مرّت ألمانيا النازية بأوقات عصيبة خلال السنة الأخيرة من الحرب العالمية الثانية (1944). في ذلك الحين كان من النادر وجود الرجال القادرين على مخالفة قرارات الفوهرر (أدولف هتلر)، حتى بإبداء رأي شفهي، وكانت ألمانيا تسير بثبات نحو الهاوية والخراب. في ظل هذاالمسار الانحداري رأى البعض أن الحلّ هو بالتخلّص من هتلر. ولكن كيف؟ ومن سيجرؤ على هكذا فعل؟
الوضع
كان النظام النازي قد وضع في الحسبان احتمال حصول انقلاب، أو قيام ملايين العمال الأجانب الذين يعملون بالسخرة في المصانع الألمانية بالعصيان، أو نجاح ضربات الحلفاء الجوية بتعطيل منظومة القيادة والاتصال، فتفقد بذلك الحكومة الألمانية السيطرة على البلاد.
في هذا الإطار كانت خطة الطوارئ فالكيريOperation Valkyrie- Operation Walküre، والتي قضت بتولي جيش الاحتياط الألماني، الذي كان النازيون قد أعدّوه ودرَّبوه، زمام الأمور في البلاد.
ويعود أصل العبارة Valkyrie إلى الأساطير التي كانت القبائل الجرمانية الشمالية تؤمن بها، وفحواها، هبوط امرأة مجنَّحة من السماء، لمرافقة المقاتلين الأبطال الذين يسقطون خلال الحرب إلى الجنة. استوحى عدد من الضباط الألمان من هذه الخطة خطة جديدة قضت باغتيال هتلر، لتخليص الجنود الألمان من قسم الولاء له، ومن ثم اعتقال القيادة النازية ووضع اليّد على مقدرات البلاد.
في الواقع، كان تأثير الهزائم المتتالية التي مُني بها الجيش الألماني قد بدأ يتغلغل في نفوس كبار الضباط ويؤثر في معنوياتهم، بخاصة بعد أن باتوا على قناعة بأن السبب الرئيس لهذه الهزائم هو استئثار الفوهرر وتفرّده بالقرارات المصيرية والحاسمة، مع يقينهم بعدم أهليته لذلك. خشي هؤلاء الضباط من المصير القاتم القادم حتمًا إلى بلادهم، واعتبروا أنه لا مفرّ من التّوصل إلى صلح مع الحلفاء حفاظًا على ما تبقى من مقدرات بلادهم ومقوماتها، لكن إدراكهم لاستحالة إقناع هتلر بذلك، دفعهم إلى العمل على الإطاحة به.
التخطيط
خطَّط عدد من الضباط الألمان، على رأسهم الفريق أول فريدرك أولبرخت واللواء هننغ فون ترشكو والعقيد كلاوس فون شتاوفنبرغ، للاستفادة من خطة فالكيري في سبيل وضع اليّد على البلاد. هدفهم الأساسي كان اغتيال هتلر، اعتقال القيادة النازية والسيطرة على الوحدة الوقائية، تمهيدًا للسيطرة على جميع مفاصل الدولة.
رأس الحربة في تنفيذ المؤامرة كان العقيد شتاوفنبرغ الذي سبق أن شارك في العمليات العسكرية على عدة جبهات، ومن بينها عملية للفيلق الإفريقي في تونس، حيث أُصيب بانفجار لغم في سيارته أفقده عينه اليسرى ويده اليمنى وإصبعين من يده اليسرى، فأُعيد إلى ألمانيا للعلاج. وما أن استعاد نظره جزئيًا، وأتقن الكتابة بثلاثة أصابع، حتى أُعيد للخدمة كرئيس لأركان الجيش الداخلي (الاحتياط). في هذا الوقت كان عدد الضباط الألمان الناقمين على سياسة هتلر في صفوف جيش الاحتياط يتكاثر، فتشكَّلت بذلك أرضية صالحة لتكوين نواة لمجموعة الانقلابيين.
أتاحت الإصابة وقتًا كافيًا للعقيد شتاوفنبرغ للتأمل في الحالة التي وصلت إليها بلاده، فبدأ التخطيط بهدوء وعمق للتخلّص من هتلر ولو كان الثمن حياته. خَلُصَ شتاوفنبرغ إلى نتيجة مفادها إمكان استثمار خطة فالكيري للتخلّص من النظام النازي، وذلك عبر اغتيال هتلر والترويج بأن القيادة النازية قد انقلبت عليه وقتلته، فيتحرك عندها جيش الاحتياط وفق خطة فالكيري لاعتقال أركان القيادة ومحاكمتهم، ويتولى شتاوفنبرغ وشركاؤه الحكم بعد أن يُعلنوا هتلر شهيدًا رسميًا لحركتهم.
بدأ شتاوفنبرغ الخطوات العملية لتنفيذ مبتغاه، وكانت الخطة تقضي بأن يشمل الاغتيال قائد سلاح الجو الجنرال هيرمان غورنغ، وقائد البوليس السري (غستابو) هاينريش هيملر، لإفقاد النظام توازنه. في هذا السياق تدرَّب شتاوفنبرغ على كيفية وصل الفتيل بواسطة كماشة، ليس بيد واحدة فقط، بل بثلاثة أصابع أيضًا، وهذا كان تحديًا كبيرًا يضاف إليه تحدي الوصول إلى مقربة من هتلر، وهو أمر غير سهل التحقّق، وإن تحقَّق تبقى حرية الحركة معدومة.
المحاولة الأولى
أولى محاولات تنفيذ فالكيري كانت في 11 تموز 1944 في مقر هتلر الجبلي «عش النسر» Berchtesgaden في ولاية بافاريا. فقد استُدعِيَ شتاوفنبرغ بصفته رئيس أركان جيش الاحتياط، لحضور اجتماع برئاسة الفوهرر وتقديم عرض عن المهمّات المنوطة بقواته. وصل شتاوفنبرغ برفقة مساعده، وكان كل منهما حاملًا قنبلة جاهزة في حقيبته. كان في نية شتاوفنبرغ أن يدخل إلى قاعة الاجتماعات ويضع القنبلة التي بحوزته، ثم يختلق عذرًا يسمح له بالمغادرة، فيركب السيارة مع مساعده ويتجه إلى المطار عائدًا إلى برلين لوضع خطة فالكيري موضع التنفيذ.
لحظة وصوله إلى «عش النسر»، علم شتاوفنبرغ أن هيملر غائب عن الاجتماع، وهذا لا يتوافق مع شروط تنفيذ الخطة. سبَّب غياب هيملر إرباكًا لشتاوفنبرغ الذي بادر إلى الاتصال بأحد شركائه، الفريق أول فريدرك أولبرخت، وإعلامه بآخر التطورات، فأوعز إليه الأخير بعدم التنفيذ. ليلًا توافق المتآمرون على إسقاط شرط وجود هيملر وغورنغ للتنفيذ، وبات شتاوفنبرغ يتحيَّن الفرصة لتوجيه ضربته.
المحاولة الثانية
في 15 تموز أنجز شتاوفنبرغ جميع الاستعدادات لتنفيذ خطته خلال مؤتمر للفوهرر في مدينة راستنبورغ، لكن هذه المرة عدم التنفيذ كان بسبب إلغاء المؤتمر.
المحاولة الثالثة
بعد خمسة أيام، تحديدًا في العشرين من تموز، لاحت أمام شتاوفنبرغ فرصة جديدة تمثَّلت باجتماع كبير مقرَّر أن يحضره هتلر في مقره «وكر الذئب» (5 كلم شرق راستنبورغ). في الواقع لم يكن أمام المتآمرين متسع من الوقت، فخيوط مؤامرتهم بدأت بالتكشّف بخاصة بعد إلقاء القبض على يوليوس لبير وهو أحد الضالعين، مما يعني أن أمرهم سيفتضح بسرعة، لذا كان لا بد من المبادرة من دون تردد.
وصل شتاوفنبرغ إلى راستنبورغ قادمًا بالطائرة وبرفقته مساعده الملازم فرنر فون هافتن، وبحوزة كل منهما قنبلة مخبأة في حقيبة. كان شتاوفنبرغ يرغب بإدخال القنبلتين إلى قاعة الاجتماع لضمان مقتل جميع الحاضرين، غير أن الدخول إلى مكان تواجد هتلر مع حقيبتين بيد واحدة لا تحوي سوى ثلاث أصابع، لا بد وأن يثير الشبهات، لذا قرَّر إدخال قنبلة واحدة بعدما تلقى تأكيدات من شركائه بأن قنبلة واحدة في مكان مغلق، كفيلة بالقضاء على المجتمعين.
تذرَّع شتاوفنبرغ أمام القائد الأعلى للجيش الألماني، المارشال فلهلم كايتل، برغبته في عرض موضوع الوحدات الجديدة في جيش الاحتياط، ليسمح له بالدخول إلى قاعة الاجتماع. وقبيل دخوله القاعة، أبلغ عامل الهاتف بأنه ينتظر مكالمة مهمة من برلين، ثم تبع كايتل إلى الاجتماع الذي كان قد بدأ بشرح للموقف على الجبهة الشرقية يقدمه الجنرال غلوبز هويزنغر، فاضطر كايتل لمقاطعته ليوضح لهتلر الغرض من وجود شتاوفنبرغ، فرحَّب به هتلر وطلب من هويزنغر متابعة عرضه.
استغل شتاوفنبرغ انشغال الحاضرين بالاستماع لهويزنغر، ووضع الحقيبة بجانب إحدى قوائم الطاولة من جهة أدولف هتلر، وتراجع قليلًا عن الطاولة ثم انسحب من الغرفة. لاحظ كايتل غيابه فخرج في أثره ليطلب منه الاستعداد كون دوره بالكلام قد اقترب، وعندما لم يعثر عليه، قرَّر العودة إلى القاعة لكن الانفجار كان قد حصل. ما أن وقع الانفجار حتى اتجه شتاوفنبرغ ومساعده فون هافتن إلى المطار عائدين إلى برلين، وسارع فور وصوله إلى زفّ خبر مقتل هتلر إلى الفريق أول أولبرخت.
الفشل
لم ينتظر أولبرخت للتأكد من صحة الخبر، بل سارع بدوره بنقله إلى القائد العام لجيش الاحتياط الجنرال فريدريك فروم ليباشر تنفيذ الدور المحدَّد له، غير أن فروم طلب من أولبرخت تأكيد خبر مقتل هتلر قبل المباشرة بتنفيذ الخطة. اتصل أولبرخت بـ«وكر الذئب» متوقعًا أن لا يرّد أحد على الهاتف على اعتبار أنه قد تم عزل المكان هاتفيًا، لكن المفاجأة كانت بسماع صوت كايتل، فسأله فروم عن مدى صحة شائعات حول اغتيال هتلر. أكد كايتل صحة الخبر، لكنه طمأنه إلى أن الفوهرر لم يُصب بأذى، بل أكثر من ذلك، أكد له أن هتلر توجَّه إلى محطة راستنبورغ لملاقاة صديقه موسوليني.
وقعت الصدمة كالصاعقة على رأس أولبرخت، فآخر ما كان يتوقعه نجاة هتلر، إذ كانت كل التحضيرات قد أنجزت لضمان عدم نجاة أي من الموجودين. في الواقع، ما أن وصل شتاوفنبرغ إلى قاعة الاجتماع حتى طلب أن تكون كرسيه أقرب ما يمكن من الفوهرر بحجة ضعف سمعه الناتج عن الإصابة، فأُجلِسَ في مكان لا يفصله عن هتلر إلا شخص واحد. بعد أن غادر شتاوفنبرغ قاعة الاجتماع تاركًا الحقيبة المفخَّخة، تقدَّم ضابط آخر وجلس مكانه، وأبعد الحقيبة ووضعها خلف عمود الباطون الذي ترتكز عليه الطاولة، ووضع حقيبته مكانها.
ساهم عمود الباطون في الحدّ من مفعول العصف والتشظي، وهذا ما أنقذ هتلر وعددًا من الحاضرين، فلم يُقتل سوى أربعة.
أما في برلين فقد سارع المتآمرون للسيطرة على مبنى وزارة الحربية ومقر القيادة العامة للجيش، وباشروا الإجراءات العملية للسيطرة على البلاد، وأعلن الجنرال إروين فون فيتزليبن نفسه قائدًا أعلى للقوات المسلَّحة الألمانية، حتى قبل أن يتمّ التأكد من نجاح محاولة الاغتيال.
بالعودة إلى المكان المستهدف، لم يكن أحد يعتقد أن محاولة لاغتيال لهتلر قد نُفِّذت، بل كانت الشكوك تدور حول نجاح طائرات الحلفاء في إصابة مقر الفوهرر أو قيام بعض عمال السخرة الأجانب بعمل تخريبي. غير أن خطوط المؤامرة لم تلبث أن بدأت بالتكشّف، فسارع شتاوفنبرغ إلى إبلاغ المتآمرين أن الانقلاب لم ينجح. لم يكن أمام المتآمرين خيارات عديدة، ففرَّ بعضهم، ومن لم يتمكن من الفرار أقدم على الانتحار تجنبًا للاعتقال، أما البقية فوقعوا في قبضة الـ«غستابو» قبل غياب شمس ذاك النهار.
الأحكام
في مبنى الـ«غستابو»، حيث تم تجميع المعتقلين، كانت التحقيقات سريعة، وكذلك كانت المحكمة التي تم تشكيلها لمحاكمتهم. أول الأحكام كان الإعدام لكل من: الجنرال أولبرخت، العقيد ميرتز، العقيد شتاوفنبرغ، والملازم هافتن. وقرَّرت المحكمة تنفيذ الحكم فورًا رغم حلول الظلام، فأُنزِلَ المحكومون إلى ساحة المبنى ونُفِّذَ فيهم حكم الإعدام تحت أنوار مصابيح الآليات.
توالت أحكام الإعدام التي أصدرتها تلك المحكمة بحق المتورطين في محاولة الاغتيال الفاشلة خلال الأيام والأسابيع وحتى الأشهر التي تلت. وبذلك انسدلت الستارة على عملية يمكن وصفها بحق بأنها كادت أن تُغيّر مسار الحرب العالمية الثانية.
مصدر