. وخطر لى خاطر، فقلت له: ممكن آجى معاك فى رحلتك بكرة.. وقفز عزيز المصرى من مقعده دهشة.. فقد حسب أننى أعرف الترتيبات التى أعدها لفراره فى اليوم التالى.. كان السؤال رمية من غير رام. ولم يكن أحد يعلم أنه قرر فجر اليوم التالى أن يبدأ مغامرة كبيرة بسفره إلى ألمانيا عن طريق ليبيا أو تركيا».
يحكى عزيز المصرى عن محاولته للهروب «كنت أعلم تمامًا وعن يقين أننى مراقب من جانب رجال البوليس السياسى ومن جانب المخابرات البريطانية.. كنت أحتاج إلى خطة تمويه.. وهذا صعب وأنا شخصية معروفة، كما كنت أحتاج إلى سيارة تنقلنى إلى الحدود الليبية لكى تلتقطنى طائرة ألمانية».
موضوع: رد: الفريق عزيز المصري ......ابو الثوار السبت 17 يونيو 2017 - 21:19
الفريق «عزيز المصرى» «أبو الثوار»: «مهمة الباشا».. محاولة الألمان لتهريبه من مصر (23)
محاولة تهريب عزيز المصرى من القاهرة بمساعدة الألمان خلال الحرب العالمية الثانية وبالتحديد فى مايو 1941، تتضمن فى تفاصيلها حبكة درامية وعسكرية ومخابراتية متكاملة. الروايات بشأنها متشعبة والخوض فيها يحتاج إلى مؤرخ مستقل والمتاح لى فيها شهادات من صاحبها- عزيز- عبر عدة تصريحات وحوارات صحفية. وكذلك ما قاله هو فى جلسات محاكمة فيما بعد ومعه عدد من السياسيين وأشهرهم- فيما بعد- أنور السادات. وسأحاول هنا نقل مجريات ما حدث معتمداً أكثر من مصدر.
وأبدا بأن عزيز المصرى بعد أن أعد خطته للهروب بمساعدة الألمان ورجالهم فى القاهرة، قام بخطة تمويه قوية مع الإنجليز- وهو العسكرى المخضرم- حتى تهدأ مراقبتهم له وكذلك مراقبة البوليس المصرى الذى كان قد فرض حظراً على سفره حتى لو كان لأداء فريضة الحج.
طلب «عزيز» مقابلة «البير جادير كلايتون» وذلك لأمر عاجل. أرسل له الإنجليز أحد العسكريين الأقل رتبة. قال له الكولونيل ثورنهيل إنه سيبلغ «كلايتون» وكذلك السفير البريطانى ما يريده. يقول عزيز «جلسنا فى بنسيون فينوار الذى كنت أقيم فيه بصفة مؤقتة قلت له: فكرتى ليست بسيطة، قد تبدو كذلك ولكن تنفيذها سوف يضع حداً للصراع المصرى الإنجليزى والصراع الإنجليزى العربى. وشرحت له مقصدى. فكرتى تقوم على أساس إيجاد نظام «الدومنيون» للشعوب العربية، نحن شعوب صغيرة، كل دولة مجموعة من ملايين البشر، ومصر بالذات أكثر عدداً من أى دولة عربية أخرى، وأى دولة عربية لا يمكن أن تعيش وحدها، ولا يمكن أن تدافع عن نفسها، والاحتلال يقهر النفوس، ويكلف الدولة المستعمرة والدولة المحتلة، لذلك فأنا أرى أن تنضم جميع الدول العربية بما فيها مصر إلى الجامعة البريطانية تحت نظام الدومنيون، وإذا كان الأمر سيصبح شاقًا فى البداية، فلنبدأ بالعراق، إننى على أتم الاستعداد للسفر إلى العراق.. وهناك شخصيات عربية وعسكرية على أتم الاستعداد للاقتناع بوجهة نظرى وأنا مستعد تمامًا للقيام بدور الوسيط فى هذا الموضوع الهام، وهذه الشخصيات يمكن الاتصال بها وكذلك الالتقاء بها.
وقال لى إن دوره هو نقل هذه الأفكار إلى كلايتون وسوف يحاط بها علمًا السفير الإنجليزى. ولقد قصدت عند وداع الكولونيل ثورنهيل أن أوصله حتى باب البنسيون حتى يرانى بوضوح رجال القلم السياسى لأننى فى الأصل شخصية غير مرغوب فيها عند الإنجليز.
يقول عزيز المصرى لمحمد عبدالحميد: «تلك هى حكايتى مع الكولونيل ثورنهيل وأنا مازلت على يقين كامل أن هذا اللقاء ضاعف إلى حد كبير من حدة رقابتى من الجانبين، القلم السياسى والمخابرات الإنجليزية. أما خطتى الكبيرة فى المغادرة، فكانت مختمرة فى رأسى، وشاء القدر ألا تنجح المحاولة الأولى وأيضًا المحاولة الثانية، ولا أدرى هل هو حظى العاثر أم أن ذلك قدرى، ولطالما سألت نفسى: يا ترى ماذا كان يمكن أن يحدث لو أننى تركت مصر ونجحت فى الخروج، ثم قابلت روميل، ثم تقابلت مع هتلر. إن الإنسان المؤمن عليه أن يسعى، وعلى الله سبحانه وتعالى التوكل.
كنت أعرف رجالاً من أعوان الألمان فى القاهرة، كان كل شىء يتم بحساب ودقة.
كنت أعتمد عليه فى معرفة جميع أخبار الألمان وكذلك عقد الترتيبات لمغادرتى الأولى والثانية. كان هناك حلقة اتصال سرية أخرى بينى وبين الألمان وبالذات روميل يقوم بها هوارد وكان من رجال السلك الدبلوماسى فى المفوضية السويدية بالقاهرة، وكان فى نفس الوقت من القائمين على رعاية المصالح الألمانية فى مصر بعد إغلاق السفارة بأمر الإنجليز. وضعت خطة للمغادرة الأولى بالمعاونة الكاملة من جانب هوارد، وقد عجلنا بتنفيذها بعد أن ذهبت إلى الجهات المختصة للسماح بسفرى، وتجاوز الأمر الرفض من الإنجليز والبوليس المصرى إلى سحب جواز سفرى.. كانت وجهتى فى البداية- إذا تمت الموافقة على السفر- الذهاب إلى بيروت ثم التوجه إلى قيادة روميل، ولما منعت من السفر وضع روميل خطة لاختطافى كانت الخطة محكمة تمامًا، ولكن شاء القدر أن يكتب لها الفشل».
وسأنقل روايتين هنا لمحاولة الهروب الأولى، أولهما كتبها د. محمد عبدالرحمن برج فى كتابه «عزيز المصرى والحركة الوطنية» وذلك نقلاً عن كتاب ألمانى بعنوان «ثعلب الصحراء» والرواية الثانية كما حكاها «عزيز» بنفسه لمحمد عبدالحميد.
فى رواية برج أن أحد ضباط المخابرات الألمانية وضع خطة جريئة بمعاونة أحد الضباط القدامى من الجيش المجرى النمساوى وهو النقيب لاسيزلو فون المازى وكان خبيراً بالصحراء. وكان يعمل رسامًا لسنين عدة فى خدمة الجمعية الجغرافية للحكومة المصرية. وقد طار فوق الصحراء، وكان له أصدقاء فى القاهرة. وقد كسبت المخابرات الألمانية المازى إلى جانبها، وعين نقيبًا فى سلاح الطيران الألمانى، وكان أول اقتراح له سنة 1940 هو تجديد الاتصال مع الفريق عزيز المصرى رئيس أركان الجيش المصرى السابق الذى يميل الآن إلى الألمان وقد فصله البريطانيون من منصبه. أخرج من السياق لأقول إن المازى أو «الكونت المازى» له إسهامات كثيرة فى اكتشاف الصحراء الغربية وكهوفها ووديانها، ومازال جزء من متعلقاته الشخصية على حدود هضبة الجلف الكبير وقد شاهدتها بنفسى قبل عشر سنوات فقط، وله مغامرات شهيرة مع الألمان والإنجليز وتحولت قصته إلى رواية ثم فيلم شهير وهو «المريض البريطانى» كما أن مطار «الماظة» يحمل اسمه.
فى مقر قيادة الأميرال كناريس فى برلين، دهشوا عندما اقترح ضابط الطيران وعميل المخابرات الألمانية الرائد نيكولاس ريتز إحضار الفريق عزيز المصرى باشا إلى ألمانيا ولو لزم الأمر اختطافه. اعتقد كنارى سان الفكرة خيالية ومجنونة، ولكنه وافق عندما رأى فى الخطة تنفيذ رغباته فأصر على تنفيذها وسميت باسم «خطة المصرى» على أن يتم تنفيذها فى غضون ثلاثة أسابيع.
كون ريتز جماعة فدائيين من رجال الأسطول الجوى العاشر الألمانى. واتصل بالسفير الهنغارى فى القاهرة الذى كان موجوداً فى بودابست. لم يطلع ريتز هذا السفير على الخطة على الفور، بل طلب منه أن يسهل لهم الاتصال بـ «المصرى» وأنهم فى حاجة إلى وضع جهاز إرسال فى القاهرة ليبلغهم الطقس هناك. أبدى السفير استعداده للمساعدة، وزاد الرائد ريتز عدد الفدائيين إلى عشرة بمن فيهم المازى. ومن بودابست إلى القاهرة، تم نقل جهاز الإرسال فى حقيبة دبلوماسية وأحضره سالمًا إلى القاهرة. وتلقى السفير تحذيرات من وضع جهاز إرسال فى دار السفارة فأعطاه لقسيس نمساوى فى خدمة المخابرات المجرية. اختار القسيس مكانًا آمنًا للجهاز- لا يتخيله إنسان، وكان ذلك أسفل الهيكل فى كنيسة سانت تريزا فى القاهرة.. وأصبح السفير وعامل اللاسلكى من الزوار المستديمين للكنيسة لأنهما فى مكان غير مشتبه فيه.
بعد اتصال الألمان بعزيز عن طريق عملائهم، اقترح «المصرى» أن تلتقطه غواصة ألمانية من بحيرة البرلس وسط دلتا النيل، لكن كان اقتراحا غير عملى. تقرر أن تقوم طائرة ألمانية بنقله من نقطة متفق عليها فى الصحراء لا تبعد كثيراً عن القاهرة. بعد الاستيلاء على جزيرة كريت فى مايو 1941، أمكن الحصول على طائرتين من طراز هينكل 3 من الأسطول الجوى العاشر لتنفيذ «مهمة الباشا» أما المازى الذى كان يعرف الصحراء، فقد اختار نقطة المقابلة بجوار الجبل الأحمر على طريق الواحات. كان فى استطاعة الباشا أن يصل إلى هذا المكان بالسيارة فى بضع ساعات قبل الغروب، وأن يرفع علمًا يبين اتجاه الريح ثم تهبط طائرة من طراز هينكل 3 الخاصة بـ«ريتز» بينما تبقى الطائرة الثانية فى الجو للحراسة.
كانت الطائرتان على استعداد للإقلاع لكن وصلت برقية من كنيسة سانت تريزا بأن سيارة الباشا تعطلت ولا يمكنها الوصول، وأنه سيكون جاهزاً للطيران يوم السبت 7 يونيو 1941، وقاد النقيب هوللر طائرة الحراسة ومعه الرائد ريتز. وكان قائد الطائرة الثانية فون المازى الذى كان عليه أن يلتقط «المصرى» وكلتا الطائرتين كانت تحمل شارة التمييز الألمانية. وصلت الطائرتان فى الساعة الرابعة فى المكان المتفق عليه، ولكنهم لم تجدوا شيئًا.. هبط المازى إلى مكان مخصص فوق الطريق فى اتجاه القاهرة لكى يتأكد أن المصرى فى طريقه إلى المكان المتفق عليه، لكنه لم يشاهد شيئًا. بعد خمس عشرة دقيقة من الطيران عاد الطيار بطائرته بعد أن رأى مآذن القاهرة فى ضوء شمس الغروب.
صباح اليوم التالى، أرسل جهاز إرسال كنيسة سانت تريزا رسالة: من المحتمل أن يكون قد قبض على الباشا. الخيانة متوقعة، ويخشى أن يكون جهاز الإرسال مرصودا.. وموقعنا فى خطر ولذلك سوف نقطع الاتصال.
أما رواية عزيز المصرى نفسه لمحاولة هروبه الأولى فيقول: «كانت الخطة الألمانية التى أبلغنى إياها هوارد تتضمن إرسال طائرة كتلك التى تستخدمها القوات الإنجليزية. فقط كان علينا اختيار المكان المناسب للهبوط ثم إبلاغ للسلطات الألمانية. اتفقنا أن تكون منطقة «الخطاطبة» هى المكان المختار، ولكن لأسباب أمنية رفض الألمان المكان. وحددوا لنا موقعًا آخر على طريق الواحات البحرية جنوب غرب منطقة أهرامات الجيزة.. وقبل الموعد بوقت كاف استقللت سيارة متوجهًا إلى المكان المتفق عليه، كان عقلى طوال الطريق يفكر فى قلق، وكانت أعماقى تعتصر خوفى الذى يكتسح كل ما بداخلى. لا أدرى لماذا ازدادت حالة التوتر العصبى عندى، علمًا بأنه ليس من عاداتى أبداً أن أكون فى هذه الحالة. اقتربت العربة من منطقة الأهرامات، وكان الظلام شديد الحلكة، والهواء راكداً، حتى تخيلت أن الهواء لا يدخل إلى رئتى.. وفجأة وعلى غير انتظار توقفت العربة وبذلت محاولات شتى لإصلاحها ولكن ماكينتها كأنما تحولت إلى قطعة باردة من الحديد. وأسقط فى يدى. وتصورت الطائرة تجىء فى موعدها، ولكنها لم تجد الإشارة المتفق عليها. وبحق أوشك غيظى وثورتى الداخلية أن يحطما عقلى ويفجر الجميع شرايين جسدى.. وهكذا فشلت الخطة».
ويضيف «كان لابد من تدبير وسيلة جديدة بعد هذه المحاولة الفاشلة. فكانت قصتى مع الطائرة».
موضوع: رد: الفريق عزيز المصري ......ابو الثوار الأربعاء 21 يونيو 2017 - 11:41
«أبو الثوار».. الهروب الثانى.. والسقوط فى مزرعة برتقال (24)
مع فشل محاولة الهروب بمساعدة الألمان عبر الصحراء الغربية وصولاً لروميل، ومن بعده هتلر لتنفيذ حلم قيام ثورة للاستقلال بمساعدة الألمان، فكر عزيز المصرى فى المحاولة الثانية بعد أيام معدودة عبر طائرة تقلع من مطار الماظة وبمساعدة طيارين مصريين. وأنقل الرواية عن حوارات «عزيز» لعدد من الصحفيين، وكذلك لمحمد عبدالحميد فى كتاب أبوالثائرين: «فى التاسعة والنصف من مساء يوم 15 مايو 1941، شعر عزيز المصرى أن المراقبة أخذت تقل عنه بالتدريج، استقل تاكسى أجرة متجهًا به إلى حى مصر الجديدة، وفى ميدان الإسماعيلية توقفت السيارة فى مكان مظلم».
وعلى الجانب الآخر، كان الطيار الملازم أول حسين ذوالفقار صبرى يتناول طعام العشاء فى مطار الماظة. كان هو الضابط العظيم المنوط به السهر والحراسة. بعد العشاء ذهب إلى حظيرة الطائرات وأخبر الشاويش «النوبتجى» والجنود الساهرين للحراسة، أن هناك أوامر عاجلة بوصول شخصية مهمة، بل على جانب كبير من الأهمية سيتم نقلها إلى وجهة سرية. بعد ذلك استقل إحدى سيارات سلاح الطيران، وتوجه بها إلى ميدان الإسماعيلية. توقفت السيارة التى يستقلها ذوالفقار إلى جوار سيارة «عزيز»، وطلب حسين من سائق سيارته حمل الأمتعة من التاكسى إلى سيارته. ثم نزل عزيز ليركب إلى جوار حسين ذوالفقار- وهو كان أحد تلامذة عزيز المصرى ويعتز به كثيراً. بعد مسيرة عدة دقائق جاء إليهما الملازم عبدالمنعم عبدالرؤوف. أسرعت بهم السيارة فى طريقها إلى مطار الماظة.. وهناك ركبوا طائرة «اوفرانسون» مصرية ذات محركين وكان سؤال عزيز لحسين ذوالفقار صبرى: ماذا سنفعل ضد دفاعات الإنجليز خاصة المدافع المضادة للطائرات لأنه من المفروض فى مثل أوقات الحروب أن يعلن عن قيام أى طائرة حربية وتحليقها فى الجو، وخط السير الذى تسلكه. قال الملازم أول حسين ذوالفقار: الخط الذى سوف نسير فيه لابد أن يمر على بعض الدفاعات الجوية وصوت الطائرة مميز ولابد أن يثير انتباه هذه المواقع طالما لم تخطر به مسبقًا.. وفى جميع الأحوال سوف أبذل جهدى فى تفادى هذه الدفاعات بسلام.. إن الله معنا بإذنه ومشيئته.
طارت الطائرة، ومرت الدقائق بطيئة وثقيلة بشكل مثير للأعصاب، وفجأة بدأت الطائرة تهتز بشكل عنيف، ثم أخبر حسين، عزيز المصرى أنه فقد السيطرة عليها.. وسقطت الطائرة بعد بلدة قليوب (مدينة فيما بعد). ووفقًا لرواية حسين ذوالفقار فإن المدافع البريطانية أطلقت على الطائرة نيرانها، لكن السبب الرئيسى فى السقوط هو خلل فنى فى الطائرة، الأمر الذى أدى إلى اشتعال النيران فى المحرك.
سقطت الطائرة شبه سليمة فيما عدا بعض الخدوش، وكان الحريق الذى نشب فى محركها قد أنطفأ. وتصادف أن السقوط حدث فى إحدى حدائق البرتقال.
يقول عزيز المصرى: فى مثل هذه اللحظات مطلوب هدوء الأعصاب والتفكير بشكل سريع.. كانت الساعة تقترب من الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، وتوجهت إلى مبنى مركز قليوب.. كان صف الضابط السهران برتبة «أونباشى».. تقدمت منه بخطى ثابتة وثقة وقلت له: أين المأمور. قال: غير موجود. قلت له: أين المعاون؟ قال: فى الراحة. قلت له: ما اسمه ورتبته؟ قال اليوزباشى: حسين الطلياوى.
لم يكن اسم «الطلياوى» غريبًا على أُذنى، وتذكرته.. كان يعمل مدرسًا فى مدرسة البوليس وبصراحة شعرت بالارتياح العميق لأول مرة منذ غادرت الطائرة. عاد الجندى المكلف بالذهاب إلى منزل «اليوزباشى»، وقال لى: إنه يطلب حضورك ليراك من النافذة. وتعجبت لذلك التصرف، ولكننى ذهبت مع الجندى لأن الطلياوى لم يكن يعلم حتى تلك اللحظة من أنا.
وعندما فتح الشباك، وأطل بوجهه قلت له: انزل يا حسين أنا عزيز المصرى.. وعندما سمع اسمى أغلق الشباك، ونزل على الفور وأدى التحية العسكرية وتعجب لوجودى أمام بيته. قلت له: لقد كنت مدعواً فى حفلة عرس بالقرب من بنها، وتعطلت السيارة، وجئنا مشيًا على الأقدام مسافة ثلاثة كيلو مترات. وطلبت منه البحث عن سيارة تقلنى وزميلى اللذين ينتظرانى بالقرب من شريط السكة الحديد خارج البلدة. وكانت المفاجأة عدم وجود سيارة، لذلك طلبت منه بصفة خاصة الإذن بسيارة البوليس التابعة له حتى توصلنى وزميلى إلى منطقة شبرا. ووافق على الفور وتحركت بنا السيارة ونقلتنا حتى ميدان الأوبرا وسط القاهرة.
فى هذه الأثناء، كان مجلس الوزراء، قد أعلن عن مكافأة قدرها ألف جنيه مصرى لكل من يرشد أو يعاون أو يدلى بأى معلومات أو بيانات تساعد فى القبض على «عزيز» أو على الملازم أول حسين ذوالفقار صبرى أو الملازم أول عبدالمنعم عبدالرؤوف. ونشرت الصحف صورنا نحن الثلاثة.
يقول عزيز «من الطريف أن الصورة التى نشرت عن حسين ذوالفقار كانت مع زوجته، وبمعنى أدق كانت مع عروسه التى لم يمض على زواجه منها سوى بضعة أشهر».
«ذهب الثلاثة بالتاكسى من ميدان الأوبرا إلى الجيزة، وتوجهوا إلى منزل الأستاذ شوكت التونى المحامى، وجلسوا عنده بعض الوقت ثم أخذوا سيارة شوكت حتى كوبرى إمبابة وصرفوا السائق. وقصدوا منزل الفنان عبدالقادر رزق مشيًا على أقدامهم. كانت شقيقته صديقة رزق تقيم معه فى شقته وتولت هذه السيدة مهمة طهى الطعام وشراء ما يلزمهم من الخارج، كما كانت تقوم بشراء بعض الكتب التى احتاجها عزيز ورفاقه. تراوحت مدة بقاء الثلاثة فى منزل «رزق» نحو ثلاثة أسابيع.. ثم كانت المفاجأة بدخول ضابط شرطة عليهم حجرة النوم وهم على ملابس النوم.
يقول عزيز «كان من المفروض أن يتم القبض على محمد صبيح- الكاتب الصحفى ورفيق عزيز فى الحبس فيما بعد- وكان الأخير يتابعه للقبض عليه وكان يقيم بشقة أحمد مرزوق، وكان الأخير يشترى كميات من الطعام لفتت نظر رجال القسم المخصوص.. وتتبعوا أحمد مرزوق ووجدوه يسلم كميات الطعام إلى عبدالقادر رزق، وراقبوا بيته.. وقرروا مداهمة البيت، وكانت المفاجأة لهم هى وجودنا. تم اقتياد عزيز ورفاقه إلى السجن، وتمت إحالتهم إلى المحاكمة بواسطة مجلس عسكرى.. وكان التركيز على شخص «عزيز» وتبارت الصحف القريبة من القصر ومن أحمد حسنين فى الهجوم عليهم.. بل وصفوه بالخيانة وطالبوا بإعدامه.
يقول عزيز «كانت محاكمتى غريبة. كانت معظم التهم فى مجملها سياسية علمًا بأن المحاكمة عسكرية. كان رئيس المجلس العسكرى برتبة لواء وأنا برتبة فريق. والمفترض أن يكون على الأقل فى رتبة مساوية لرتبتى السابقة».
كان هناك أكثر من محام يقوم بالدفاع عنى، أذكر منهم الأساتذة حمادة الناحل وفتحى رضوان وإبراهيم رياض وحافظ رمضان باشا. ومصطفى الشوربجى وعبدالحميد حلاوة.
«استمر تأجيل القضية شهراً وراء آخر، وساءت صحتى فى السجن حتى شعرت بمرض الربو يهاجم صدرى، وتنقلت إلى أكثر من مستشفى للعلاج، وتركزت طلبات الدفاع فى الإفراج عنى لأن الشكل العام للقضية سار فى دروب ودهاليز غاية ما يمكن أن يقال عنها إنها انتقامية، وإن الهدف تشوية سمعتى وكل تاريخى القديم وصاحب خلال تلك الفترة خروج المظاهرات التى كانت تجتاح شوارع القاهرة وتنادى إلى الأمام يا روميل. نحن فى انتظارك يا روميل.
كان الألمان يحققون انتصارات قوية داخل حدودنا الغربية قبل أن ينجح القائد الإنجليزى مونتجمرى فى هزيمة روميل عند العلمين.
وفى هذه الظروف وصل مصطفى النحاس باشا إلى رئاسة الحكومة بضغط إنجليزى على الملك وصل بهم إلى حصار قصر عابدين فى 4 فبراير 1942. لم يكن النحاس عميلاً للإنجليز بالطبع، لكنه كان يريد حماية حقوق الشعب فى ظل وصول الحرب العالمية إلى داخل حدودنا.. وكان الإنجليز يريدون وزارة يرضى عنها الشعب ولكى يتعامل المصريون مع تبعات الحرب.
بعد قرابة أربعة عشر شهراً من المحاكمة، وتداول المناقشات بين المجلس العسكرى لمحاكمة عزيز ورفاقه، وبعد مداولات وسماع أقوال عشرات الشهود وعشرات الوثائق، ومع فترات المرض التى قضيت معظمها داخل المستشفى، وبعد أن ضاق الشعب المصرى بالمحاكمة، ومن جانب الشباب الذى طلب فى فى إحدى المظاهرات بوقف مهزلة المحاكمة التى لم يعد لها طعم ولا رائحة.. وذات مساء جاء إلى عزيز «أحد الضباط فى السجن وأخبره أنه سوف يذهب صباح اليوم التالى لمقابلة مصطفى النحاس باشا رئيس الوزراء.
يقول عزيز «فى الصباح، أقلتنى عربة إلى صالون مكتب رئيس الوزراء. انضم إلىّ فيها الطياران حسين ذوالفقار صبرى وعبدالمنعم عبدالرؤوف، ودخلنا على النحاس باشا فى حجرته، وأحسن استقبالنا. وقال لى: يا عزيز باشا، ألا تشعر بالحنين إلى حياة الدعة والاستقرار. قلت له: ومن يرفض هذا النوع من الحياة يا رفعة الباشا. قال لى: لقد التقيت مع الملك فاروق، وسار بيننا حديث طويل حولك، وقد أخبرته بنيتى إصدار العفو عنك. بالحق أقول إنه لم يبد رأيه بالرفض أو الموافقة.. وكل ما قاله تصرف فى القضية كما يحلو لك.
وقال النحاس باشا: لقد قررت الإفراج عنك فوراً وعن الضابطين وكل ما أطلبه منك الابتعاد عن المشاكل أو عدم إثارة أى قضايا تساعد فى هياج الجماهير.
وتركت مكتب رئيس الوزراء.. وبعد ساعات كنت أخرج إلى بيتى فى عين شمس. ولم تكن مفاجأة، أننى وجدت حراسة من رجال البوليس تحيط بالمنزل من كل اتجاه. وقررت أن أرتاح فترة من الوقت، وأقوم بعلاج جسمى كله من الأمراض.
مرت أيام معدودة مع الحرية.. ليجد «عزيز» نفسه منغمسًا فى مشاكل أكثر خطورة مما سبق.
موضوع: رد: الفريق عزيز المصري ......ابو الثوار الأربعاء 21 يونيو 2017 - 11:43
«أبو الثوار»..«السادات» متهماً فى هروب «المصرى» (25)
فى روايته لـ«قصة حياته» فى «البحث عن الذات» يكتب الرئيس الأسبق أنور السادات حكايته مع عزيز المصرى، والتى بدأت فى هذه الفترة أواخر عام 1941، واستمرت حتى قيام ثورة يوليو 1952 ونجاحها وسأنقل من الكتاب رواية السادات عن قصة هروب عزيز المصرى، وسأعود إليه فى الحلقات المقبلة، كما سأنقل فقرات محددة من أقوال فتحى رضوان، وحسين ذوالفقار صبرى، وعبدالمنعم عبدالرؤوف، ومحمد صبيح عن القضية والمحاكمة.
وأبدأ بما رواه السادات عن المصرى:
فى أواخر عام 1940، التقيت بعزيز المصرى فى جروبى بناءً على طلبه، كان بحاجة إلى مساعدة الضباط الأحرار لتمكينه من السفر إلى العراق، فقد وصلته رسالة من الألمان يطلبون فيها سفره لمعاونة رشيد عالى الكيلانى فى ثورته التى قام بها ضد الإنجليز.. بعد ذلك بقليل أبلغنى عزيز باشا أنه تسلم رسالة ثانية من الألمان يقولون فيها إن طائرة ألمانية ستكون فى انتظاره عند جبل رزة فى مدخل طريق الفيوم فى يوم معين ساعة الغروب.
هنا أدركت سر مجموعة الرحالة الألمان الذين كانوا يفدون إلى الصحراء الغربية ويضلون طريقهم فيها، كما كنا نقرأ فى الجرائد قبل الحرب، كانت هذه الرحلات فى الحقيقة بعثات استكشاف، فقد أصبح من الواضح أن الألمان قد درسوا توبوجرافيا الصحراء دراسة كاملة، وإلا فكيف توصلوا إلى معرفة جبل الرزة، وهو نقطة صغيرة على الخريطة لا تكاد العين تبينها.
اشترينا عربة من نوع (البيك أب) الصالح للسير فى الصحراء، ولكن صاحب المحل أبلغ عن بيع السيارة طبقًا للأوامر حينذاك. عرفت المخابرات أنى اشتريتها.. شكوا فى الأمر فصدرت الأوامر بإبعادى إلى مكان اسمه الجراولة.
لا أعلم ما الذى حدث للعربة الـ(البيك أب) أغلب الظن أن الإنجليز استولوا عليها، وإلا لما لجأ عبدالمنعم عبدالرؤوف بالاشتراك مع حسين ذوالفقار صبرى، وكلاهما طيار ماهر، إلى الاستيلاء على طائرة حربية وضعا فيها عزيز المصرى وحقائبه للسفر إلى بيروت، والتى كانت فى ذلك الوقت خاضعة لحكومة فيش التى سلمت للألمان، ولكن بعد أن أقلعت الطائرة بدقائق معدودة اكتشف حسين ذوالفقار صبرى أن الزيت قد نفد منه، وأنه بدلاً من أن يفتح طلمبة الزيت أغلقها فاضطر إلى الهبوط فوق شجرة فى أحد الحقول بجوار بنها، ومن هناك استطاع ثلاثتهم- بمساعدة مأمور قليوب- الوصول إلى القاهرة حيث اختبأوا.
وفى هذه الأثناء، تم اكتشاف حادثة الطائرة، واكتشفت أيضًا حقيبته فى مكان الحادث وعليها الحرفان A.M أى عزيز المصرى، فاتجهت الشكوك إليه، خاصة بعد أن وجدوا أن الطائرة كانت متوجهة إلى بيروت، ولعلمهم بميوله المعادية للإنجليز أدركوا أنه كان فى طريقه للاتصال بالألمان فى العراق.
ولما كانوا على معرفة باتصالاتنا به، قبضوا علىّ فوراً فى الجراولة وزجوا بى إلى القاهرة وأنا تحت الحراسة.
وصلت القاهرة فى الصباح المبكر، فتوجهوا بى إلى وزارة الحربية حيث جلست فى مكتب سكرتير الوزير أقرأ فى كتاب أرمسترونج (الذئب الأغبر)، وهو كتابه المعروف عن أتاتورك.. استدعونى فى المساء للقاء وكيل النيابة، وانتظرت دورى، كان الرجل مشغولاً فى أخذ أقوال شهود حادث الطائرة وشهود سلاح الطيران، وكان عددهم كبيراً فانتظرت طويلاً، وفى هذه الأثناء كنت قد أعددت نفسى للقاء إعدادًا كاملاً. فقد قرأت الجرائد وعرفت منها كل ما حدث. أخيراً وفى منتصف الليل استدعيت وسألنى وكيل النيابة: هل لك صلة بعزيز المصرى.. وهل كنت تزوره؟
وأجبت: نعم لى صلة به.. وقد طلبت منى المخابرات قطع هذه الصلة، ولكنى لم أستمع إليهم فليس فى هذه الصلة فى نظرى أى جرم أو مخالفة.
وعاد يسألنى: هل تعرف عبدالمنعم عبدالرؤوف وحسين ذوالفقار صبرى؟
- طبعاً ونحن دفعة واحدة وأصدقاء.
- ألم يتصل بك عزيز المصرى بشأن سفره خارج القطر؟
وأجبته: أن اتصالات بعزيز باشا تقوم كلها مع الحب والوفاء فمنذ أن زارنا فى منقباد وأنا معجب به.
واسترسلت فى وصف تلك الزيارة.. واختتمت حديثى الطويل بقولى: بعد أن أحيل عزيز باشا إلى المعاش وجدت أنه من باب الوفاء أن أزوره بين الحين والحين.. هذا كل ما فى الأمر وعاد وكيل النيابة إلى سؤالى.
- هل عندك أى معلومات عن محاولة السفر إلى أين وأى اتصالات تمت بينه وبين الألمان؟
قلت ومن أين لى مثل هذه المعلومات وأنا على بعد 550 كيلو من القاهرة، وقد سافرت إلى الجراولة قبل الحادث بخمسة أيام، لم يجد وكيل النيابة أى دليل على إدانتى فأمر بالإفراج عنى وعودتى إلى عمل بالجراولة.
(هذه ميزة سيادة القانون) قلت هذا فى نفسى وأنا فى طريق العودة إلى الصحراء.
أما عبدالمنعم عبدالرؤوف عضو تنظيم الضباط الأحرار فكانت التحقيقات معه مطولة، حيث إنه كان شريكاً فى محاولة الهرب.. وسألخص عدة فقرات مهمة لما قاله إن عزيز المصرى لم يشأ أن يذهب إلى العراق بطائرة إنجليزية حتى لا يسىء العراقيون الظن به، ويظنون أن الإنجليز اشتروه.
فلما سُئل: من الذى ذكر أولاً فكرة السفر إلى بيروت قال عبدالمنعم عبدالرؤوف: إحنا يقصد هو وحسين ذوالفقار صبرى اللى ابتدأنا بذكر بيروت لأن البحث بيننا كفنيين أدى بنا إلى أن طائراتنا تستطيع الطيران أربع ساعات، وكانت بيروت أقرب بلد للعراق يمكن الوصول إليها.
كانت إجابات عبدالرؤوف ملتبسة حول علاقة عزيز بالإنجليز، وقوله إنه كان يهدف إلى الصلح بين الإنجليز والعراقيين وبين اتهامات الادعاء لعزيز بأنه عميل ألمانى.
أما أقوال حسين ذوالفقار فى التحقيقات فأركز فيها هنا على ما سبق ذكره، بأنه تلقى مساعدة من أخيه الأصغر الذى كان «طيار ثانى» فى ذلك الوقت، واسمه على صبرى، رئيس الوزراء، لعدة سنوات فى عهد عبدالناصر حيث «استلف» حسين ذوالفقار سيارته وذهب بها للبنسيون الذى كان يقيم فيه عزيز المصرى لينقله منه إلى رحلة الهروب بالطائرة.
وفى التحقيقات أيضًا أن عزيز أخذ بفكر المصدر المالى الذى تنفق منه أسرتا حسين ذوالفقار وعبدالمنعم عبدالرؤوف.. وكان عزيز قد أعطته الحكومة المصرية مكافأة عن مدة خدمته بها قدرها محاميه بثلاثة آلاف جنيه.. ولم تتضمن التحقيقات سوى أنه أعطى خمسين جنيهاً لكل من حسين ذوالفقار وعبدالمنعم عبدالرؤوف لكى يتركاها لأسرتيهما.
ومن الأسماء الشهيرة التى تم القبض عليها فى هذه القضية المحامى والسياسى الشهير فتحى رضوان، وكان فى هذا الوقت قد ترك «مصر الفتاة» وزعيمها أحمد حسين، المطارد فى هذا الوقت إلى الحزب الوطنى. وأصبح وكيلاً عن عزيز المصرى كمحامٍ ويروى فى عدة مقالات أن البوليس كان يراقبه للوصول إلى أحمد حسين، وأنه قادهم دون قصد إلى «عزيز» ورفاقه. كما أن الكاتب الصحفى الراحل محمد صبيح له إسهامات وشهادات حول القضية وكيف تتبع البوليس السياسى عائلته للوصول إلى عزيز.
وتزخر أوراق التحقيقات وكذلك صحف هذه الفترة بأقوال رجال البوليس وبطولاتهم للقبض على عزيز، خاصة أن عدة صحف، خاصة القريبة من القصر والإنجليز، اعتبرت الثلاثة خونة وطالبت بإعدامهم.
وربطت «الأهرام» فى تغطيتها العاجلة للحادث بين حالته المادية وفقدانه وظيفته بمحاولة الهروب.. بل قدمت ما يشبه صورة قلمية سلبية عن حياته وعائلته، وكيف عرض خدماته على الألمان خلال الحرب العالمية الأولى. وكتبت أن المغفور له محمد محمود باشا، رئيس الوزراء، فى سنة 1928 علم بحالته المادية السيئة فعينه ناظراً لمدرسة البوليس. لكنه اختلف مع جميع كبار موظفى الدولة، ووفقاً لتقارير الأهرام السلبية فإنه فى سنة 1935 اختير عزيز المصرى لمرافقة الملك فاروق فى بعثته الدراسية إلى إنجلترا، ومعه ترامى إلى سمع الملك فؤاد بعض الآراء عن عزيز لم تعجبه، فسحب منه هذه المسؤولية وأسندها إلى أحمد حسنين باشا.. ولكنه فى إنجلترا اختلف أيضاً مع الموظفين هناك فغادر إلى مصر مقصياً من عمله. وقد عرض على القواد الإنجليز مساندتهم لكنهم رفضوا.. وتتواصل رواية الأهرام عن سرد حكاية هروبه بشكل منافٍ للتحقيق ومخالف لسير التحقيقات الرسمية.
أما أطرف ما نشر عن عزيز ومحاكمته فجاء فى المقطم «القريبة من الإنجليز» والتى تضمنت رواية غير سليمة عن سهرات عزيز ورفاقه فى الكيت كات.. وانتهت بالمطالبة بأحكام قاسية ضدهم.. لكن الظروف السياسية كانت فى صالحه، وكذلك قرار رئيس الحكومة مصطفى النحاس باشا بالإفراج الفورى عن الثلاثة وإغلاق القضية.
موضوع: رد: الفريق عزيز المصري ......ابو الثوار الأربعاء 21 يونيو 2017 - 11:45
«أبو الثوار».. قضية تجسس مع حكمت فهمى وأنور السادات (26)
كانت الاعتقالات والمحاكمات جزءًا أصيلاً من حياة عزيز باشا المصرى بعد نجاته من حبل المشنقة للمرة الثانية عام 1942. حيث تم القبض عليه بعد مقتل أمين عثمان ثم بعد اغتيال الدكتور أحمد ماهر باشا رئيس الوزراء، ومن بعد ذلك أيضًا اغتيال النقراشى باشا، وكذلك فى قضية العثور على سيارة تحمل مدفعًا رشاشًا ومواد متفجرة.
كانت مصر خلال تلك المرحلة قد تحولت إلى غابة، صراع مسلح بين الأحزاب، ورغبة ثورية محمومة للاستقلال ولمقاومة المحتل الإنجليزى.
فى الثالث عشر من أغسطس عام 1942، كان الاعتقال الأول بعد خروجه من السجن. يؤكد عزيز المصرى فى أكثر من حوار صحفى، أكثرها دقة وتفصيلاً حواره مع محمد عبدالحميد: إن أنور السادات تسبب فى هذا الاعتقال. ويكرر محمد صبيح نفس الرواية، لكن أنور السادات فى «البحث عن الذات» يمر عليها سريعًا.
يقول عزيز: أنور السادات، ذكر اسمه فى التحقيقات التى لحقت قضية الجاسوس الألمانى الشهير جون إبلر، والذى جنده روميل من القاهرة ويعطيه أسرار التحركات البريطانية.
يضيف فى حواره مع محمد عبدالحميد: الولد الأسمر أنور السادات زج باسمى، لا أعرف عن عمد أو دون قصد، ولقد عاتبته كثيراً عن أقواله لأننى طوال معرفتى به معجب بشخصيته الثورية وأيضًا بدهاء الثعلب فى حركاته وتصرفاته وهو يتحرك وسط الخلايا الثورية الموجودة فى القاهرة.. ولقد أكد لى بعد ذلك، أنه لم يذكر اسمى على أساس اتهامى أو اشتركى فى أى عمل من أعمال الجاسوسية، إنما جوابه جاء عرضيًا عندما نفى أى وجود لى فى أى عملية اتصال مع جون إبلر الجاسوس الألمانى خاصة بعد ضبط جهاز الإرسال الذى كان يستخدمه فى إبلاغ المعلومات. وأعترف أننى تضايقت كثيراً بالرغم من هذا التبرير من جانبه. ولكنى ما لبثت أن نسيته تمامًا وراء تلاحق الأحداث وتكرار اللقاءات معه بعد ذلك.. وان كنت بين الحين والآخر أقول له: يا أنور لن أنسى أنك أبلغت عنى.
كان يضحك وهو يقول: حاول أن تنسى يا باشا. لقد اعتقلوك لأنك زعيم، أنك ترفض الملك والأحزاب والإنجليز، وكلنا كنا نتعاطف مع الألمان.
الروايات كثيرة وغنية بالتفاصيل- وبعضها متناقض حول الجاسوس جون إبلر والتى ظهرت فيها إلى السطح حكاية الراقصة والممثلة حكمت فهمى، والتى وصلت شهرتها إلى أوروبا وإلى هتلر وروميل حيث رقصت أمامهما هناك.
و«إبلر» ولد فى ألمانيا عام 1914، ثم سافر إلى القاهرة بصحبة والدته الألمانية، ثم انتقل معها إلى بورسعيد وهناك تزوجت بالمحامى المصرى صالح جعفر، وكما اعطى الزوج اسمه لزوجته، أعطاه كذلك لابنها الذى أطلق عليه اسم «حسين» ومن هنا أصبح «جون إبلر» هو حسين صالح جعفر. أتقن «إبلر» اللهجة المصرية وعاش فى جو عائلى يميل إلى الإباحية فى سلوكياته. وبمضى الوقت أصبح هاويًا للجلوس فى البارات والملاهى الليلية، وتعرف على حكمت فهمى. وهناك روايتان لمكان معرفته بها، الأولى أنه شاهدها وهى ترقص فى إحدى صالات القاهرة.. ثم بدأت العلاقة بينهما، والرواية الثانية، أنه شاهدها وهى ترقص عندما عملت فى ألمانيا، وأنه تعرف بها هناك مدفوعًا من المخابرات الألمانية للإيقاع بها ولكى تعمل جاسوسة لصالح ألمانيا من القاهرة.
حكمت فهمى راقصة مشهورة- فى ذلك الوقت- وممثلة مغمورة ظهرت فى 7 أفلام مصرية أشهرها فيلم العزيمة سنة 1939، حيث كانت تقوم بدور فردوس صديقة البطلة فاطمة رشدى. بعد تدريب «إبلر» فى مقر قيادة روميل، بدأت أغرب رحلة لجاسوس ألمانى يدخل مصر عبر دروب وسهول الصحراء الغربية.. كانت رحلة الصحراء قاسية ولكنه اجتازها بنجاح حتى وصل إلى أسيوط وهو يرتدى ملابس عسكرية إنجليزية ويحمل بطاقة عسكرية بأنه ضابط إنجليزى. وصل القاهرة فى عربة جيش إنجليزية. وكان معه زميله بيتر مونكاستر وكانت أوراقه المزورة مكتوبا فيها أنه ضابط أمريكى. فى فندق شبرد تواصل «إبلر» مرة أخرى مع الراقصة حكمت فهمى..
خلال شهور معدودة نجحت «الشبكة الألمانية» فى مد روميل بمعلومات مهمة عن تجهيز الإنجليز فى العلمين. لكن وفى إحدى «الليالى الحمراء» لـ«إبلر» مع يهوديات البارات وكانت لهم صلة بالوكالة اليهودية ومع النشوة والخمر، فانطلق يغنى بالألمانية «نشيد ألمانيا فوق الجميع» وشاركه زميل آخر، وأناس أخرى تمتدح هتلر، فوصلت المعلومات لقوات الاحتلال الإنجليزى، فتم القبض عليهما، وأمام رئيس الوزراء البريطانى ونستون تشرشل الذى كان يزور مصر فى هذا التوقيت، قدما اعترافًا كاملاً مقابل حياتهما.. فى اليوم التالى: تم القبض على حكمت فهمى وكذلك السادات.
وعن حكمت فهمى يقول عزيز «قامت بدور مزدوج.. فمرة لحساب المخابرات الألمانية، وأخرى لحساب المخابرات الإنجليزية. ومن هذه الصفة جمعت الكثير من المال.. وتعرفت على كثير من الرجال خاصة طبقة الباشوات ورجال المال والأعمال».
ويضيف «كانت أسمهان على علاقة بالمخابرات الألمانية، وفى نفس الوقت تلعب دوراً معنيًا مع المخابرات الإنجليزية. كانت ترتاد فندقى الكونتننتال وشبرد، وتقف الكثير من الوقت وسط القيادات الإنجليزية تشرب الويسكى، كانت أمينة البارودى على نفس الوتيرة.
وأؤكد أن حادث مصرعها بالقرب من رأس البر لا علاقة لأم كلثوم به من قريب أو بعيد «هذه الشائعة» أطلقها الإنجليز، وأقول إن المخابرات الإنجليزية كانت وراء مصرعها بعد أن اكتشفوا دورها المزدوج ولقربها من أحمد حسنين باشا».
يعود عزيز المصرى لمسار قضية الجاسوس إبلر: بعد الاستماع إلى شهادة أنور السادات وحسن عزت، تم القبض علىّ وكذلك تم القبض على عبدالغنى سعيد، وكانت زوجته ألمانية.
كنت قد أخبرت هوارد وكانت صلتى بالمخابرات الألمانية أن «إبلر» غير صالح لمهمته لأنه انحرف بها إلى حياة الليل فى القاهرة.. بل إننى توقعت فشله والقبض عليه، وخاصة بعد أن علمت أنه ينفق بلا حساب من الجنيهات الإنجليزية المزورة التى كان يحملها معه. ولقد تحقق كل شىء توقعته، وأذكر أننى أخبرت بذلك أنور السادات والذى أخبرنى بدوره أن جهاز الإرسال معطل، وقد طلبت من أنور السادات إصلاحه لجون إبلر فى عوامته.. هذا الجهاز لم يكن معطلاً بالفعل، وإنما كان الخلل من القائمين على جهاز الاستقبال.
تم القبض على عزيز المصرى بعد شهادة السادات ضده، ولم تسفر التحقيقات معه عن شىء إلا أنه بقى قيد الاعتقال لنحو مائة عام.. وتم الإفراج عنه فى 20 نوفمبر 1942.
فى فبراير 1945، قام محمود العيسوى- وكان من الإخوان المسلمين باغتيال أحمد ماهر باشا رئيس الوزراء. أطلق العيسوى النار على «ماهر» فى مبنى مجلس النواب، لكنه فى التحقيقات اعترف بأنه من شباب الحزب الوطنى.. وحكم عليه بالإعدام.
تم اعتقال عزيز المصرى والتحقيق معه لأسابيع. وتدهورت صحته فى الحبس فتم نقله إلى المستشفى الايطالى.
يكتب صبرى أبوالمجد عن ذكرياته فى هذه المحاكمة خلال مقدمة كتابه «عزيز المصرى وصحبه» فيقول: «كان عبدالرحمن الطويل باشا النائب العام الذى يتولى القضية معنا يحترم عزيز باشا المصرى ويوقره، فلا يجلس الطويل باشا إلا إذا جلس عزيز باشا. وكان يقوم من كرسيه إذا قام (عزيز) من كرسيه».
كان «المصرى» وقتذاك ثائراً للغاية، يتهم النائب العام بالخضوع لسلطة الحكومة فى اعتقال هذا العدد الوفير من المتهمين بالرغم من أن محمود العيسوى، قاتل أحمد ماهر، كان معترفًا باغتياله.
وكان يؤكد فى كل مناسبة أنه لا صلة لأحد غيره بالتهمة. كان الطويل باشا يخشى باستمرار حدة لسان عزيز المصرى ويتحاشى باستمرار ثورته.. ولذا فإن التحقيق معه لم يستغرق وقتًا طويلاً.
كان الشباب الثورى وبعضهم ضباط جيش وشرطة وآخرون من المثقفين والكتاب الرافضين للاحتلال البريطانى يسعون إلى عزيز المصرى. ورغم الرقابة عليه وعيون البوليس السياسى التى كانت ترصده فى كل لحظة على مدار اليوم، لم يرفض زيارات الشباب الثورى، فى هذه الأثناء قتل أمين عثمان فى 1946، وبعد مقتله قام النقراشى باشا رئيس الوزراء بحملة اعتقالات كبيرة جداً.. وكان ضمن المعتقلين عزيز باشا المصرى وكان عمره حينئذ 65 عامًا.
كانت أسئلة الاستجواب عن الشباب الذين يزورنه، وبعضهم متهم باغتيال أمين عثمان، فكان رده: الزيارات لم تنقطع عندى منذ خروجى من المعتقل.. ومعظم الشباب الذين يزورننى لا أعرفهم.. وكنت أقول لهم: إن نصفكم من القلم السياسى. وكان من ضمن المقبوض عليهم فى القضية أنور السادات، فأكد عزيز فى التحقيقات أنه لا يعرف سواه «أعرف ولد اسمر اسمه السادات» أعرفه من الجيش لأنه كان ضابط كويس فى سلاح الإشارة.
موضوع: رد: الفريق عزيز المصري ......ابو الثوار الجمعة 23 يونيو 2017 - 12:18
«أبو الثوار».. اللقاء الأول مع عبدالناصر: معركة مع زينب (27)
انطلق تنظيم الضباط الأحرار فى 1939 على يد جمال عبدالناصر. كان الضابط الشاب الذى تخرج مع عدد من أصدقائه الوطنيين قد اجتمعوا فى منقباد بمحافظة أسيوط، حيث أقسموا، وهم مازالوا نفراً قليل العدد على مقاومة الإنجليز وتحرير مصر.
كان السادات إلى جوار عبدالناصر وعدد آخر من الضباط الأحرار. «السادات» يقول إنه مؤسس «الضباط الأحرار» كما يؤكد فى قصة حياته «البحث عن الذات» لكن جمال حماد- المؤرخ وعضو مجلس قيادة الثورة فى كتابه الموسوعى «أسرار ثورة 23 يوليو»- ينفى ذلك تمامًا. ولكنه يؤكد أنه كان خط الاتصال الأول لهؤلاء الضباط مع «عزيز المصرى» مثلما كان هناك أكثر من خط اتصال مفتوح مع قيادات الإخوان المسلمين وعلى رأسهم حسن البنا، كما أن هناك علاقة خاصة ربطت عبدالناصر بالضابط الإخوانى عبدالرحمن السندى الذى يؤكد عزيز المصرى أنه كان يجمع السلاح من الجيش- القطع الصغيرة ويرسلها للإخوان.
من بين مذكرات عديدة لقيادات مجلس قيادة الثورة، أنقل عن جمال حماد بداية تواصل «الضباط الأحرار» مع عزيز المصرى كما سأنقل رواية عزيز المصرى عن هذه العلاقة وبدايتها. لكن اللافت أن كتاب «البحث عن الذات» للسادات يخلو تمامًا من زيارات قام بها الضباط لعزيز فى بيته فى عين شمس، وكان خيطهم الأول فيها، أنور السادات وحسين ذوالفقار وعبدالمنعم عبدالرؤوف، رغم أن السادات كتب عن ذلك أكثر من مقال صحفى، كما ذكرها فى عدة خطب سياسية، وجاء على ذكرها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر أكثر من مرة فى أحاديثه السياسية. يكتب جمال حماد فى أسرار ثورة 23 يوليو: «خلال قيامه بمهام وظيفته كرئيس لهيئة أركان الجيش- 1939- بدأ عزيز المصرى ينتهج سياسة إصلاحية للنهوض الحقيقى بالجيش بإدخال النظم الحديثة إلى تشكيلاته المختلفة، مما أوقعه فى صراع مع البعثة العسكرية البريطانية، فأخذ ينتقد علانية أعمالها ويكشف أهدافها الخفية ومهام سياستها فى بيع الأسلحة القديمة لمصر بأبهظ الأثمان، مما جعله يصفها بأنها بعثة تجارية وليست عسكرية. وبفضل صدق وطنيته وثقافته الواسعة وشخصيته الفذة استحوذ عزيز المصرى على تأييد وإعجاب الضباط المصريين الشبان الذين وجدوا فيه طرازاً غير قادتهم الجهلاء الخانعين للإنجليز، وتوقعوا على يديه خلاص الجيش مما يعانيه من ضعف وتخلف وخضوع للمستعمر».
مع إجبار الإنجليز لعلى ماهر رئيس الوزراء على إقالة «عزيز» بعد أن عمل عشرة أشهر فقط فى رئاسة الأركان ازداد تعلق الضباط الشبان بعزيز. كان الرجل بشخصيته الساحرة وجاذبيته الفذة هو المرشح الطبيعى الذى هيأته الأقدار ليقود الضباط المصريين الشبان إلى العمل السياسى حتى اعتبروه الأب الروحى لهم، وسرعان ما أخذوا يسعون فرادى وجماعات إلى بيته بالمطرية يستمعون فى انبهار وإعجاب وهو يحدثهم عن أنفسهم باعتبارهم الوسيلة الوحيدة للخلاص من الاستعمار وأعوانه.
وكان من الطبيعى إزاء مشاعر الغضب والإحباط من المستقبل التى كانت تتأجج فى نفوس ضباط الجيش من الشباب المتوثب الشديد التحمس ضد أعداء بلاده المستعمرين وضد قياداته الجاهلة المتسلطة على مرؤوسيهم من المصريين، والخانعة الذليلة أمام ضباط البعثة العسكرية البريطانيين أن يبدأ بعض الضباط الشبان فى العمل السياسى السرى داخل الجيش المصرى عن طريق إنشاء مجموعات سرية تضم زملاءهم من رفاق الدفعة والسلاح للإسهام سراً فى العمل السياسى الإيجابى ضد المحتل الغاصب.
فى إحدى خطبه فى ذكرى ثورة يوليو والتى نشرتها صحيفة الأهرام عام 1965 يحكى الرئيس جمال عبدالناصر قصة اتصاله ورفاقه بعزيز المصرى «فى سنة 42 وجدنا فى هذا البلد ناس ما بيخافوش.. ناس بيقولوا رأيهم بصراحة.. يمكن من الجيل الماضى. أنا أذكر فى سنة 42 رحنا لعزيز المصرى ويمكن كان معايا كمال حسين وعبدالحكيم والبغدادى. رحنا للفريق عزيز فى بيته وكان فى عزبة النخل. قلنا له إحنا ضباط. قال والله ما أنا عارف أنتم ضباط ولا باعتكم البوليس السياسى. على العموم.. حتى لو بوليس سياسى.. حاتكلم.اسألوا اللى انتم عايزين تقولوه.. قلنا إيه العمل، قال العمل: الثورة. عزيز المصرى راجل عنده الآن حوالى 88 سنة من الأجيال الماضية لكنه كان ثائراً. قبض عليه ماخفش. اعتُقل ماخفش. ماخفش إنه يتكلم قدام ناس ما يعرفهمش. كان ده بيدينا أمل. إن فيه أمل. فيه مثل عليا. فيه ناس بتعتبر أنه لابد من إرادة التغيير وأن الشعب حيمشى مع إرادة التغيير.
ويروى عزيز المصرى فى أكثر من حوار صحفى منشور، قصة هذه الزيارة الأولى من جمال عبدالناصر له علمًا بأن السادات كان يزوره بشكل منظم.
«مازال أول لقاء محفوراً فى ذاكرتى وخيالى وكأنه وقع بالأمس. كانت خادمتى زينب خيرالله على وشك أن تصطدم به فى معركة سلامها، عصا طويلة غليظة- شومة- أمسكت بها وأوشكت أن تهوى بها على مقدمة كتفه وظهره، ولولا تدخل القدر لتمت المعركة، وضرب عبدالناصر علقة ساخنة فى بيتى الذى حضر إليه لأول مرة زائراً ليرانى وأراه.. ليجلس معى فى أول حديث منظم ومرتب حول تنظيم الضباط الأحرار.
ذات مساء كنت أجلس فى حجرتى بمنزلى فى عين شمس وجاءت إلىّ زينب تطرق الباب فى هدوء تستأذن فى الدخول وأخبرتنى أن هناك مجموعة من الشباب يرتدون الملابس المدنية يرغبون فى لقائى والجلوس معى، خاصة بعد اغتيال أحمد ماهر وأمين عثمان والنقراشى. وكان منزلى لا يخلو أبداً من مراقبة رجال القلم السياسى. ولكن قلت لزينب وهى تنتظر الإجابة منى على مقابلة الشباب: إننى متعب. أرجو أن تقدمى لهم على الفور اعتذارى لتوعكى. وخرجت زينب وأغلقت الباب وراءها. وبعد دقيقة وربما أكثر سمعت صوتًا عاليًا.. سمعت صوت زينب الهادئ، أصبح هادراً يطلب من الزائرين الانصراف والحضور فى وقت آخر لأن حالتى الصحية غير جيدة.. ثم ساد الصمت بعض الوقت وبعدها سمعت صوتًا مرتفعًا ينادى الطباخ لإحضار عصا غليظة وزادت الضوضاء فى ردهة المنزل.. وأقدام كثيرة تتحرك، وتصطدم بأرضية الصالة. خرجت لأستطلع الأمر، وعندما فتحت باب حجرتى، وتقدمت بضع خطوات داخل الصالة، وجدت زينب تمسك بالعصا وتتجه نحو شاب طويل أسمر تنوى الاعتداء عليه بشراسة. طلبت منها فى دهشة تفسيراً لما أراه أمامى، وتقدم الشاب الطويل الأسمر خطوة إلى الأمام.. ثم خطوة أخرى، وكان الخجل باديًا على وجهه وقال: آسف لما حدث.. نحن أولادك يا باشا.. نحن من ضباط الجيش وكان من المفروض أن يسبقنا إليك أنور السادات حتى يعرفك بقدومنا، ولكن للأسف لم نجده هنا ليقدمنا إليك.. وأجزم أنه فى الطريق إلينا الآن. بعد هذه الكلمات، تقلصت بداخلى جميع همومى الشخصية وشعرت بالانتعاش، وأحسست بالحيوية تسرى فى جسدى.. ولم يكن هذا الشاب الأسمر سوى جمال عبدالناصر. ولا أذكر من الأسماء سوى عبدالحكيم عامر وجمال سالم وحسن إبراهيم. أقول بحق إننى كنت أمام ثورة جامحة رافضة لجميع الأوضاع السياسية فى مصر. كل واحد من الحاضرين كان يتحدث وفى أعماقه جبل من الهموم والألم والرغبة فى التغيير. وعندما تحدث جمال عبدالناصر عن أحوال مصر وفساد الملك واستغلال الحاشية لهذه الظروف لمصالحها وتحقيق أهدافها الشخصية. كان جسده يهتز ويداه تلوحان فى عصبية زائدة. وتحدث عن الجيش وأنه لا يجيد إلا السير فى الاحتفال بالمحمل الشريف الذى يحمل كسوة الكعبة إلى الأراضى المقدسة.. وهناك أيضًا إسرائيل.. دولة باغية معتدية وشرسة زرعتها إنجلترا وسط الجسد العربى لتكون شوكة تدمى بها أجسادنا وظهورنا وتدمر نهضتنا وتساعد على كبوتنا.. وإذا استمر حالنا على ما هو عليه فمن المعقول أن تبتلع حدود الدول المجاورة لها ومنها مصر.. وتدوس على تراب وطننا خطوة وراء الأخرى..
إن ذلك لن يتم إلا إذا تغيرت أحوال مصر.. وتغيرت كل السلطة فى جميع القطاعات.. إن الثورة هى الأمل.. ثورة الشعب وأخرى داخل الجيش ونرجو الله أن يوفقنا فى هذا النضال الشريف.
كان الجلوس مع عبدالناصر ومع الزملاء من ضباط الجيش يعطينى الإحساس بالدفء العاطفى والراحة العقلية.. كنت أحس بامتزاج ثورتى داخل ثورتهم.. كانت أمسية لا تنسى. كان عقلى مستريحاً لما أراه أمامى من أن شباب مصر.. ضباط مصر بخير».
وكان لعزيز المصرى علاقة طيبة مع الإخوان المسلمين، خاصة مؤسس الجماعة حسن البنا، كما كان لعبدالناصر علاقات متينة مع الإخوان و«البنا»، وفى معرض تصريحات الاثنين تفاصيل عديدة عن التواصل، ولكنه فى حواراته عن هذه المرحلة يتحدث عزيز بتفاصيل مهمة عن علاقة عبدالناصر وعدد من الضباط الأحرار بالإخوان يقول: «التشكيل الإخوانى داخل الجيش كان يقوده عبدالمنعم عبدالرؤوف وهو الذى قدم جمال عبدالناصر إلى المرشد حسن البنا. وكان أيضًا شاهد رؤية لعبدالناصر وهو يقسم يمين الولاء للجماعة. ولقد سألت فى ذلك جمال عبدالناصر بشكل مباشر، فقال لى: إننى أحب الإخوان المسلمين، لأنهم جماعة تدعو إلى الدين والتمسك بالشريعة الإسلامية، وذلك يجد هوى فى نفسى وأعماقى. ويشرح عزيز المصرى العلاقة الخفية بين جمال عبدالناصر وعبدالرحمن السندى- المشرف على التنظيم الخاص- الإرهابى- للجماعة. ويبدأ بالقول «حذرت حسن البنا من اتجاهات عبدالرحمن السندى العدوانية، ولقد أحس مكتب الإرشاد بالخطر». على الجانب الآخر كان يعلم أسرار أماكن السلاح الذى كانت تملكه الجماعة، وكان على علاقة قوية بالعديد من الضباط فى القوات المسلحة. لقد كانت علاقة السندى قوية جداً مع جمال عبدالناصر.. كان ضمن الضباط الشباب الذين يجمعون السلاح من الجيش- القطع الصغيرة- وإرسالها إلى الإخوان.. ولقد استمرت علاقة السندى قوية بعبدالناصر.. بل إنه كان عينه داخل الجماعة.. كما أوعز إليه بالانشقاق على المرشد الثانى حسن الهضيبى واحتلال رئاسة الجماعة.. وكان جزاؤه الفصل من الجماعة، إلا أن عبدالناصر عينه فيما بعد فى شركة (شل) لكن السندى قبل ذلك شارك فى عمليات سيئة لم أوافق عليها وكانت سبة فى جبين الإخوان مثل اغتيال المستشار الخازندار وكذلك اغتيال النقراشى باشا بعد عشرين يومًا من قرار حل الجماعة».
موضوع: رد: الفريق عزيز المصري ......ابو الثوار الجمعة 23 يونيو 2017 - 12:19
«أبوالثوار»..«الأب الروحى» يعتذر عن قيادة الثورة (28)
كان لثورة يوليو أب ر وحى وهو الفريق «عزيز على المصرى» وكان لهذه الثورة قائد وهو اللواء أ.ح محمد نجيب. وكان لها صناع وهم البكباشى (المقدم) أ.ح جمال عبدالناصر ومجموعة الضباط الأحرار الذين اشتركوا معه فى الثورة.
وكان لهذه الثورة جنود مجهولون هم ضباط الصف والجنود الذين خرجوا تحت قيادة الضباط الأحرار فى حماسة وإيمان ليلة 23 يوليو، وحققوا لهذه الثورة النجاح والنصر، ولكن لم تسجل لهم أسماء لم تسمع عنهم أنباء.
هذه جملة تقريرية مهمة كتبها المؤرخ جمال حماد، عضو الضباط الأحرار، والذى كتب بيان الثورة. بالتوازى مع علاقة «عزيز» الأبوية مع الضباط الأحرار، جمع حوله آلاف من الشباب وأبنائه الضباط الذين قرروا الكفاح المسلح ضد الإنجليز فى القناة. يقول الصحفى والسياسى محمد صبيح إن عزيز راح يبث فيهم الحمية، ويتولى بتعبئة قواهم، وتوجيههم، وأحس عزيز أن شبابه قد عاد، وأمل حياته يوشك أن يتحقق، وراح مع الموثوق بهم من أبنائه الضباط وأركان الحركة الوطنية يرسم الخطط. كان لعزيز دور مهم فى حركة الكفاح المتجهة إلى القناة.
مع الاشتراكيين (مصر الفتاة) والإخوان وشباب الوفد وجماعات الضباط الأحرار فى الجيش المصرى وضباط وجنود البوليس.. ومن الإنصاف أن نذكر بالفضل دور فؤاد باشا سراج الدين وعبدالفتاح باشا حسن.
«وبقيام الثورة تحقق الحلم والأمل الذى عاش من أجله.. والأمل الذى جذبه إلى مصر وقد رفض من أجله عرش اليمن». كان قيام حكم وطنى خالص فى مصر، يركز جهوده كلها لإجلاء الإنجليز، ثم ينطلق فى عملية تعمير داخلى ضخمة، تشيع الرخاء فى البلاد، مع تمكين المواطنين من المشاركة فى الحكم على أسس ديمقراطية سليمة، حتى يحس كل فرد بمعنى المواطنة والاعتزاز بمصريته ثم بعروبته.
هذه هى الآمال التى تجسمت فجأة فى خاطر عزيز المصرى والإذاعة تردد بيان الثورة الأول الذى أذاعه أنور السادات، والذى ميزه من صوته وهو أقرب تلاميذه له.
يقول عزيز «لقد لاحظت فى كثير من أحاديث الضباط معى أنهم يكررون كلمة انقلاب، أكثر مما يرددون كلمة الثورة. وكنت أقول لهم: إن الانقلاب يمكن أن يعقبه انقلاب آخر كما كان يحدث فى سوريا فى ذلك الوقت، وطلبت منهم رفع شعار الثورة.. لأن الثورة أقوى وأشمل وأن الشعب المصرى عندما يقوم بتأييد ثورة الجيش، فهى بالنسبة له ثورة من داخله، لأنه رافض للملك والأحزاب والاحتلال ويرغب فى التغيير الشامل. دارت مناقشات طويلة- موجودة فى حوارات عزيز المصرى الصحفية مع عبدالناصر- كانت فى غالبها فى هذه المرحلة عبارة عن «خارطة طريق» أو نصائح تتعلق بالعامل مع الأحزاب القائمة والإخوان المسلمين والكفاح فى القناة. وعن عرض جمال عبدالناصر لعزيز المصرى تولى قيادة الثورة يحكى عزيز المصرى «فى أعقاب حريق القاهرة، جمعنا لقاء حاسم فى منزلى. كان أبطال اللقاء: جمال عبدالناصر، أنور السادات، صلاح سالم، عبدالحكيم عامر.. كانت أمسية مثيرة.. بدأ الاجتماع بصمت شديد، ثم ما لبث عبدالناصر أن بادره قائلاً فى حماس: لقد جئنا إليك- يقصد عزيز المصرى- لأننا أولادك وتلاميذك ونعرف حق قدرك، ونعلم إخلاصك وتعاطفك معنا.. وطالما جلسنا معك وتحدثنا إليك لساعات طوال يومًا بعد آخر. وأنت تعرف عنا الكثير، وعرفت هوياتنا وكل خططنا وأهدافنا وما عزمنا عليه من أجل مصر. وأنت تعلم تمامًا فى أننا فى مجملنا أصحاب رتب متوسطة تقف عند رتبة البكباشى وقليل جداً من يحمل رتبة القائمقام.. وأن عصب الضباط الأحرار ممن يحملون رتبتى اليوزباشى والصاغ، لذلك قررنا أن يكون لنا كبير.. وأن يكون لنا قائد له قدره وقيمته وأهميته وتاريخه المعروف حتى يرضى عنه الشعب.. لذلك قررنا اختيارك قائداً لثورتنا.
يضيف عزيز «كان الحديث مفاجأة لى.. وكان القرار من الضباط الأحرار يثلج صدرى ويسعدنى إلى أقصى مدى.. وفى نفس الوقت شعرت بولاء الضباط نحوى.. ومدى احترامهم وحبهم لشخصى.. وبصراحة شديدة لم أكن حماسيًا فى ردى، ولا منفصلاً فى قرارى، وقلت لهم: إذا وضع أى واحد منكم مكانى.. فلن يشعر بسعادتى، ولكن أريد أن أفصح ما بداخل صدرى: أولاً أن هذا الطلب كان مفاجأة لى ولم يدر بخلدى فى وقت من الأوقات. وثانيًا: أنا رجل عسكرى بعيد عن الجيش قرابة أحد عشر عامًا.. وثالثًا: أنا رجل اقترب من السبعين عامًا وربما تجاوزت ذلك بعدة أشهر. ورابعًا: أنا لا أريد هذه القيادة هروباً منها، ولكن لأنى عازف عنها ورافض لها. ربما لأننى لست الشخص المناسب أو أننى غير صالح لهذه المهمة. ابحثوا عن غيرى، ولكن إن شئتم أن أكون صاحب رأى ومشورة.. أو مساعداً فى اتخاذ أى قرار. روحى لكم.. كأب يحب أولاده ويتمنى لهم أكثر مما يتمناه لنفسه.
يشرح عزيز المصرى فى حواره مع محمد عبدالحميد مبررات الرفض: ما ندمت على ذلك فى يوم من الأيام لأننى بالرغم من علاقتى القوية بهم جميعًا لم أكن أريد أن أسلب القيادة منهم، لأنهم كانوا أحق بذلك منى.. وكان لابد أن تكون لهم الريادة، وتلك القيادة ولقد أثبتت الأيام بعد ذلك حكمة قرارى عندما جاء محمد نجيب ليقود الثورة فى بدايتها باعتباره صاحب رتبة كبيرة، ثم كيف حدث الخلاف الذى أدى إلى حجبه من أداء وظيفته كرئيس للجمهورية، ثم إقالته وتحديد إقامته.. ولم أكن أريد لنفسى أن أكون مكانه. يستكمل عزيز: قال لى جمال عبدالناصر: من ترشح لنا للقيام بهذه المهمة.. قلت له: الأمر لا يمكن حسمه بهذه السرعة.. ولكن علينا أن نستعرض الأسماء وعلينا أن ندقق تمامًا فى الاختيار حتى لا يكون من نختاره سببًا فى إفشاء أسراركم عند الملك وحيدر باشا- القائد العام للقوات المسلحة، وطلبت منهم الحضور بعد عدة أيام ومعهم كشف بالأسماء المختارة لاختيار الشخصية المناسبة لهذه المهمة الشاقة.
وبعد قرابة الأسبوع، كان اللقاء الثانى، وبعد استعراض الأسماء كان الاتفاق على اللواء محمد نجيب الذى نقل من سلاح الحدود إلى سلاح المشاة غدراً، وكان محمد نجيب شخصية معقولة ومقبولة فى وقت واحد.
أما جمال حماد فى «أسرار ثورة 23 يوليو» فيسرد التفاصيل بلغة المؤرخ المدقق «كان جمال عبدالناصر وبفضل قوة شخصيته وصفاته المتميزة وحركته الدؤبة بين الضباط الأحرار قد تمكن من إقناع زملائه أعضاء لجنة القيادة التى تتولى قيادة التنظيم بانتخابه رئيسًا لهم بالإجماع، ولكن العمل السرى يختلف تمامًا عن العمل العلنى وشخصية عبدالناصر، والتى كان لها وزنها فى تنظيم يعمل أفراده تحت الأرض لم يكن لها ذلك الوزن بالمرة فى المجال العلنى على مستوى الجيش، فما هو إلا مقدم أركان حرب غير معروف إلا فى دائرة محدودة من الضباط بحكم زمالتهم له فى الدفعة أو السلاح.. وبالجيش مئات يحملون نفس رتبته ومؤهلاته: «كان زملاؤه من أعضاء لجنة القيادة قد أقنعوه بضرورة إسناد قيادة الحركة المزمع قيامها إلى ضابط كبير الرتبة له شهرته وشعبيته داخل الجيش وخارجه، ليتسنى تكتل الجيش والشعب من ورائه بمجرد إذاعة البيان الأول للحركة.
ووافقت اللجنة على رأيه ولم يكن بين كبار ضباط الجيش من تتوافر فيه الشروط المطلوبة سوى ثلاثة أسماء: الفريق عزيز المصرى، واللواء فؤاد صادق، واللواء محمد نجيب.
وبدأت الاتصالات بعزيز المصرى ولكن الرجل آثر أن يظل أبًا روحيًا للحركة فقط. وكان له عذره فقد كان فى الحلقة السابعة من عمره وأمضى اثنى عشر عامًا خارج الجيش. وكان التسلسل الطبيعى هو إجراء الاتصال بعد ذلك باللواء فؤاد صادق وهو القائد الذى عرف بشجاعته وثباته فى ميدان القتال بفلسطين عام 1948 حينما كان قائداً عامًا للقوات المصرية أثناء المرحلة الأخيرة من الحرب بعد تنحية اللواء أحمد المواوى عن القيادة.. وهو القائد الذى استحوذ على حجة الضباط وإعجابهم فقد فرض هيبته على اليهود فى فلسطين، كما فرض احترامه على الرئاسات فى القاهرة، وكان يتمتع بشهرة داخل الجيش وخارجه، وبالتالى تتوافر فيه جميع الشروط. لكن الرأى استقر على محمد نجيب الذى قبل العرض «الذى توفرت فيه أوائل عام 1952، أفضل الصفات التى تؤهله لقيادة حركة عسكرية ناجحة يقوم بها الجيش.
وبالعودة إلى عزيز وفى حواره مع محمد عبدالحميد ورداً على سؤاله حول معرفته بموعد قيام الثورة يقول «كان الموعد الذى أعره هو صباح 21 يوليو.. ولقد كان حزنى شديداً عندما جاء صباح هذا اليوم كالأيام العادية، ولم أسمع أى أخبار عن الثورة، حتى شعرت بخيبة أمل شديدة.. ورن جرس التليفون قبل الغروب وكان صوت عبدالناصر يقول: لا تقلق يا باشا. موعدنا معك إن شاء الله بعد يومين.. وجميع الزملاء بخير.
يقول عزيز: لقد قضيت أسوأ أيام حياتى، لكن رسالة جمال عبدالناصر معى كانت أشبه بالدش البارد. استمعت من جهاز الراديو إلى آخر نشرات الأخبار فى المساء حول أخبار الملك الذى يقضى الصيف فى الإسكندرية. بعد أذان الفجر دعوت الله سبحانه وتعالى أن تنجح الثورة وتقضى على الملك والفساد والاستعمار.. تنفست الصعداء وأنا أسمع صوت أنور السادات يعلن الثورة ويعلن انتهاء الفساد والظلام واليأس، وكان السؤال: هل أنام بعد أن نجحت الثورة.. وكان الجواب: لن أنام. فى الحادية عشر دق جرس التليفون.. وجاء صوت أنور السادات هادئًا متزنًا بعد نجاح الثورة وقال لى: لقد نجحنا سيادة الفريق. نجحنا وحققنا حلمك الكبير.. مبروك لنا جميعًا. وإن جمال عبدالناصر يقول لك أيضًا: مبروك.
موضوع: رد: الفريق عزيز المصري ......ابو الثوار السبت 24 يونيو 2017 - 14:16
«أبوالثوار».. العودة من موسكو.. رأى صريح في عبدالحكيم عامر (29)
فى 5 يناير 1954 كان مانشيت صحيفة الأهرام على ثلاثة سطور هكذا:
طرد سفير تركيا من مصر. لحملاته المستمرة على سياسة قادة الثورة وتوجيهه ألفاظًا نابية لجمال عبدالناصر. مجلس الوزراء يقرر رفع الحصانة الدبلوماسية عنه ويأمره بمغادرة البلاد فى 24 ساعة.
وفى التفاصيل أن السفير فؤاد طوغاى تلفظ بعبارات معادية لمصر ومناوئة لحكومتها إذ قال عن مصر فى إحدى الحفلات التى أقامها أخيراً أنها بلد قذر وتطاول على نائب الرئيس جمال عبدالناصر، لذا فإن وزارة الإرشاد أعلنت فى بيان رسمى أن مجلس الوزراء قرر فى اجتماعه مساء أمس الأول طرد السفير واعتباره شخصًا معاديًا. وفى صباح اليوم التالى غادر السفير فعليًا القاهرة.
المانشيت الثانى فى الصحيفة وعلى مساحة كبيرة إلى اليسار وفى نفس مستوى المساحة للمانشيت الرئيسى:
«عزيز المصرى يعرض موقف موسكو من سياسة مصر الجديدة». كان عزيز«بعد أن رفض عرضًا من عبدالناصر لقيادة ثورة يوليو، قد تم تكريمه بتعيينه سفيراً فى الخارجية، وقد عرضت عليه سفارة مصر فى ألمانيا الغربية بعد أن أدى اليمين القانونية فى بداية مارس 1953، أمام الدكتور محمود فوزى، وزير الخارجية. تدخل عبدالناصر ورأى أن وجود «عزيز المصرى» فى موسكو أكثر فائدة للثورة من وجوده فى ألمانيا التى يرتبط بها فكريًا وعسكريًا.
بالفعل سافر عزيز إلى موسكو فى 16 يوليو من العام نفسه بعد أن زار رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية وحصل على خطاب التكليف كسفير لمصر فى موسكو.
الاجتماع الذى أشرت إليه كان مهمًا للغاية، ولخص فيه عزيز المصرى ملامح موقف روسيا من التواجد البريطانى فى مصر، خاصة منطقة القناة ومدى مساندتها فى المحافل الدولية للمطالبة بالجلاء. كما تم استعراض مواقف القوى الإقليمية خاصة واشنطن والهند. لكن «عزيز» شرح لقيادات الدولة و«الثورة» أهمية التعاون الاقتصادى مع الاتحاد السوفيتى.
يكتب محمد صبيح، وهو رفيق عزيز المصرى فى السياسة والسجن عن ظروف اختيار عزيز المصرى ليكون سفيراً لمصر فى موسكو، أن حكومة الثورة رأت أن تستفيد من طاقة عزيز المصرى باشا فعرضت عليه أن يمثل الثورة فى بلد جديد، علاقاتنا به يشوبها غموض شديد بسبب العهد الملكى، ويعنى به الاتحاد السوفيتى.. والساسة هناك فى موسكو، لابد لديهم ملف كامل عن عزيز المصرى.
.. وقد وجد عزيز المصرى عند وصوله إلى موسكو تقديراً لشخصيته، ربما شابه شىء من الحذر، لما يعرفونه عن علاقاته العميقة الوثيقة بالألمان.. هى علاقات غير مذهبية، ولكنها تنتمى إلى الثقافة أولاً، ثم تنتمى إلى العسكرية البروسية الأصيلة. إلا أن حيوية عزيز المصرى، وقوة شخصيته أذابت هذا الجليد وغيره، وبدأ التفهم السوفيتى لثورة مصر وطموحها والآفاق الواسعة التى تحقق أحلامها.
كان عبدالناصر حريصًا بالفعل على التواصل مع الاتحاد السوفيتى، وكان يريد رمزاً لهذه المرحلة الثورية. يقول عزيز المصرى فى حواره مع محمد عبدالحميد، ضمن كتابه «أبوالثائرين»: «إن عبدالناصر زارنى ذات مساء وكان معه حسين إبراهيم وعبدالحكيم عامر وأنور السادات»، وفى هذه الأمسية تطرق الحديث إلى الاتحاد السوفيتى.. وكان هناك إجماع على الاتجاه إلى هذه الدولة باعتبارها قوة عالمية لابد من محاولة جادة للانفتاح عليها، وفجأة قال لى جمال عبدالناصر: عندى فكرة أرى أن توافق عليها.. هذه الفكرة تدور حول محور حديثنا الآن.. لابد من اختيار شخصية كبيرة جداً تقوم بهذه المهمة.. ومن مميزات هذه الشخصية القدرة التامة على أن تكون عينًا لنا لمعرفة أحوالها، واتجاهاتها وإمكانية التعاون معها فى المستقبل من منطق الند للند.. وقال أيضًا: ما رأيك أن تكون سفيراً لنا فى الاتحاد السوفيتى للفترة التى تراها مناسبة لك، أو التى تختارها ولك مطلق الحرية فى ذلك. ووافقت دون تردد وسافرت للاتحاد السوفيتى.. وكانت تجربة تستحق التسجيل.
ركز «عزيز» فى روسيا على تسليح الجيش المصرى. لقد كان يعلم جيداً أن الإنجليز لن يسمحوا بذلك، خاصة بالحجم والكمية والأعداد المطلوبة من الآليات والمعدات والدبابات والطائرات. كانت من خطته أثناء وجوده هناك جس نبض مسؤولى الاتحاد السوفيتى فى تسليح مصر.
تعمق عزيز فى دراسة وفهم النظرية الشيوعية، ووجد أنها «تعطل فى الإنسان الإحساس بالطموح ويجعله يفقد الشعور بالملكية الخاصة حتى فى الأشياء الخاصة الصغيرة».
لم يعجبه التصنيف السائد هناك «فالعامل فى درجة أعلى من المزارع أو الفلاح.. وتزايد نفوذ عضو الحزب الشيوعى عن كل درجات العمال والفلاحين والموظفين. قارن بينها وبين الحياة فى ظل المجتمعات الطبيعية وكذلك فى ظل المجتمع الإسلامى الذى يحترم حرية الفرد ويؤمن فى نفس الوقت بسياسة الثواب والعقاب».
يقول عزيز «آمنت أن هذه النظرية لا يمكن أن تصلح للتطبيق فى أى مجتمع إسلامى.. وأشفقت على الشيوعيين المصريين» وقلت لعبدالناصر فيما بعد «مجتمع الاتحاد السوفيتى لا يوافقنا ولكن علينا أن نتجه إلى نظام الحكم هناك.. نأخذ منه ما يوافقنا عاد عزيز إلى مصر والأزمات السياسية فى عنفوانها بين رفقاء الثورة.. ومن كل اتجاه.. صراعات فرضتها الأحداث والظروف، وأخرى فرضتها التشبث بالسلطة أو إزاحة المنافسين عنها. يقول عزيز «كانت هناك أخطاء يمكن إصلاحها، وأخطاء يستحيل إصلاحها.. عشت هذه الأجواء حتى جاءت الكارثة بعدوان 1956.. هذا العدوان الذى تنبأت به قبل وقوعه بعام أو عامين».
كان لابد للإنجليز أن يعتدوا على مصر وكان لابد للفرنسيين أن يشاركوا فى ذلك الكرنفال التأديبى الذى أرادته بريطانيا وفرنسا لإفشال الثورة وخلع عبدالناصر وعودة الاحتلال من جديد.
لقد كانت هناك أسباب ومسببات. وفشل العدوان وكان من المفروض أن تسلط الثورة الضوء على الطريق الذى سوف نسلكه، ولكنها سارت وغاصت أقدامها فى الماء والطين. وكان من المفروض أن تعيد الثورة طريقها وتقوم بتشييده بالعلم والتأخى ونظام الحكم السليم، ولكنها تاهت فى صحراء مترامية الأطراف دون بوصلة تقود للاتجاه السليم.
ينقل محمد عبدالحميد عن عزيز المصرى رأيه فى عبدالحكيم عامر وقيادته للجيش «وجدت من يخبرنى من أعضاء مجلس قيادة الثورة بنية جمال عبدالناصر ترشيح عبدالحكيم عامر ليكون قائداً عامًا للجيش، وأن الاتجاه العام بينهم ترشيح زكريا محى الدين لهذا المنصب لأنه الأقدر والأكثر صلاحية لأن إمكانياته الشخصية تؤهله لذلك. لم أكن مستريحًا على الإطلاق لأن يتولى عبدالحكيم عامر هذا المنصب لأنه شخصية مجاملة أكثر من اللازم وتغلب عليه عادات أولاد البلد أو أنجال الأعيان.. وأنا لا يمكن أن أطلق عليها سذاجة، بقدر ما أقول إن شخصيته قد تصلح لأى عمل إلا أن تكون هى القيادة العليا التى تسيطر على الجيش. ولقد شعرت بألم شديد عندما صدر القرار بترقيته لرتبة المشير ثم تعيينه قائداً عامًا للجيش.
«لقد سيطر عامر على الجيش وتعامل كأنه عمدة بلغة (الجدعنة) أو المجدعة.. وتلك كانت كارثة.. كنت أحس أن الجيش المصرى يسير نحو الهاوية.. بل إننى أقول إن عبدالحكيم عامر قدم جيشه لقمة سائغة لإسرائيل تلعب به كما تشاء.. وتحركه كما تريد. ولا تخافه ولا ترهبه لأنه تحول إلى جيش من المرتزقة.. القيادات جاهلة ولكنها مفروضة عليه لأنها من (بطانة) المشير عامر».
كنت أتوقع من عبدالناصر أن يكشف القائد العام للجيش المصرى بعد عدوان 1956.. كانت إدارة المعركة يغلب عليها طابع السذاجة. كان المشير قائداً جاهلاً لا يدرى تمامًا أبسط قواعد وأصول إدارة المعركة.
وينقل محمد صبيح إن بعض تلاميذ عزيز المصرى من كبار المسؤولين استشاروه فى الموقف العسكرى فى 1956، فأشار بسحب القوات التى كانت تعبر القنال وقتها انطلاقاً من الجبهة، وأشار بسحب القوات الموجودة فى سيناء، مع حرب مؤخرة تعوق تقدم اليهود حتى تصل الوحدات من سيناء سليمة. وبهذا يتوحد خط القتال، ولا يصطاد الإنجليز والفرنسيون الجيش المصرى فى كماشة هما طرفها الغربى واليهود طرفها الشرقى، وهو ما سمى وقتها بتوحيد الجبهة.. وقد أخذت القيادة بهذه المشورة السليمة.. ونجت قواتنا من الفخ الذى كان يدبر لها، وتمكنت من ضمان سلامة القوات، وإيقاف الزحف الإنجليزى الفرنسى من بورسعيد إلى الإسماعيلية والسويس.
فى هذه الأثناء، وكان «عزيز» على مشارف الثمانين، يعيش عيشة هادئة فى حدود المعاش الذى قررته له وزارة إسماعيل صدقى قبل عشرين عامًا- فى حدود 79 جنيهًا فى الشهر. يكتب محمد صبيح أن «عزيز» وجد أن حديقة عين شمس التى يمتلكها لا تدخل له دخلاً مناسبًا فباعها لتكون على مسكنه هناك مدرسة، واشترى بثمنها أسهمًا فى شركة الغزل والنسيج بالمحلة، ولكن جزءًا من هذه الأسهم أمم فى 1961.. وكان عزيز يسأل فى دهشة: لمن يكون الاستثناء.. إذا لم يكن لى؟.. وعندما رُفع معاش الفريق المتقاعد إلى 200 جنيه فى الشهر، لم يفكر أحد فى تطبيقه عليه على الرغم من بطولاته، وعلى الرغم من حاجته إلى الدواء والعناية الطبية
موضوع: رد: الفريق عزيز المصري ......ابو الثوار الأربعاء 28 يونيو 2017 - 12:43
«أبوالثوار»: عبدالناصر يشيّعه إلى «قبر مجهول» ( 30 والاخيره )
تمضى الفصول الأخيرة فى حياة عزيز المصرى فى هدوء رغم الأجواء السياسية الصعبة. آثر الصمت والهدوء. احتراماً وإجلالاً لجمال عبدالناصر ورفاقه مع رفضه لعدد من السياسات العسكرية والسياسية الخاطئة. لم يشأ أن يثور ضدها وهو الثائر فى كل مكان وزمان عاش منه داخل حدود مصر وخارجها. مواقفه من عبدالحكيم عامر وأخطاء الجبهة العسكرية فى حرب 1956، ظهرت للملأ فى حوارات لم تنشر فى حياته. الذى نشر فى سنوات حياته العشر الأخيرة، على فترات متناثرة، حوارات معه حول «الميثاق الاشتراكى» ورأيه فيه. ذكرياته مع الإيطاليين فى حرب ليبيا. معاركه فى اليمن وفى البوسنة. استحوذ على اهتمام الصحف فى هذه الفترة خبر لقائه بابنه عمر من زوجته الأمريكية فرنسيس دريك بعد 25 عامًا من الغربة. تنشر «الأهرام» فى 2 أغسطس 1960، أن «عمر» التقى والده أمس، بعد فراق دام 25 عامًا. كان عمر قد سافر مع والدته وعمره 4 سنوات، وهناك منح الجنسية الأمريكية وحارب فى كوريا، وهو الآن يدرس الأدب الكلاسيكى. وكان منظر اللقاء الذى حالت الظروف دون إتمامه طوال 25 عامًا منظراً مؤثراً جعل الدموع تسيل من عيون كل من كانوا فى المطار.
خبر آخر فى العام التالى- 1961- عن عمر أيضًا وأنه حضر للقاهرة وحضر مع والده تسجيل التليفزيون لذكرياته. وفى التفاصيل أن عمر المصرى- أستاذ علم الاجتماع بجامعة بكنجهام الأمريكية ومعه عروسه (18 سنة) التى تزوجها هناك حضرا تسجيل «عزيز» لذكرياته لمجلة التليفزيون مع عباس أحمد رئيس تحرير مجلة التليفزيون. وكانت عودة عمر المصرى لها أثر كبير فى تحسن حالة عزيز المصرى حيث خرج من غرفة نومه لأول مرة بعد مرض استمر 6 أشهر. ومن المقرر أن يذيع التليفزيون التسجيل مساء السبت القادم وفى ساعتين كاملتين سيروى فيهما تاريخ حياته وكفاحه.
وقد حاولت طويلاً العثور على هذا الحوار من خلال المسؤولين فى التليفزيون.. ولكن دون جدوى. هناك تسجيل آخر لعزيز المصرى مع المذيعة كاميليا الشنوانى لكن لم أتوصل إليه أيضًا. وتهتم فيه كل صحف 1959 بخبر منح الرئيس جمال عبدالناصر وشاح النيل لكل من لطفى السيد- أستاذ الجيل- وعزيز المصرى وذلك فى الذكرى السابعة للثورة. وعلمت الأهرام أن الرئيس سيسلمهما الوشاح بنفسه. وفى بداية 1960 يتسلم «عزيز» فعليًا «القلادة» من الرئيس عبدالناصر فى قصر القبة.. وتنشر الصحف صورة الفريق عزيز المصرى فى صدر الصفحات الأولى وهو يعانق عبدالناصر فى سنواته الأخيرة، وبعد أن باع منزله وحديقته فى عين شمس لكى ينفق من ثمنهما على حياته وعلاجه، عاش لبضعة شهور فى الزمالك. وكان يتردد على نادى الجزيرة.
يكتب محمد صبيح أن الشباب الذين يعرفون قدره كانوا يذهلون بما بقى لديه من آثار القوة والحيوية.. فى إحدى المرات أذهل رواد نادى الصيد عندما كان يصيب الهدف وهو جالس بطريقة معجزة بالنسبة لسنه وظروفه.
ولكنى عندما بدأت أزوره، فى مسكنه الجديد، كان هذا العهد قد انتهى، وكف عن الخروج والتنزه، وما أكثر ما حاولنا أن نستحثه على الخروج، فكان يعدّ حتى إذا جاء أوان التنفيذ زهد، وهكذا قضى على الصقر أن تقص أجنحته فلم يبق لديه إلا دنيا الذكريات.
ذكريات الصياد الشاب. والعجيب أن ذاكرة عزيز المصرى ووعيه كادا أن يفقدا نهائيًا فى هذه الأسابيع الأخيرة، فلا يكاد يعرف من قابل بالأمس، وربما نظر إلى بعض من يترددون عليه وسأله عن اسمه، أما عندما يرجع إلى الماضى البعيد، إلى ذكريات الصياد الشاب فهنا تنحل العقدة، وتنشط الذاكرة وتبعث، وينطلق اللسان كما اعتاد أن ينطلق، وتنبسط نفسه ويلوح الانشراح على محياه، ولذلك فقد كنا نستزيده من هذه الذكريات بالرغم من أننا أصبحنا نحفظها عن ظهر قلب لكثرة ما كررها وسمعناها من قبل، ولكن حديثه عنها أصبح هو سلوانا الوحيد للاطمئنان عليه. ■ ■ ■ وفى 15 يونيو 1965 ينسدل الستار عن مسيرة أبوالثوار العرب بعد صراع مع أمراض الشيخوخة. وتخطئ معظم الصحف فى سنه، فالأهرام تكتب فى الصفحة الأولى أنه توفى عن 94 عامًا. واختلفت سنه فى كل جريدة ما بين 90 و88، لكن الثابت عندى أنه توفى عن 85 عامًا.
وتؤكد الأهرام فى خبرها فى الصفحة الأولى، وكان له بقية فى صفحة داخلية أن الرئيس جمال عبدالناصر سيشارك فى تشييع الجنازة اليوم- 16 يونيو 1965- من جامع عمر مكرم.
وفى تفاصيل ظروف الوفاة جاء ما يلى: «أن وطأة الشيخوخة قد اشتدت على الفريق عزيز المصرى منذ 4 شهور تقريبًا، ومنذ ذلك الوقت ظل تحت رعاية طبية مستمرة تولاها الدكتور مصطفى قناوى واللواء طبيب أحمد الناقة. وخلال الأشهر الأربعة قطع الأطباء الأمل فى حياته ثلاث مرات. كان فى كل مرة يفقد وعيه، ثم يفيق بعد لحظات. وفى العاشرة من صباح أمس بدأ الفريق عزيز المصرى ينازع الموت حتى فارق الحياة فى الرابعة بعد الظهر. وكان بجواره فى تلك اللحظات السيد صلاح الدسوقى محافظ القاهرة واللواء بالمعاش السعيد عزيز الألفى أحد تلامذته فى مدرسة الشرطة.
وإضافة إلى نشر محافظة القاهرة وكلية الشرطة عزاءين لهما بحجم بارز فى الأهرام نشرت العائلة- نصيًا فى صدر صفحة الوفيات يتضح فيهما خريطة علاقاته الأسرية المحدودة فى القاهرة، فهو والد عمر وخال يوسف ذوالفقار وناجية هانم ذوالفقار ونعمت سعد الخادم وفاطمة ممتاز ومحمد ذوالفقار وراجية طيلان.
وفى اليوم التالى تتصدر صورة الرئيس جمال عبدالناصر والصفحات الأولى وكذلك فى «التليفزيون المصرى» وهو يؤدى الصلاة على الفريق عزيز المصرى ويسير فى مقدمة الجنازة العسكرية المهيبة التى تجمع فيها آلاف المصريين وذلك من أمام عمر مكرم وحتى ميدان طلعت حرب. كما اشترك فى الجنازة نواب رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الأمة ورئيس الوزراء وقادة الجيش وعدد من كبار الضباط والدبلوماسيين العرب. وابتداءً من هذا التاريخ ولشهور طويلة، يحتفى كبار الكتاب وكذلك عدد من الصحفيين فى استعراض مسيرة الرجل وكيف أنه ربى جيلاً من الضباط الأحرار.. والمطالبة بتدريس سيرته فى المدارس والجامعات وأنه كان نبراسًا للثوار العرب ولثورة يوليو نفسها. ■ ■ ■ ومن بين المقالات الرائعة والعديدة التى جاءت كرثاء لعزيز المصرى كتب مصطفى أمين مقالاً طويلاً فى اليوم التالى لتشييع عزيز المصرى ومما جاء فيه:
كان أشبه ببطل فى أسطورة، أو فارس فى إحدى قصص ألكسندر ديماس، وعندما كان يجلس ليتكلم كان يبدو كأنه فوق حصان، وكان يشير بيديه دائمًا إشارة الرجل الذى يمسك بمدفع رشاش. وكانت كلماته أشبه بالقنابل أو الديناميت أو الرصاص!.
هذه هى صورة عزيز المصرى كما عرفته فى عام 1930 وأنا تلميذ فى المدرسة الخديوية، ومحرر تحت اسم مستعار فى مجلة الرغائب التى يصدرها الأستاذ محمد على حماد. وكان عزيز المصرى يومها مديراً لمدرسة البوليس.. وبهرتنى آراؤه.. كنا نتكلم عن الدستور، وكان هو يتكلم عن الثورة. وكنا نتزعم المظاهرات ضد حكومة إسماعيل صدقى، وكان هو يرى أن المظاهرات كلام فارغ، وأن الوسيلة الوحيدة هى الاغتيالات وإراقة دم الإنجليز. وأعجبنى الرجل عندما رفض بشدة أن أكتب موضوعاً عن قصة حياته المثيرة المليئة بالمغامرات. وقال إنه يفضل أن يعمل فى صمت، حتى لا يلفت إليه الأنظار، وفى الوقت المناسب، سوف ينقض على الطغاة، وعندئذ لا مانع من أن يدلى يومها بأحاديث! وكانت له آراء غريبة.. منها إذا تولى الحكم فسوف يتفق مع مهربى الحشيش على أن يهربوا مسدساً مع كل رطل حشيش.. وكان لديه إحصاء عن كمية الحشيش التى تدخل مصر، ووجد أنه بهذا الاتفاق يصبح الشعب كله مسلحاً فى خلال 7 سنوات! وعندما قلت له وما قيمة المسدس فى يد الحشاش.. ثار وقال «إن يوم يمسك الحشاش بالمسدس يفيق!».
وعندما حصلت على البكالوريا أقنعنى عزيز المصرى أن أدخل مدرسة البوليس أو المدرسة الحربية، وكان يقول إنه قبل أن يدير مدرسة البوليس لأن مهمة البوليس فى عهد الاحتلال هى أن يقاوم الثورات.. وهو يريد أن يرى ضباط بوليس جدداً يتعاونون مع الثورة ضد الاحتلال.. وقال لى عزيز المصرى إنه يرى أن البلد ليس فى حاجة إلى صحفيين، وإنما فى حاجة إلى ضباط بوليس وجيش بعقلية جديدة!
والغريب أننى تأثرت يومها بهذا الرأى، وكان الأستاذ التابعى مسجوناً فى سجن مصر بتهمة إهانة وزير العدل ومأمور الحصاينة.. وكنت نائباً لرئيس تحرير روزاليوسف، فكتبت إليه وهو فى السجن خطاباً أخبره أننى قررت أن أدخل مدرسة الحربية أو مدرسة البوليس!
وثار التابعى، وكتب إلىّ من السجن خطاباً يلعن خاشى، ويقول إن مستقبلى أن أكون رئيس تحرير لا مأمور قسم السيدة زينب، وعدلت عن هذه الفكرة، وغضب علىّ عزيز المصرى لأننى فضلت كلية الحقوق على مدرسة البوليس.
واستمرت صلتى بعزيز المصرى.. يقربنى تارة.. ويغضب علىّ تارة أخرى.. ولكنى كنت أعتبره دائمًا أبا الثوار.. كان دائمًا يعطى الأمل بإمكان الثورة وبقدرة هذا الشعب على الثورة.
أما كامل الشناوى فكتب فى الأخبار فى نفس اليوم 19 يونيو:
«تروى أسطورة قديمة أن أحد القادة الأبطال، اشتد عليه المرض، ودخل فى غيبوبة الموت، واستدعى له أهله قسيس الكنيسة ليقف بجواره وهو فى طريقه إلى الله.
وأفاق القائد من الغيبوبة لحظة ولما رأى القسيس سأله ماذا يريد؟ فقال له القسيس: استغفر الله فاستغفر القائد.
قال القسيس اسأل الله أن يرحمك ويرحم أصدقاءك.
فقال القائد: اللهم ارحمنى وارحم أصدقائى.
قال القسيس: اسأله أن يرحم أعداءك.
وهنا انتفض القائد من الدهشة وأجال بصره فى القسيس وقال له:
أعدائى؟ أين هم؟ لقد قتلتهم جميعاً!!
وصعدت روح القائد الذى تعود الانتصار على أعدائه فى جميع المعارك التى خاضها.
قفزت هذه الأسطورة إلى ذاكرتى وأنا أقرأ نبأ وفاة عزيز على المصرى. فهذا المكافح المناضل القائد البطل ظل طول سنين حياته، التى أشرفت على التسعين، يخوض المعارك ضد المستبدين والمستعمرين والإقطاعيين، وقبل أن يواجه عدوه الأخير، وهو الموت، كان قد قضى على أعدائه جميعًا.
لقد قابلت عزيز المصرى أربع مرات، وكنت كلما انتهيت من مقابلته تمنيت أن ألقاه مرة أخرى، فهو شخصية ذكية، مثالية، تجر وراءها أمجاداً من حق كل عربى، وحر، ومسلم أن يفخر بها. فإن عزيز المصرى بطل من أبطال العروبة والحرية والإسلام».
■ ■ ■
ويكتب موسى صبرى يوميات الأخبار، عدد 23 يونيو 1965 عن عزيز المصرى وتحت عنوان «عندما طلب منى عزيز المصرى تكوين خلية سرية من الصحفيين»:
«لقيت عزيز المصرى أكثر من مرة.. فى المؤلفات التى أرَّخت الحكم العثمانى.. والحركة العربية.. والحرب الليبية.. ثم لقيته فى القصص البطولية التى سمعتها عنه من أنور السادات والطيار حسن عزت عام 1943 عندما كنا فى معتقل الزيتون.. كان عزيز المصرى وقوداً دائم الاشتعال. ناراً متأججة لا تخمد، حركة مستمرة لا تتوقف، كان يتبنى كل ضابط شاب ليصنع منه ثورة متنقلة، كان يكشف لكل من حوله نوايا الاستعمار.. وألاعيب عملاء الاستعمار.. كان مؤمناً بألا خلاص لمصر إلا بالثورة.. لم يكن يعرف أنصاف الحلول ولم يكن يؤمن إلا بالاستشهاد طريقاً وحيداً لجلاء الغاضب، ثم لقيت عزيز المصرى ذات يوم فى عام 1948 بعد نكبة فلسطين فى منزل الموسيقار مدحت عاصم.. وكان معنا الفنان المخرج أحمد بدرخان، قال لى بعد اللحظات الأولى من لقائنا:
- ماذا تعمل؟
قلت: بالصحافة.
قال: الصحافة لن تخرج المستعمر من مصر.
قلت: الصحافة تقدم الحقائق للرأى العام.
قال: تقصد الأكاذيب.. الغش.. الخداع.. النفاق.. تصارع الأحزاب.
قلت: ولكن هناك صحفيين شباناً مؤمنين ببلدهم ومستقبل هذا الشعب.
قال: الشعب لن يتحرك بالمقالات.. لابد من الثورة.. والثورة تحتاج إلى تنظيم.
ثم صمت لحظة وانشغل تفكيره فى شىء لا أدريه ثم سألنى فجأة:
هل لك أصدقاء من الصحفيين.. رجالة.. مستعدين يشتغلوا للبلد.
قلت: أعتقد هذا.
قال: ومستنى إيه؟.. كونوا خلية خلية من ثلاثة.. والثلاثة يكونون ثلاث خلايا.. وهكذا.. البلد عاوزة ثورة.
وهكذا كان عزيز المصرى مبشراً بالثورة فى كل مكان.. ومع كل شخص حتى حينما يلقاه لأول مرة.
ثم اتجه بحديثه إلى أحمد بدرخان..
وقال له: لابد من فن ثورى.. وسينما ثورية.. وموسيقى ثورية.. طلعوا أفلام جد.. أفلام تصنع رجالاً لهذا البلد.
ومن وحى هذا اللقاء، قرر أحمد بدرخان إنتاج فيلم «مصطفى كامل» الذى صودر قبل الثورة.. وفشلت محاولاتى مع على ماهر للإفراج عنه بعد أن تولى الحكم فى 27 يناير 1952. وخسر فيه أحمد بدرخان كل ما يملك.. ولم ير «مصطفى كامل» النور إلا بعد ثورة 23 يوليو.. وكان مدحت عاصم قد وضع موسيقاه.. وكان ختام الفيلم نشيد الثورة بهذه الكلمات وهى من نظم مدحت عاصم أيضاً..
الثورة يا مصر الثورة
ع الظلم والاستعمار
بالدم لآخر قطرة
بالروح بالمال بالنار
يا نعيش فى مصر الحرة
يا نموت موت الأحرار
الثورة يا مصر الثورة..
ولكل من اتصل بالثائر عزيز المصرى ذكريات عن حياته وأفكاره الثورية لا تنفد.. يروى لنا قلم مدحت عاصم بعضاً منها فيقول:
فى صبيحة إلغاء المعاهدة عام 1951 اتصلت بى السيدة زينب مديرة منزل عزيز المصرى وراعيته المخلصة الأمينة فى أحلك اللحظات، قالت إنه يطلبنى.. لما التقيت به قال لى:
«إن السياسيين والملك يحسبون أنهم يخدعون الشعب بهذه الألاعيب السياسية.. اتصل بكل من تعرف، لتشكيل فرق من الفدائيين تجعل حياة المستعمرين جحيماً، وأخبرنى باتصالاتك أولاً بأول.. وفى المساء كنت فى مكتب كامل الشناوى بجريدة الأهرام، وحضر لفيف من الشباب المعروف بالنشاط السياسى.. وجاء ذكر ضرورة المقاومة الشعبية للقوات البريطانية فى القنال، وتطورت المناقشات إلى خطب سياسية، وأظهرت أن كلاً منهم يريد أن يبدو زعيماً صغيراً، وأخذت المشاحنات تشتد.. لولا لباقة كامل الشناوى.. وفى الفجر كنت مع عزيز المصرى أنقل له هذه الصورة.. فقال: هؤلاء لوثتهم السياسة، يجب الابتعاد عن كل من لهم نشاط سياسى سابق.
ومرت أيام قصيرة.. وبدأت تظهر بين شباب الجامعات والعمال والفلاحين بواكير ثورية تقبل على التضحية فى إخلاص وإيمان.. وسعد عزيز المصرى بهذا التحرك الثورى.. ولكن الأصابع الحزبية ومناورات القصر بدأت تمتد إلى هذا العمل الجليل، واستغلت هذه المناورات اسم عزيز المصرى، فما كان منه إلا أن ذهب إلى قصر عابدين وصرخ فى وجه كبير الياوران «أنتم قوادون، وهذا المجنون يجر البلاد إلى الخراب، ولكن أبلغه أن الأمر سينتهى به إلى الطرد والتشريد». ■ ■ ■ ويكتب حافظ محمود فى الجمهورية فى 25 يونيو 1965 مقالاً طويلاً بعنوان «قصة عزيز المصرى»:
يوم ماتت مارلين مونرو انخلع قلب الصحافة الأمريكية وكأنها أحست أن مادة من مواد الإثارة ستضيع من يدها، فأخذت تنشر عنها ما لم تتسع صفحاتها لنشره عن أبطال العالم، وانعكست هذه الصورة على وجه من أوجه صفحاتنا فاحتل خبر انتحار مارلين أماكن عزيزة من الصفحات الأولى ونشرت صورتها، بل صورها بأحجام كبيرة وملأ هذا شيئا غير قليل من التحقيقات الصحفية المترجمة عن حياتها ومماتها وأشياء أخرى مع التغاضى عن الخدمات السينمائية التى أدتها مارلين فى معسكرات لا تعتبر صديقة لنا.. ويومئذ قلنا إن للموت جلاله وأحكامه..
أما يوم مات عزيز المصرى فقد نشر نبأ وفاته حقا على الصفحة الأولى فى جميع الصحف. لكن فى اختصار، ونشرت صورته حقاً، لكن على نصف عمود. ونشر موجز لتاريخ حياته، لكن فى عشرة أسطر، ثم نشرت صورة تشييع جنازته، لكن على صفحة الوفيات ولم تخل الصحف خلال هذا الأسبوع من نشر تحقيق صحفى عن تاريخه، ولكن فى صحيفة أو اثنتين..
إن المقارنة هنا مؤلمة.. فهل نحن لا نزال نعتمد فى مادتنا الصحفية على ما يأتى من الخارج، ثم إن بعض الأقلام الصحفية غير مزودة حتى الآن بما يستحق النشر عن أركان تاريخنا. أم هى الاهتمامات الصحفية عند بعضنا لها طابع آخر..؟
قد يتعذر الكتاب المحدثون بأنهم لم يعاصروا نشاط عزيز المصرى وأنا أيضاً، بل وربما أساتذتى أيضاً لم يعاصروا هذه الفترة. لكننا نشأنا وفى أسماعنا الشىء الكثير عن عزيز ولو لم نجد هذا الشىء فى أسماعنا فإن من واجبنا أن نرجع إلى المراجع التى تحدثنا حديث الذين كان لهم أثر بالغ فى تاريخنا حتى لا تقصر أقلامنا عما تستطيع أقلام غيرنا أن تطاله عن أبطال أو شبه أبطال تعتبر بطولاتهم بطولة طفلة بالنسبة لما قام به عزيز المصرى.
ولو لم يكن عزيز المصرى بطلا من أبطال تاريخنا لما ذهب جمال عبدالناصر، رئيس الجمهورية، ليشترك بنفسه فى تشييع جنازته. فأغلب الظن أن السيد الرئيس لم يذهب ليعزى شخصاً نعرفه من أسرة عزيز المصرى.. واليقين أن عزيز لم يكن يوم مات أحد الرسميين الذين يقتضى العرف أن يسير رئيس جمهورية بنفسه وراء نعشه، إنما كان الأمر كله تقديرا لبطولة رجل كانت البطولة الوطنية صديقة بكل حياته. ■ ■ ■ أما الصحفى الشاب فهمى هويدى فقد أعد تحقيقا مصوراً رشيقا للصفحة الأخيرة فى الأهرام والتى كان يشرف عليها كمال الملاخ فى عدد 22 يونيو- أى بعد وفاته بخمسة أيام فقط- حول وصية عزيز المصرى كتب فيه:
بين سجلات الشهر العقارى وصية كتبها عزيز المصرى فى يناير عام 1960، وجهها إلى «رجال الدولة وكل من يهمه الأمر»، وهب فيها كل منقولات بيته إلى سيدة تحمل اسم: زينب خير الله، بعد ذلك بسنتين – فى يناير 62- سجل عزيز المصرى وصية أخرى طلب فيها أن تدفن إلى جواره فى المقبرة التى أقامها لنفسه بجبانة المجاورين، نفس السيدة، زينب خير الله.
والذين عرفوا عزيز المصرى طوال الـ33 عاماً الماضية، لم يكن يستقبلهم فى بيته غير وجه هذه السيدة، تستقبلهم وتقودهم إلى حجرته، ثم تودعهم وتعود لترعى الرجل الذى عرف الوحدة منذ سفر زوجته الأمريكية وابنه عمر فى عام 1935. ولقد كانت زينب ـ هى الأخرى تعانى من الوحدة التى علمتها الصمت والانطواء منذ ولدت ولم تر أباها، ومنذ ذلك الوقت الذى لم يكتب لها التوفيق فى زواجها، غير أن مجرى حياتها تغير عندما جاءوا بها إلى منزل عزيز المصرى فى عام 1932، لتعلم ابنه الصغير اللغة العربية. لكن الابن وأمه سافرا بعد ثلاث سنوات، وبقيت زينب مديرة لبيت عزيز المصرى، ثم أصبحت كاتمة أسراره وموضع ثقة، وفى أشد لحظات حياة عزيز المصرى حرجا. لم يكن يجد بجواره غير صديقة عمره زينب.
فى السجن كانت تأتى بالطعام إليه كل يوم. وفى المرض كانت تسهر الليل بطوله إلى جانبه. وعندما عين سفيراً لمصر فى موسكو عام 52 كانت زينب خير الله ـ وحدها- رفيقة رحلته وغربته ثم مات عزيز المصرى ولم يترك سوى معاش شهرى 88 جنيهاً، ورصيد فى أحد البنوك لا يتجاوز 500 جنيه وسيارة شيفورليه 55 يقودها عجوز اسمه مختار، لكن أكثر ما تعتز به زينب خير الله، شريط مسجل بصوت عزيز المصرى يحمل كلمات كلها وفاء لصديقة العمر. لا شىء غير الشريط يدور الآن فى البيت الذى خيم فيه الصمت فجأة، ومع كلمات الرجل الغائب تتساقط دموع زينب خير الله بغير انقطاع. ■ ■ ■ وتنتهى مسيرة عزيز المصرى بدفنه فى مقبرته.. الخبر المنشور فى الصحف فى يوم تشييعه، أن الرئيس عبدالناصر والمصريين شيعوه فى جنازة عسكرية بحضور كبار رجال الدولة، وأنه دفن فى مقبرته التى بناها لنفسه فى مقابر الخفير.
يكتب السياسى والصحفى محمد صبيح- صديق عزيز المصرى- فى خاتمة كتابه «بطل لا ننساه» أنه فى الهزيع الأخير من حياة هذا الرجل العظيم، تنبه إلى أنه لا يملك مدفنًا، يؤوى رفاته بعد وفاته، مخاطبا فى هذا الشأن أحد تلاميذه، السيد صلاح الدسوقى، محافظ القاهرة وقتها، الذى سارع بتقديم قطعة صغيرة من الأرض (60 متراً) فى مقابر الخفير بالقاهرة، فأقام عزيز المصرى عليها مدفنًا متواضعًا، وفى جانب منه على يسار الداخل إلى الضريح أنشأ أيضًا مدفنًا لخادمته زينب.
قصدت مقابر «الخفير» مستعينًا بالخبر والتفاصيل التى ذكرها «صبيح» ومستعينًا بباحث متخصص فى «الجبانات المملوكية» وأبرزها «الخفير» وهو الأستاذ مختار الكسبانى، الذى حالت ظروفه الصحية أن يأتى معنا. وصلنا إلى مقربة من الوصف الذى حصلنا عليه.. استعنا بالأهالى الذين يعيشون فى المقابر «المجاورين». لجأنا إلى أكثر من «تُربى» وإلى كبرائهم فى المهنة، ثم تواصلنا مع قسم شرطة الجمالية الذى تتبعه مقابر «الخفير» بلا جدوى.. فشلنا فى الوصول إلى مكان المقبرة وتكررت زيارتى مرة أخرى- آخرها قبل نشر هذه الحلقة بيومين فقط. معلومات متضاربة عن مقبرة «عزيز المصرى» بأنها هناك ولكن لا وسيلة للوصول إليها. فمن قائل إنها قد تكون قد سُرقت بواسطة «التربية» وسكنها آخرون، أو أذيلت «الرخامة»! التى تحمل هوية صاحبها وتاريخ وفاته، حيث لا يسأل عنه أحد. وهناك رأى آخر عندى أنه قد تكون أزيلت بعد ذلك بسنوات محدودة عندما قامت الدولة بشق الطرق للوصل بين طريقى «صلاح سالم» و«الأوتوستراد». لاحظت إهمالاً وغيابًا تامًا للدولة فى هذه المنطقة، حيث مقابر العظماء من أمثال طلعت حرب وعمر مكرم فى قبضة «التربية».
مات «عزيز المصرى» أبوالثوار العرب.. الأب الروحى للضباط الأحرار ولثورة يوليو، بعد ثلاثة شهور فقط من الوفاة الغامضة لملك مصر الأخير فاروق فى روما. دُفن فاروق فى مقبرة العائلة العلوية الملحقة داخل مسجد الرفاعى إلى جوار عائلته، وذلك بضغوط سعودية مع عبدالناصر فى ذلك الوقت. ولم تهتم بخبر وفاته الصحافة فى ذلك الوقت. لكن بقى له ضريح معلوم. أما «عزيز المصرى» فاهتم به الجميع ولكن أصبح قبره مجهولاً. مؤرخ كبير كتب لى تعليقًا قصيراً وأنا أسأله عن معلوماته عن قبر عزيز المصرى.. وهل يملك ما يفيدنا فى هذا الشأن وقلت له إن الثابت عندى أنه فى «مقام الخفير» على بعد خطوات من طريق صلاح سالم، ولما كان المؤرخ الكبير لا يملك معلومة تنفعنى وأراد أن يخفف عنى، قال لى: أحد القادة المغمورين والذى لم يقدم أى شىء يذكر للثورة وأقصد «صلاح سالم» يحصل على كل هذا التكريم بإطلاق اسمه على أهم شوارع القاهرة، حيث رئاسة الجمهورية وأهم الوزارات والهيئات.. بينما أبوالثوار قبره مجهول!!