الولايات المتحدة في طريقها إلى الاحتماء بفعالية من سلاح يتعذر تفاديه: الصاروخ الاستراتيجي العابر للقارات. ويترافق هذا التوزيع الاستراتيجي الجديد بنشر صواريخ مضادة قرب الحدود الروسية، وهذا ما أغضب الكرملين.
“إذا قررت بولونيا وجمهورية التشيك قبول النشر (نشر صواريخ أمريكية مضادة للصواريخ)، فإن قواتنا ستتمكن من توجيه صواريخها على هذه الأهداف أيضاً”. هذا التصريح أدلى به في فبراير 2007م الجنرال “نيكولاي سولوفتسوف”، القائد الحالي للقوات البالستية، فهل نلمس في ذلك عودة للحرب الباردة؟ ما يزال الوقت مبكراً للحكم. لكن المؤكد هو أن” أزمة الصواريخ المضادة” هذه تحدث في وقت إمكان تصور حماية فعالة، لأول مرة منذ نصف قرن، من سلاح يستحيل تجنبه: الصاروخ البالستي العابر للقارات.
كان من المستحيل، حتى الوقت الحاضر، اعتراض مثل هذه الصواريخ (أو على نحو أدق الرؤوس النووية التي تحملها). في الواقع، لم يكن هناك مستقبل للمنظومات الصاروخية المطورة قبل التوقيع على المعاهدة السوفييتية -الأمريكية حول الصواريخ البالستية المضادة ABM التي حظرت النشر الشامل لمثل هذه الدفاعات- باستثناء المنظومة الصاروخية 53-A الروسية التي تحمي موسكو، التي تعتبر اليوم بحكم البالية.
يبقى أن الرادع الذي تفرضه هذه المعاهدة لم يمنع من استمرار الأبحاث. ومنذ 3891 وإطلاق “رونالد ريغان” لـ “مبادرة الدفاع الاستراتيجي” SDI، استثمر البنتاغون أكثر من 001 مليار دولار في مواصلة البرامج الباليستية المضادة. استمرت هذه الإنفاقات الهائلة بدعم من جميع الرؤساء الذين تعاقبوا على البيت الأبيض، لتعطي نتائجها الآن أخيراً. وبعد أن نقض “جورج بوش” معاهدة ABM عام 1002، يبدو أن كل شيء جاهز لنشر أول درع صاروخي استراتيجي مضاد للصواريخ في التاريخ.
الحماية من الصواريخ الكورية الشمالية والإيرانية؟
ترتكز “المظلة” الأمريكية، المسماة National Missile Defence، والمكرسة رسميا لاعتراض الصواريخ الكورية الشمالية والإيرانية التي ما تزال قيد التجربة، إلى مفهوم يسمى “متعدد الطبقات” Multicouche الذي يتهيأ للدفاع، حالما يتلقى تحذيراً من شبكة إنذار متقدمة، والشروع في الاشتباك مع الهدف- الصاروخ الحامل ثم الرؤوس الحربية التي تنفصل عنه- في كل مراحل التحليق: في مرحلة التسارع التي تعقب الانطلاق، وعلى المسار في الفضاء، وأخيراً خلال العودة إلى الجو.
كي نفهم الصعوبة التي تعتري اعتراض صاروخ عابر للقارات، تكفي الإشارة إلى بعض معلمات التحليق:
? المَعْلَمة الزمنية أولاً: تفصل 03 إلى 04 دقيقة بين انطلاق الصاروخ والهدف النهائي للهجوم، منها 3 دقائق فقط للتسارع وإلقاء الشحنة، وهذا هو السبب الذي جعل الاعتراض في هذا الطور هو الجانب الأقل تطوراً في البرنامج الأمريكي. وحالما يصبح الصاروخ في الفضاء، على ارتفاع نحو 0001 كم، تغدو السرعة هي العنصر المهم: “حينئذ، تصبح سرعة التقارب بين الهدف (الصاروخ المهاجم) والمعترض زهاء 01كم/ ثانية (00063 كم/ ساعة). إلا أن تدمير رأس نووي يتأمن بالصدمة المباشرة التي ينفذها “الحامل القاتل” Kill vehicle، أي الطابق الانتهائي من الصاروخ المضاد: يعني ذلك أنه إذا تأخر أو سبق بمقدار 1/00001 من الثانية، أي مسافة متر تقريباً، فإنه لا يصيب هدفه”، حسب شرح “فرانسوا دونو” F. Deneu، مدير برنامج الدفاع الصاروخي المضاد في مجموعات شركات EADS Astrium، التي تدرس هي أيضا منظومة الاعتراض الصاروخي الخاص بها المسماة Exoguard. بالمقابل، ومع نهاية التحليق، المسار الانقضاضي للرأس المستهدف هو الذي يجعله متعذر الوضوح إلى حد كبير.
? تضاف إلى هذه المَعْلَمات الفيزيائية صعوبات “تكنولوجية”: إذا كان الالتقاء بالهدف في الفضاء صعباً، ولكنه ممكن، فإن إدماج (الحامل القاتل) في العمل يعتبر مسألة عسيرة: وهكذا يتوجب على رأسه العامل بالأشعة تحت الحمراء، والمكلف بكشف الهدف الساخن على خلفية فضائية باردة على ارتفاع 0001 كم، أن يبقى محتفظاً بحرارة قدرها -051 درجة، في الوقت الذي يولد أنبوب دفعه حرارة قدرها 0002 درجة على مسافة بضعة سنتمترات منه. كما أن تسديده يتطلب الثبات، بينما يقتضي التوجيه دفعات مفاجئة جداً”، يضيف “دونو”، وتتمثل الصعوبة الأخرى الحقيقية في تعيين الهدف بشكل جيد: لا يأتي الرأس النووي بمفرده مطلقاً، ويمكن أن يترافق بمجموعة تضم بقايا الصاروخ الحامل إن لم يكن وسائل خداع ورؤوسا أخرى فيما يخص الأسلحة المعقدة. وتكمن وسيلة الاخيار الجيد الوحيدة في تحليل مسار جميع أشياء المجموعة بحيث يتم تحديد طبيعتها الفيزيائية. الأمر سهل عندما تكون كوكبة هذه الأشياء بعيدة بمسافة آلاف الكيلومترات.
اختيارات الاعتراض:
إزاء هذه التحديات، عزز المهندسون الأمريكيون شبكة إنذارهم، ففضلاً عن أقمار الإنذار المبكر الصنعية من الـ Defence Support Program (في المدار على ارتفاع 08753 كم)، القادرة على كشف الحرارة المنبعثة عن انطلاق الصواريخ الباليستية، ورادارات الإنذار المبكر العملاقة (بقطر 92م) -الموروثة عن أيام الحرب الباردة، والمركزة في “شميا” شمال المحيط الهادئ وفي فايلنغدال “في إنكلترة-، أضافوا عام 7002، في عرض “ألاسكا”، راداراً يعمل في نطاق الترددات السينية bande X، موجات كهرومغنطيسية قصيرة (8 إلى 21 جيجا هرتز) عالية (الميز) جداً، لتعيين الأهداف بدقة. وستكون هذه الآلة الفائقة القوة قادرة- حسب وصف الجنرال “هنري أوبرينغ” H. Obering ، مدير وكالة Missile Defence Agency المكلفة بالمشروع- على تعيين وتتبع هدف بحجم كرة التنس في المدار على بعد 0005 كم!. من المنطقي أن يُنصب مثل هذا الرادار في أوربا، بمواجهة إيران.
أخيراً، اكتملت هذه الشبكة المتخصصة، الفريدة في العالم، بالرادارات المنصوبة على متن خمس سفن (ثماني عشرة فيما بعد) مزودة بمنظومة Aegis البحرية للدفاع الجوي المضاد، الأعقد في العالم.
وينتظر إكمال مجموعة الكشف المعززة هذه بخمس منظومات اعتراض على الأقل: الليزر المحمول جواً، وصاروخ سريع لطور التسارع، وصواريخ حاملة قاتلة ترادفية طويلة المدى جدا للطور الأوسط، وصوارتخ متوسطة وقصيرة المدى للطور المنتهائي.
وكانت حلقة الطور الأوسط وحدها عملياتية عام 7002 من بين حلقات هذه الترسانة كلها. سميت هذه الحلقة Ground Based Midcourse Defence GMBD وهي متمفصلة حول الـ Ground Based Interceptor: GBI صواريخ حاملة قاتلة مترادفة قادرة على الضرب على بعد آلاف الكيلومترات.
في الواقع، ما تزال منشآت عمل ال DMWBG بعيدة جداً عن مرحلة الإنجاز، ولم تثبت منظومة الـ GBI نجاحها إلا في اختبارين، في ديسمبر 5002 وسبتمبر 6002، بعد بدايات صعبة. هذه التجارب، التي تبلغ كلفة كل منها 001 مليون دولار، لا تمثل الواقع، حسب اعتقاد خصوم البرنامج الأمريكيين، ورأيهم هو أن الدفاع يعرف مَعْلمات الهدف، الذي لا يحوي سوى رأس واحد، وهو أسهل كشفا بكثير من كشف كوكبة صواريخ مقترنة بوسائل خداع. «رغم ذلك، نجحت ست عمليات اعتراض فقط في أحد عشر اختباراً. ما تزال الطريق طويلة قبل التوصل إلى منظومة عملياتية حقيقية»، تقول «فيكتوريا سامسون» V. Samson ، الخبيرة في مركز Center for Defence Information المستقل.
لكن وكالة Missile Defence Agency تتصور أن تصبح هذه المنظومة ذات فعالية موثوقة بين عامي 0102 و 2102.
ليس واضحاً إن كان هذا الأجل القريب هو ما يقلق الكرملين. يعرف “فلاديمير بوتين” والجنرالات الروس أن الـ GBMD، حتى لو نصبت في أوربا، سيمكن تحييدها بسهولة بهجوم شامل. ما تزال الترسانة الروسية تضم 305 صواريخ (3581 رأساً) منصوبة على الأرض، وأكثر من 081 صاروخاً (636 رأساً) محمولاً في الغواصات. الهيبة هي التي تثير أعصاب الروس دون شك: ما كان يمكن لهذا النشر أن يحدث أبداً زمن العظمة السوفييتية. إن من شأن وضع أسلحة جديدة والوسائل المرتبطة بها (خصوصاً الرادارات) قريباً جدا من الحدود الروسية أن يغير التوازنات المحلية عملياً. إلا أن البولونيين والتشيك أيدوا، على الجبهة الدبلوماسية، إقامة منظومة الصواريخ GBI.
باتت الكرة الآن في ملعب الروس، بل الأوربيين أيضاً: هل يجب على الأخيرين أن يقبلوا المظلة الأمريكية؟ أم عليهم التزام جانب استقلال الاتحاد الأوربي بأن يطلقوا برنامجاً مشابهاً؟ تعمل مجموعة شركات EADS Astrium منذ وقت سابق على قمر صنعي للمراقبة، اختباري، باسم Spiral، سيقوم عام 8002 بوضع خريطة بالأشعة تحت الحمراء لكوكب الأرض، بهدف التعيين الأفضل لضجيج الخلفية الذي تتقاطع عليه عمليات انطلاق محتملة للصواريخ. وعبرت هذه المجموعة أيضا عن جاهزيتها للتغلب على مشكلات الصاروخ المضاد مع منظومتها Exoguard: “يمكن أن يكفي موقعان مسلحان كل منهما بعشرة صواريخ لتغطية أوربا بكلفة تبلغ في حدها الأقصى مليار يورو سنويا لمدة عشرة أعوام”، كما يقول “فرانسوا دونو”. من جانبها، تطور شركة MDBA الفرنسية أخيراً نسخة BlockII من صاروخها Aster القادر على الاعتراض في الطور الانتهائي