عندما كتب الروائي الفرنسي الشهير (جول فيرن) رائد أدب الخيال العلمي روايته الشهيرة الخالدة "عشرون ألف فرسخ تحت الماء" في عام ١٨٧٠ لم يكن يتخيل أحد حينها أنها ستتحول إلي حقيقة. بطلة تلك القصة كانت غواصة خيالية تحمل إسم (النوتيلوس) وكان يقودها الكابتن (نيمو) الأسطوري وتم بنائها بقطع تم إختيارها بعناية من جميع أرجاء العالم وكانت تستطيع الغوص إلي أعماق سحيقة لم يصل إليها بشر من قبل وتجوب البحار و المحيطات بلا هوادة بقيادة طاقمها الجبار دون توقف جاعلة من كل عدو لها طعاما لمخلوقات قاع المحيطات لدرجة جعلت البحارة يعتقدون أنها الوحش الموجود في حكايات الإغريق. فهل تحول خيال حول فيرن الخصيب هذا إلي حقيقة واقعية؟ هذا ما ستجيب عنه سطور ذلك التقرير.
(نوتيلوس) كان و مازال هذا الإسم يلهب حماسة كل المهتمين بعالم الغواصات وكل عشاق العسكرية و بالتأكيد كانت (النوتيلوس) حلم متوهج في مخيلة المهندسين العسكريين علي إختلاف أحلافهم و معسكراتهم منذ الحرب العالمية الثانية ويتمنون تحقيقه أثناء تصميمهم و تطويرهم لأساطيل غواصاتهم. ذلك الحلم الذي ظل يداعب خيالهم و أحلام يقظتهم لعقود طويلة من الإبتكار و الإبداع الهندسي.
وأثناء الحرب العالمية الثانية كانت قطعان الذئاب الألمانية التي أرعبت أساطيل الحلفاء طوال الحرب بغواصاتها الشهيرة من طراز ال U-Boats وحققت سجلا حافل بالإنتصارات. وبالرغم من ذلك النجاح إلا إن غواصات الديزل هذه التي كانت قمة تكنولوجيا عصرها كان لزاما عليها كل يوم الصعود إلي سطح البحر لمدة لا تقل عن ٤ ساعات لإعادة شحن بطارياتها. وتلك كانت نقطة الضعف التي إكتشفها الحلفاء و هو ما عرضها للرصد و زاد قابليتها للإستهداف عن طريق أسطاليهم التي تم تطويرها و تزويدها بأنظمة الرصد و الطوربيدات و قنابل الأعماق القادرة علي الفتك الذئاب الألمانية الشرسة. وظلت هذه المشكلة التقنية يعكف علي حلها كل المهندسين العسكريين مابعد الحرب العالمية الثانية و تعددت المحاولات ولكن كل التطويرات و التعديلات حينها التي تمت علي محركات الديزل و البطاريات الكهربية ونظام ال snorkel لم تحل تلك المشكلة نهائيا. وظل هذا العيب نقطة ضعف قاتلة في أي سلاح غواصات إلي أن ظهرت النوتيلوس الحقيقية.
في يوم ٢١ يناير عام ١٩٥٤ شقت غواصة النوتيلوس الأمريكية (SN-571) أمواج المحيط من ميناء مدينة جروتون الأمريكية تحت بصر النظارات الميدانية لكبار قادة البحرية الأمريكية. وكان هذا المشهد نصرا علميا عسكريا رهيبا حينها أشعر هؤلاء القادة بالزهو والفخر العسكري بعد أن نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في صناعة أول غواصة نووية في التاريخ. وكانت قوة هذا النصر لا تقل أهمية عن إنجاز أول خطوة للإنسان علي سطح القمر نظرا لما كان يشهده العالم حينها من تنافس كبير و حرب باردة لكنها حامية الوطيس بين الولايات المتحدة الأمريكية و الإتحاد السوفييتي. ولأول مرة في هذا اليوم المشهود تصبح الغواصات قادرة علي الإبحار تحت سطح الماء لشهور طويلة دون أنقطاع ولذلك لم يكن هناك إسم أفضل من (النوتيلوس) يمكن ان يطلق عليها.
ويرجع الفضل لهذا الإنجاز العسكري الغير مسبوق إلي الأب الشرعي للأسطول النووي بالبحرية الأمريكية - الأدميرال (هايمن جورج ريكوفر) ذلك العبقري ذو الأصول البولندية. وكان النسخة الأمريكية لكابتن (نيمو) هو الكابتن (إيجوين ويلكسون) أول قائد للغواصة التي كان يتكون طاقمها من ١٣ ظابط و ٩٢ بحار من خيرة جنود البحرية الأمريكية وتم إختيارهم بعد إختبارات نفسية و جسدية دقيقة تماما مثل طاقم الغواصة الخيالية والذي تم إختياره من أفضل البحارة من مختلف أنحاء العالم.
وكان وزن النوتيلوس النووية يصل إلي ٤٠٩٢ طن وطولها ٩٨ متر و عرضها ٨.٥ متر و أرتفاعها ٧.٩ متر و مجهزة ب ٦ أنابيب طوربيد ثقيل من عيار ٥٣٣ ملم و تستطيع حمل ٢٤ طوربيدا علي متنها و كانت قادرة علي الوصول إلي سرعة ٢٣ عقدة بحرية بالرغم من وزنها و حمولتها الضخمة تماما مثل النوتيلوس الخيالية بمحرك جبار يعطي قدرة ١٣٤٠٠ حصان.
أستطاعت النوتيلوس الأمريكية تحطيم العديد من الأرقام القياسية في أول سنوات إبحارها. و أستطاعت أن تصل إلي أماكن لم يسبقها إليها غيرها و كأنها تحقق خيال (جول فيرن) الجامح علي أرض الواقع. في مايو ١٩٥٥ نجحت النوتيلوس في قطع مسافة ١٢٠٠ ميل بحري (حوالي ٢٢٠٠ كم) في أقل من ٩٠ ساعة وهي أطول رحلة لغواصة بسرعة ثابتة في حينها. في فبراير ١٩٥٧ أستطاعت النوتيلوس الأمريكية تحقيق مسافة خرافية حيث نجحت في قطع مسافة ٦٠ ألف ميل بحري (حوالي ١١٠ ألف كم) دون توقف وهي بذلك تماثل أداء مثيلتها الروائية بقصة "٢٠ ألف فرسخ تحت الماء" وجعلت من عنوان القصة الخيالي حقيقة واقعة. وفي ٣ أغسطس عام ١٩٥٨ أصبحت النوتيلوس أول مركبة يصنعها إنسان تصل إلي القطب الشمالي الجغرافي في أقصي نقطة شمال كوكب الأرض ولم تكتفي بذلك بل قامت بأول رحلة كاملة دون إنقطاع حول القطب الشمالي.
وبالرغم من هذا الأداء الإعجازي الذي لم يتواجد قبلها سوي في مخيلة أفضل كاتب خيال علمي في التاريخ إلا إنه التجربة أثبتت وجود عيبين كبيرين في هذه الغواصة الرائدة.
أهمها كان الحجم الضخم للمفاعل النووي و طبقات الحماية البيولوجية له والتي كانت تتكون من عدة طبقات من القصدير و الصلب ومواد أخري يصل وزنها وحدها إلي ٧٤٠ طن و هذا الحجم الهائل جعل الحيز الداخلي للغواصة غير عملي وقيد قدرة المصممين في أضافة ترسانة الأسلحة التي كانوا يتمنوها و يخططون لها.
المشكلة الأخري كانت الضوضاء العالية المنبعثة من توربينات المولد للمفاعل النووي الحراري. والتي تصدر ذبذبات قوية تجعل من سونار الغواصة عديم الفائدة علي سرعات أكبر من ٤ عقدة بحرية و تصبح الغواصة صماء بالإضافة طبعا إلي قدرة السفن و الغواصات المعادية علي أكتشافها بسهولة بواسطة أجهزة الرصد السلبي. وكل هذه العيوب التي ظهرت أخذت في الإعتبار عند تصميم الجيل الثاني من الغواصات النووية الأمريكية.
وبعد أن ظلت تخدم في البحرية الأمريكية لأكثر من ربع قرن تم أحالة تلك الأسطورة للتقاعد في عام ١٩٨٠ ولكنها لم تمت و ظلت اسطورتها خالدة حيث تم تحويلها إلي مزار سياحي بعدها بعامين في مايو ١٩٨٢. وفي عام ٢٠٠٢ كرمتها البحرية الأمريكية وحافظوا عليها ببرنامج ترميم كلفهم حينها ٤.٧ مليون دولار و ظلت تستقبل كل عام حوالي ٢٥٠ ألف زائر. وفي ٣٠ سبتمبر عام ٢٠٠٤ وفي الأحتفال بمناسبة مرور ٥٠ عاما علي بناء النوتيلوس ألقي الأدميرال المتقاعد (إيجوين ويلكنسون) او (كابتن نيمو الأمريكي) أول قبطان للنوتيلوس خطابا بهذه المناسبة أعتبر فيه النوتيلوس الأسطورة التاريخية للقوة النووية الأمريكية.
المصدر :
http://www.navysite.de/ssn/ssn571.htm