كيم روزفلت مهندس الانقلابات الأمريكية في الشرق الأوسط
عاد اسم ضابط المخابرات الأمريكية كيم روزفلت يتردد في الصحافة العربية مجدداً على ضوء الوثائق الأمريكية التي أفرج عنها أخيراً، والتي أكدت دوره ودور بلاده في انقلاب 1953 في إيران، بعد أن ظلت تلك التفاصيل متداولة لسنوات عبر مصادر استخباراتية، قبل أن تعترف أمريكا بما جرى.
وتعتبر مسيرة كيرميت روزفلت الابن (1916-2000) من أهم المحطات لفهم علاقة واشنطن بالشرق الأوسط بوجه عام. هو حفيد الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت، وشارك في الحرب العالمية الثانية وسرعان ما ظهرت قدراته في التخطيط الإستراتيجي فاختير ضمن فريق عسكري خطط لغزو إيطاليا إبان الحرب.
وعقب انتصار أمريكا، التحق روزفلت بوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وشكل مع مجموعة من ضباط الجهاز فريقاً سياسياً لا تعرف الأجيال الجديدة عنه شيئاً اليوم.
يرصد مؤرخ شؤون الاستخبارات هيو ويلفورد Hugh Wilford في كتابه "لعبة أمريكا العظمى: المستعربون السريون لوكالة الاستخبارات المركزية وتشكيل الشرق الأوسط الحديث" الصادر عام 2013، هذا التيار الذي نشأ داخل الاستخبارات الأمريكية، والذي تسبب في صراع مؤسسات جرى في أمريكا ما بين حربي 1948 و1967.
والحاصل، وفقاً لويلفورد، أن انشقاقاً وقع في واشنطن أواخر الأربعينيات حول كيفية التصدي للزحف الشيوعي على الشرق الأوسط، بينما كان العالم منقسماً إلى كتلة شرقية بقيادة الاتحاد السوفياتي، وكتلة غربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
وكانت دول الشرق الأوسط خارج أي حلف سياسي ودون توجه واضح نحو إحدى الكتلتين، وهكذا بدأ التنافس بين القوى العظمى على هذه البقعة، في واحد من أسخن فصول الحرب الباردة.
وفي ثنايا المعسكر الغربي، كان هنالك صراع آخر حول تصفية الاستعمار القديم ممثلاً في بريطانيا وفرنسا وتسلم أمريكا لزعامة العالم، وفي هذا الإطار لم يكن لدى الأمريكيين مانع من الوجود في معسكر واحد مع السوفيات في بعض الأحيان.
وكان في دوائر القرار الأمريكي فريقان، الأول يرى أن القومية العربية يمكن استخدامها ضد الشيوعية العربية، وأن التيار العروبي ليس مضاداً للأجندة الغربية بالشكل الأيديولوجي للشيوعية ويمكن التعاون معه كما تعاونت بريطانيا عبر لورانس العرب مع أنصار القومية العربية في الثورة العربية الكبرى عام 1916.
وكان هذا الفريق يرى أن الانقلابات الثورية الجارية في الشرق الأوسط تفرمل الدساتير الليبرالية بما يقطع الطريق أمام الشيوعيين للوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، كما تُخرج النخب الموالية لفرنسا وبريطانيا من المعادلة السياسية إلى كتب التاريخ.
في المقابل، كان الرأي الثاني يعتبر أن القومية العربية والشيوعيين العرب فريق واحد، وأنه من الأفضل البحث عن حلفاء آخرين، وأن الإسلام السياسي هو البديل الآمن عن القومية العربية في مواجهة المد الشيوعي ورأس حربته الشيوعيين العرب.
انطلق كلا الفريقين في تنفيذ رؤيته ومحاولة فرضها على البيت الأبيض، فقامت الاستخبارات الأمريكية بتأسيس مجموعة "أصدقاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط" عبر روزفلت، وهم مجموعة من الساسة والمثقفين الأمريكيين الذين حاولوا التأثير على الرأي العام والنخبة السياسية الأمريكية لدفعها إلى التعاون مع العرب.
والهدف كان تخفيف تأثير اللوبي الصهيوني في أمريكا، فقد كان روزفلت يرى أن قيام إسرائيل يوفر بيئة خصبة لانتشار الاشتراكية والميل للسوفيات لدى العرب.
ظلت تلك المنظمة تتلقى تمويلاً من الاستخبارات الأمريكية سراً ما بين عامي 1951 و1967 إلى أن خمد هذا التيار وأيقن أن مصلحة أمريكا لن تكون إلا مع الطرف المنتصر في يونيو 1967.
سوريا... الصداع الأمريكي الدائم
وعقب نهاية الحرب العالمية الثانية كانت سوريا أقوى الدول المرشحة للسقوط في الحكم الشيوعي، بما فيها من تيار شيوعي قوي وتيار قومي عربي قريب من الشيوعية والسوفيات، وكانت أولى محطات روزفلت ورفاقه في سوريا تدبير انقلاب حسني الزعيم، فرد البريطانيون بانقلاب سامي الحناوي، ثم رد الأمريكيون مجدداً بانقلاب أديب الشيشكلي، لتشهد سوريا ثلاثة انقلابات عسكرية عام 1949 قضت على تجربة التداول السلمي والبرلماني للسلطة في دمشق حتى اليوم.
وكان هنالك صراع أمريكي بريطاني للسيطرة على سوريا، ولكنهما الدولتان اللتان كانتا تتشاركان هدف تكوين حكومة سورية غير شيوعية لتكون حائط صد ضد السوفيات.
روزفلت وثورة يوليو المصرية
وبحلول عام 1951، دخلت مصر حالة من الفوضى السياسية، وبدأ المجتمع الدولي يبحث عن بدائل للنظام المصري الملكي شريطة ألا يكون شيوعياً.
وفي هذا السياق، تم إيفاد كيم روزفلت إلى القاهرة لمقابلة ممثلين عن عدد من الحركات السرية والأحزاب، لاستطلاع الآراء حول الموقف العام.
حينما قابل روزفلت عدداً من شباب تنظيم عسكري سري يدعى الضباط الأحرار، كتب أن هذا التنظيم قد يقوم بانقلاب عسكري خلال الفترة المقبلة وأنه حال اندلاع هذا الانقلاب، لا يجب على أمريكا أو بريطانيا الوقوف ضده، لأن أغلب عناصره مؤيدون للقومية العربية بعيداً عن المحور السوفياتي، وسوف يقومون بتعطيل الدستور الليبرالي ما يمنع وصول الشيوعيين إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع.
في تلك الفترة، كان مراد غالب المدني الوحيد في تنظيم الضباط الأحرار قبل الثورة، وشغل لاحقاً في الستينيات من القرن الماضي منصب مستشار الرئيس جمال عبد الناصر وسفير مصر في الكونغو والاتحاد السوفياتي، وفي عهد السادات أصبح سفيراً في يوغوسلافيا ووزيراً للخارجية ثم الإعلام.
كتب غالب في مذكراته المنشورة بعنوان "مع عبد الناصر والسادات... سنوات الانتصار وأيام المحن" أن تنظيم الضباط الأحرار قبل يوليو 1952 تواصل مع السفارتين الأمريكية والسوفياتية، رداً على بعض الأسئلة حول توجه التنظيم حال توليه السلطة، وأنه سعى إلى طمأنه القوى الدولية خلال هذه الاتصالات حتى لا يفاجأ بمعارضة دولية للحركة المنتظرة.
وأضاف غالب في حوار مع جريدة الأهرام عام 2002 أن السوفيات صنفوا ثورة يوليو في بادئ الأمر بأنها صناعة أمريكية حتى عام 1955 حينما بادر ناصر إلى الاتصال بهم.
ولعل هذا الأمر يفسر الهدوء الأمريكي حيال 23 يوليو 1952 وعدم نزول الجيش البريطاني من إقليم قناة السويس لقمع الثورة، ورفض لندن وواشنطن الاستجابة لنداء الملك فاروق بالتدخل. فقد انتصرت رؤية روزفلت في القاهرة بوصول زمرة شباب من الجيش لديهم أجندة سياسية تنهي الفوضى في مصر بما يجنبها السقوط في أيدي الشيوعيين.
روزفلت وعبد الناصر
على عكس شعارات المقاطعة والعنتريات التي تنسب للتيار الناصري اليوم، لم يغلق الزعيم جمال عبد الناصر الباب يوماً أمام أمريكا، في تحرك يوضح قدرته الدبلوماسية منذ أيامه الأولى في السلطة.
وجرب عبد الناصر أن يطلب من واشنطن السلاح لإعادة تأهيل الجيش عقب نكبة 1948، وبعض المساعدات الاقتصادية، وطلب عدم قيام إسرائيل بأعمال استفزازية في هذه المرحلة الانتقالية.
ولكن تحرك سريعاً التيار المناوئ لفكرة روزفلت بالتعاون مع القوميين العرب في إدارة الرئيس دوايت أيزنهاور والمطالب بالتعاون مع إسرائيل، بهدف نسف العلاقات المصرية الأمريكية الوليدة، خصوصاً مع تعدد زيارات روزفلت للقاهرة والتباحث مع الرئيس محمد نجيب ونائبه عبد الناصر.
تحملت إسرائيل مسؤولية تعكير العلاقات بين القاهرة وواشنطن، إذ خطط وزير الدفاع بنحاس لافون صيف 1954 لسلسلة تفجيرات إرهابية تضرب مصالح أمريكية وبريطانية في مصر، ولكن الأمن المصري كشف الخلية الإرهابية في فضيحة عالمية أدت إلى استقالة الوزير الإسرائيلي.
هنا لجأت إسرائيل إلى الحل الإرهابي المعتاد. قاد أرييل شارون الجيش الإسرائيلي لمهاجمة قطاع غزة الذي كان تحت الإدارة المصرية وقتذاك، ثم أتت غارة 28 فبراير 1955، ليقتل 38 جندياً مصرياً ويصاب 37 آخرين، وسط غضب الشعب المصري لعدم رد القيادة العسكرية، وغضب عبد الناصر لعدم تسليح الجيش بالقدر الكافي.
أدرك عبد الناصر أن روزفلت ليس واسع النفوذ في إدارة ايزنهاور، وأن وزير الخارجية جون فوستر دالاس فرض رؤيته، فقرر التوجه إلى الاتحاد السوفياتي طلباً للسلاح، ولما ردت واشنطن على التصعيد المصري برفض تمويل السد العالي عبر البنك الدولي، قام عبد الناصر بتأميم شركة قناة السويس الفرنسية.
ورغم أن أمريكا كانت ترى ضرورة معاقبة وتأديب عبد الناصر، إلا أن العدوان الثلاثي كان هدية على طبق من ذهب للأمريكيين والسوفيات على حد سواء، لإخراج بريطانيا وفرنسا من الصراع الدولي. وعبر الإنذارات الأمريكية والسوفياتية، خرجت بريطانيا وفرنسا ليس من الأراضي المصرية فقط بل من الشرق الأوسط، ما ساعد روزفلت على تنفيذ انقلاب 1957 في الأردن والذي أدى إلى خروج القوات البريطانية من الأردن بمباركة الملك الحسين.
وكان روزفلت من مهندسي القرار الأمريكي بعدم الانخراط مع بريطانيا وفرنسا في العدوان الثلاثي، ورأى أنها فرصة لحسم الصراع بين القوى القديمة والجديدة وإفساح المجال للأمريكيين لمقارعة السوفيات دون إملاءات فرنسية أو بريطانية.
وهكذا أنهى أيزنهاور سنوات حكمه مقتنعاً بفكرة روزفلت بل كان الرئيس الأمريكي الوحيد الذي قابل عبد الناصر أثناء زيارة الزعيم المصري الوحيدة لأمريكا عام 1960 لحضور اجتماعات الأمم المتحدة.
كينيدي تلميذ روزفلت
ورغم تقاعد روزفلت ورفاقه عن العمل الاستخباراتي أواخر الخمسينيات، إلا أن رؤية روزفلت ظلت جزءاً من الصراع داخل المؤسسات الأمريكية في سنوات الرئيس جون كينيدي، فقد كان الأخير مؤيداً لهذه الرؤية، وقد اعترف بحكومة الثورة في اليمن الموالية للقاهرة، كما أرسل إلى مصر مساعدات اقتصادية من القمح وبعض السلع الأخرى.
ولكن أتى اغتيال كينيدي لتحسم المجموعة المناوئة لرؤية روزفلت صراع التوجهات داخل المؤسسات الأمريكية، وفرضت النظر إلى القومية العربية والشيوعية كوجهين لعملة واحدة واعتبار أنه يجب الاعتماد على إسرائيل بنسبة 100% في الشرق الأوسط.
قطع خليفة كينيدي، الرئيس ليندون جونسون، المساعدات الاقتصادية الأمريكية عن مصر ورتب سلسلة من الانقلابات داخل الدول المؤثرة في منظمة دول عدم الانحياز، ثم أتى الإجهاز على ناصر في 1967، ويقول المؤرخ الأمريكي ويلفورد إن واشنطن تعتبر أن القومية العربية انتهت ودفنت في يونيو 1967.
اعتراف أمريكي بالهزيمة
ومع ذلك، يعترف المؤرخ الأمريكي أن واشنطن في فترات التوتر مع مصر حاولت اغتيال عبد الناصر 12 مرة، منها مرتان بالتنسيق مع تنظيم الإخوان المسلمين، وأن واقعة محاولة رشوة ناصر بثلاثة ملايين دولار عبر روزفلت كانت واقعة حقيقية، وهو المبلغ الذي استخدمه ناصر في تشييد برج القاهرة أو "وقف روزفلت" كما يطلق عليه في أروقة الـCIA اليوم للسخرية من روزفلت ورفاقه.
مصدر