إذا تلكّأ واستمر في تردده في تطبيق اتفاق واشنطن للسلام، فإن يهوديًا متطرفًا سيغتاله ظنًا من المتطرفين أن مثل هذا العمل الإجرامي سيقضي على عملية السلام.
بسام أبو شريف يتنبأ باغتيال إسحق رابين قبل أربعة أشهر من اغتياله
في أوقات الحروب والصراعات، تغدو الاستقطابات بين المواقف قاتلة، لكن المفارقة البائنة التي تجمع بطلي هذه الحكاية هي أن إيمانهما بالسلام عرضهما لمخاطر أكبر مما عرضتهما الحرب لها، على أن قصة إيمان كل منهما بالسلام مختلفة أشد الاختلاف عن الآخر.
وهذا الكتاب الفريد تجربة رائدة، كونه عملًا مشتركًا بين «عوزي محنايمي»، ضابط الاستخبارات الإسرائيلي السابق والصحفي، و«بسام أبو شريف»، المتحدث السابق باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ومستشار الراحل «ياسر عرفات»، يروي فيه كل منهما تجربته الخاصة والجزء الذي عاشه من قصة الصراع، وصولًا إلى لحظة النضج والتحول إلى الإيمان بالسلام.
أحدث الكتاب ضجة ليست هينة عند صدوره في بريطانيا للمرة الأولى بعنوان «مطعمون بالنار»، ثم نُشر في نيويورك بعنوان «أفضل الأعداء»، وتُرجم إلى عدة لغات ونُشر في 15 دولة ليس من بينها «إسرائيل»، وكان أحد أكثر الكتب مبيعًا في الولايات المتحدة.
عوزي.. الجذور
يبدأ «عوزي محنايمي» سرد روايته الخاصة بسيرة الجد «شالوم»، المهاجر الليتواني الذي حط رحاله في فلسطين عام 1912، كسيرة مثالية نموذجية لليهودي الجديد المنعتق من أغلال اللاسامية الأوروبية، ولإنسان العصر الحديث الغربي كما يرى هذا الغربي نفسه، المغامر، المندفع، الرائد في غزو القفار الموحلة وتحويلها إلى جنان عامرة.
لم يكن ثمة مفر أمام «جدعون»، والد «عوزي»، وأقرانه سوى أن يصيروا محاربين، فالتحق عام 1946 بمنظمة «بن غوريون» الطليعية المقاتلة؛ «الهاجاناه»، وفي صفوفها خاض «جدعون» مع الرفاق معارك طرد السكان العرب قبل وأثناء حرب 1948.
في الدولة الجديدة، صار «جدعون» ضابطًا بجهاز الاستخبارات التابع للجيش الإسرائيلي، وحيث وُلد «عوزي» لعائلة عسكرية أبًا عن جد، ومن العوائل الرائدة المؤسسة للدولة، كان عليه بدوره أن يحمل الراية ويكمل مسيرة خدمة آل «محنايمي» في الجيش.
تخرج «عوزي» بسلاح المشاة، وبينما كان يخوض دورة تدريبية بناءً على طلبه ليلتحق بالاستخبارات العسكرية مثل أبيه، وقع الهجوم المصري السوري المباغت في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973، ثم أُرسل للتدرب في مدرسة داخلية تابعة لاستخبارات الجيش على تجنيد العملاء العرب.
كانت تلك المرة الأولى واللحظة الأولى التي يحتك فيها «عوزي» بالمجتمع والثقافة العربيين، وقد أحدثت فترة التدريب تلك هزة في أعماق الضابط الشاب، الذي اطلع على التاريخ والثقافة العربيين كجزء من تدريبه، وراح شيئًا فشيئًا يتبين مدى مغالطة الصورة الذهنية المرتسمة في ذهنه كإسرائيلي عن العرب، وإن لم يؤد ذلك إلى تعاطف كبير معهم أو يحُل دون أدائه مهمته في تجنيد العملاء منهم.
بيروت.. التحول
على أن القشة التي قصمت ظهر «عوزي» وغيرت موقفه بشكل جذري من الصراع العربي الإسرائيلي كانت عملية الاجتياح الإسرائيلي للبنان وصولًا إلى بيروت في يونيو/حزيران 1982، فحينها تبين «عوزي» كيف كانت قيادة الجيش تخدعهم بشأن هدف هذه الحرب، زاعمة أنها مخططة لإزالة قواعد الفدائيين الفلسطينيين في الجنوب اللبناني، ثم اتضح أن وزير الدفاع «آرييل شارون» كان يضمر نيته ارتكاب مذبحة جنونية لا تفرق بين عسكري ومدني، أو بين فلسطيني ولبناني.
استقال «عوزي» من السلك العسكري في 1984، وقرر العمل بالصحافة مسلحًا بنظرة جديدة ومختلفة تمامًا تجاه العرب والصراع الإسرائيلي معهم، فحصل في البداية على وظيفة مراسل بجريدة «عل همشمار»، ثم تلقى عرضًا بعد ثلاث سنوات ليعمل محررًا لشئون الشرق الأوسط بصحيفة «يديعوت أحرونوت»، كبرى صحف إسرائيل وأوسعها انتشارًا.
من موقعه الجديد، راح الصحفي «عوزي» المقتنع بمبادئه الجديدة يسعى للقاء أي من قيادات منظمة التحرير الفلسطينية، وهو ما كان مُجرّمًا في القانون الإسرائيلي وقتها، وما جر على «عوزي» سيلًا من النقد والتجريح، سواء من زملائه في الصحافة أو رفاقه ورؤسائه القدامى في الجيش، لكنه تجاهل كل ذلك وتمكن، بمساعدة صديقته الصحفية بجريدة «صنداي تايمز» البريطانية «ماري كولفن»، من تدبير لقاء بـ «بسام أبو شريف» في لندن عام 1988.
رسخ لقاء «أبو شريف» قناعات «عوزي» الجديدة حول الفلسطينيين والسلام، لكنه كان يتوق إلى تحقيق اختراق أكبر على المستويين المهني والسياسي، وما من اختراق في هذا الوقت بالنسبة لصحافي إسرائيلي أكبر من لقاء «ياسر عرفات».
والواقع أن «عوزي» لم يستطع تدبر أمر لقاء «أبو عمار» سوى في أكتوبر/تشرين الأول 1991، ولأنه اعتبر ذلك ذروة الانتصار المهني، فضّل بعدها التقاعد من العمل الصحافي.
بسام
لا يخبر «بسام أبو شريف» بالكثير عن ظروف مولده عام 1946 ونشأته، وما يقوله إنه سليل عائلة فاطمية مقدسية عريقة أخرجت أجيالًا من العلماء وأئمة الدين والوجهاء، لكن أسرته انتقلت للعيش في مدينة إربد الأردنية بعد عام من مولده، ثم استقرت في عمان في 1951.
ولما انفجرت حرب السويس عام 1956 بينما كان الطفل «بسام» في العاشرة، بدأت أسئلة الهوية والوطن تراوده، وافتتن بزعامة جمال عبد الناصر، معلقًا عليه أحلامه الطفولية الصغيرة في تحرير الأرض والعودة، فشب على أدبيات القومية العربية التي تبشر بوحدة العرب من المحيط إلى الخليج، وآمن بها كبديهة.
انتقل الفتى «بسام» إلى بيروت ليدرس بالجامعة الأمريكية عام 1963، وهناك انضم إلى حركة القوميين العرب بالجامعة الأمريكية بزعامة «جورج حبش». وفي ذات اليوم الذي حصل فيه «بسام» على درجة الماجستير في الاقتصاد، في الخامس من يونيو/حزيران 1967، كانت الطائرات والمدرعات الإسرائيلية تسحق الجيوش العربية، مُحيلة ثقته بالأنظمة العربية ومسئوليتها عن تحرير فلسطين إلى سراب.
في الأردن شارك «بسام» في تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مع «حبش» و«وديع حداد» وآخرين، وأصبح نائب «غسان كنفاني» في رئاسة تحرير مجلة «الهدف»، الناطقة باسم الجبهة، ثم غدا وجهه مألوفًا ومشهورًا بظهوره أمام كاميرات الصحافة العالمية لعرض مطالب الجبهة الشعبية في مرحلة خطف الطائرات الغربية، التي بدأتها الجبهة عام 1967 بتخطيط من «وديع حداد»، الذي يسهب «بسام» في الحديث عنه ووصف مدى صلابته ودهائه.
الحادث.. التحول
في الثامن من يوليو/تموز 1972، اغتالت الاستخبارات الإسرائيلية «غسان كنفاني» بتفخيخ سيارته، فخلفه «بسام» في رئاسة تحرير مجلة «الهدف» وكمتحدث رسمي باسم الجبهة الشعبية، ثم بعد أسبوعين جاء دور «بسام» ذاته ليكون هدف عملية الاغتيال الإسرائيلية التالية، فاستقبل في مكتبه ببيروت مظروفًا بداخله كتاب عن «تشي جيفارا»، وما إن شرع في تصفحه حتى انفجرت عبوتان ناسفتان خُبئتا في تجويف مصنوع داخل صفحاته، لكن لم تكن ساعته قد حانت بعد.
عندما أفاق داخل المستشفى بعد عدة أيام، أدرك أن الانفجار لم يترك بوصة سليمة في جسده تقريبًا سوى عقله، إذ فقد عدة أصابع من كفيه، وبصر إحدى عينيه، وسمع إحدى أذنيه، واخترقت شظايا صدره وبطنه ورجله، بجانب التشوهات التي أصيب بها في وجهه، واستغرق منه الأمر شهورًا حتى تعافى من إصاباته، كما أُجريت له جراحات تجميل لإزالة التشوهات.
على أن الأثر الأكبر الذي تركه هذا الحادث في «بسام» كان أعمق بكثير من جروح جسده، إذ راجع مواقفه في فترة التفرغ التي أتاحها له الاستشفاء من أثر الحادث، وجعله التعرض المباشر للعنف يفطن إلى أن القوة وحدها أداة عقيمة، وأنها يجب أن توضع في خدمة هدف عقلاني، كما أدرك أنه، طال الأمر أو قصر، سيجد الفلسطينيون أنفسهم يومًا ما لا محالة جالسين إلى موائد التفاوض مع الإسرائيليين.
كان «بسام» من أوائل من آمنوا بحل الدولتين، كأفضل المتاح لشعب مشتت ليس بوسعه تحرير الأرض من النهر إلى البحر، ولا يستطيع التعويل على أمة عربية مشرذمة تحكمها أنظمة استبدادية انتهازية، لكنه لم يفصح من فوره عن تلك التحولات الجذرية في قناعاته، حتى وجد الفرصة في دورة المجلس الوطني الفلسطيني عام 1974، التي طُرح فيها البرنامج المرحلي القاضي بإنشاء دولة فلسطينية على أي مساحة تُحرر من أرض فلسطين.
والواقع أن هذا الاتجاه الأخير الذي آمن به «بسام»، آمن به آخرون غيره في صفوف منظمة التحرير أو خارجها، وعلى رأسهم «ياسر عرفات» نفسه، لكن الجرأة نادرًا ما كانت تواتي أحدهم ليفصح عما يجول بعقله، أما «بسام أبو شريف» فكان أقرب إلى العملية واختصار الوقت، فلم يطل كتمانه بالذات بعد طرح البرنامج المرحلي في 1974.
جر ذلك عليه الكثير من النقد والتجريح والتشكيك بوطنيته، حتى أن الجبهة الشعبية نحّته في 1978 من رئاسة تحرير مجلة الهدف، وكلفته بوظيفة روتينية أخرى كنوع من النفي، وذلك بعدما صرح بأن الفلسطينيين يمكنهم حذو حذا مصر في عقد اتفاق مع إسرائيل على غرار اتفاق كامب ديفيد.
وفي يناير/كانون الثاني 1982، طلب شاب لبناني غامض لقاء «بسام» ومنحه وثائق وخرائط تبين خطة إسرائيل لغزو لبنان صيف هذا العام، وبُح صوت «أبو شريف» كي يقتنع أي شخص من منظمة التحرير بأن هذه الوثائق والخرائط حقيقية دون جدوى، إلى أن وقع الغزو فعلًا في الموعد الذي حذر منه، وترتب عليه خروج الثورة الفلسطينية من لبنان.
الوثيقة.. الطريق إلى أوسلو
مصافحة يد «حسني مبارك» التي كانت من أكبر الكبائر لدى جبهة الرفض العربية والفلسطينية حررت «بسام» من قيد الجبهة الشعبية، فبينما كان يرافق «عرفات» في عودته من زيارة لأديس أبابا عام 1987 توقفا في القاهرة، وما إن بثت الشاشات مصافحتهما للرئيس المصري المستمر على نهج سلفه في التطبيع مع إسرائيل، حتى قررت الجبهة الشعبية فصل «بسام» فورًا.
منذ حينها، اختار البعد عن العمل التنظيمي والفصائلي، مفضلًا العمل كمستشار شخصي لـ«عرفات»، الذي كان ممتنًا لدعم «بسام» العلني له وقت أن نبذه الجميع بعد خروجه من لبنان، فاعتمد عليه كمبعوث دبلوماسي شخصي ومتحدث إعلامي باسمه وكاتب لخطاباته، خاصة في مرحلة الانتفاضة الأولى التي استثمرها الرجلان كرافعة وقوة دفع لحملتهما من أجل إقناع إسرائيل والغرب بالاعتراف بحقوق الفلسطينيين والتفاوض معهم.
وفي مايو/أيار 1988، طرح «بسام» ما عُرف بـ«وثيقة أبو شريف»، بلور فيها ملامح واضحة لحل الدولتين، وتبناها المجلس الوطني الفلسطيني في دورة نوفمبر/تشرين الثاني 1988 الشهيرة بالجزائر، التي أعلن فيها قيام الدولة الفلسطينية، وفي الشهر ذاته بدأ «بسام» فتح قناة اتصال سرية غير مباشرة مع الإسرائيليين بوساطة سويدية، وهي القناة التي تطورت إلى قناة أوسلو برعاية النرويج، وتمخضت عن الاتفاق الذي حمل الاسم ذاته.
مصدر