يبحث جاريد روبن في أسباب الهوة الاقتصادية الكبيرة بين الغرب الأوروبي والشرق الأوسط المسلم، فينفي اتهام الإسلام بالوقوف وراء ذلك، مبينًا في المقابل تداعيات تحكّم الدين بالسياسة على الثقافة والاقتصاد.
لماذا بعض مناطق العالم غني، وبعضها الآخر فقير؟. في الغرب، يعيش كثيرون في رفاهية لا تُقارن بظروف مليارات يعيشون في مناطق تباطأت فيها عجلة النمو الاقتصادي والتنمية، حتى إن اللامساواة هي السمة التي تحدد طابع العالم اليوم. على حد تعبير الاقتصادي روبرت لوكاس، الفائز بجائزة نوبل، حين يفكر المرء في أسباب هذه الفوارق الصارخة، ربما يصعب عليه التفكير في شيء آخر.
هوة عميقة
تكون هذه الهوة الفاصلة بين المناطق الغنية والفقيرة حتى أشد مدعاة للتساؤل والتوقف عند أسبابها، إذا عرفنا أنها حديثة العهد نسبيًا.
قبل 500 سنة، ما كان الغرب يزيد ثراءً على الشرق الأقصى، في حين قبل 1000 سنة، كان العالم الإسلامي أكثر تطورًا من أوروبا المسيحية في المجالات كلها، من الرياضيات إلى الفلسفة، ومن الهندسة إلى التكنولوجيا، ومن الزراعة إلى الطب.
قالت الراهبة والكاتبة الألمانية هروتزفيتا إن قرطبة "زينة العالم". لكن بحلول 1600، تراجع العالم الإسلامي وراء أوروبا الغربية. وعلى امتداد قرون، ابتلى الشرق الأوسط بتباطؤ معدلات النمو وانتشار الفقر بين شرائح واسعة ومشكلات اجتماعية تبدو مستعصية.
على النقيض من ذلك، أصبحت أوروبا الغربية والشمالية أغنى مناطق العالم ومركز التصنيع والعولمة. في كتابه الاستفزازي "حكام ودين وثروات: لماذا أثرى الغرب وبقي الشرق الأوسط فقيرًا؟" Rulers, Religion and Riches: Why the West Got Rich and the Middle East Did Not (المكون من 288 صفحة، منشورات جامعة كامبردج)، يتساءل المؤرخ الاقتصادي الأميركي جاريد روبن: كيف حدث هذا الانقلاب الدرامي في حظوظ المنطقتين؟.
تخلف مزعوم
يرفض روبن الرأي القائل إن الإجابة عن سؤاله تتمثل في "تخلف" مزعوم للدين الإسلامي. يقول إن نجاح المسلمين في بناء حضارة عظيمة في العصر الوسيط يبيّن أن لا شيء في ديانتهم يعارض التقدم والإبداع.
ويشير إلى حديث نبوي يؤكد احترام الإسلام أهل العلم وتفوقهم على الآخرين، بمن فيهم رجال الدين. ويقترح بدلًا من هذا الرأي الخاطئ الذي يلقي المسؤولية على الإسلام رأيًا آخر مفاده أن الاختلافات في طريقة تفاعل الدين والدولة هي السبب في تباعد الحظوظ الاقتصادية بين أوروبا والشرق الأوسط.
ليست الأيديولوجيا أو عمل الخير الدافع المحرك لغالبية الحكام، بل البقاء في السلطة وإحكام قبضتهم عليها. ويتطلب هذا ممارسة الإكراه، أي القدرة على فرض السلطة، وما له أهمية حاسمة أنه يتطلب شكلًا من أشكال "الشرعية".
في عالم العصر الوسيط، كان الحكام المسلمون والمسيحيون على السواء يستمدون بعض شرعيتهم من مراجع دينية. لكن بعد حركة الإصلاح في الكنيسة، تعيّن على الحكومات الأوروبية الابتعاد عن الدين بوصفه مصدرًا للشرعية السياسية، كما يقول روبن.
أثر الطباعة
من خلال "إبعاد الدين عن السياسة"، أوجدت أوروبا مجالًا للمصالح الاقتصادية على "طاولة المساومات" السياسية، وإطلاق دورة من السياسات التي تدفع عجلة النمو.
على النقيض من ذلك، استمر الحكام المسلمون في الاعتماد على الشرعنة الدينية، وكانت المصالح الاقتصادية مستبعدة عن السياسة، ما أدى إلى حكم يركز على مصالح السلاطين الضيقة والنخب الدينية والعسكرية المحافظة التي تدعمهم.
إذًا، يكمن نجاح أوروبا، بحسب روبن، في الإصلاح الديني، تلك الثورة في الأفكار والسلطة التي نشرها ما سماها مارتن لوثر "هبة الله الأسمى والنهائية"، أي المطبعة.
على الرغم من أن الطباعين اكتشفوا بعد فترة وجيزة طريقة تعديل آلاتهم للطباعة بالحروف العربية، فإن المطابع غابت عن الشرق الأوسط 300 سنة تقريبًا بعد اختراع غوتنبرغ العظيم. رفض رجال الدين المحافظون المطبعة خشية إضعاف سطوتهم، ولم يكن عند الدولة التي ظلت مرتبطة بالدين لا بالتجارة حافز للوقوف في وجههم، ونقض موقفهم من المطبعة.
لم تسمح الدولة العثمانية بالطباعة العربية إلا في عام 1727 بفرمان أعلن أن هذه الآلة "سيُرفع الحجاب عنها كالعروس، ولن تُخفى مرة أخرى". وكان منع المطبعة "من الفرص المهدورة الكبيرة للتاريخ الاقتصادي والتكنولوجي" على حد تعبير روبن، واصفًا الموقف منها بأنه مثال ساطع على "اليد الميتة للتزمت الديني".
فك الدين عن السياسة
على النقيض من ذلك، جرى تثوير أوروبا، كما يقول روبن، مشيرًا إلى تمرد الهولنديين على إسبانيا الكاثوليكية، وبحث عرش انكلترا "عن مصادر شرعنة بديلة" بعد تمكين البرلمان الهولندي والبرلمان الانكليزي من خلال القطيعة مع روما.
بحلول العقد الأول من القرن السابع عشر كان البلدان يُداران بحكومة برلمانية تضم نخبًا اقتصادية. عملت سياساتهما كتشجيع التجارة وحماية حقوق الملكية على تحقيق تقدم اقتصادي أوسع، فإن فك ارتباط الدين بالسياسة أوجد مساحة للمصالح التي تدعم التجارة، كما يقول المؤلف.
كان هناك ما هو أكثر كثيرًا من التغيير البنيوي وراء تقدم الانكليز والهولنديين، ولا سيما إنجازات العلم والتكنولوجيا. والأهم من كل شيء أن الإصلاحات المديدة كانت متاهة أكثر منها طريقًا إلى التطور.
كما يلاحظ روبن في كتابه، فإن "إبعاد الدين عن السياسة استغرق قرونًا من الغليان الاجتماعي الراديكالي والحروب المدمرة". ويشدد بصورة مقنعة على أهمية الدين والعلمنة في التاريخ الاقتصادي، لكن التغير في دور الدين لن يؤثر في الاقتصاد فحسب، بل في الثقافة والأفكار أيضًا.
كاثوليكية وبروتستانتية
في مطلع القرن العشرين، أشار ماكس فيبر إلى أن مناطق عديدة ناجحة اقتصاديًا كانت بروتستانتية، في حين أن بعض المناطق الكاثوليكية تلكأت وراءها.
يعتقد روبن أن تفسير فيبر - روح الرأسمالية البروتستانتية - كان تفسيرًا خاطئًا، فالتحليلات الاقتصادية الأخيرة لا تتفق على أن أداء المدن البروتستانتية كان أفضل اقتصاديًا من أداء المدن الكاثوليكية.
لكن المنطقة الكاثوليكية التي تأخرت حقًا هي إسبانيا، التي كانت أول قوة عظمى أوروبية في أوائل العصر الحديث، وتراجعت بعد القرن السادس عشر. يبيّن روبن أن سوء الحكم الذي مارسه نظام ملكي تجاهل مصالح إسبانيا داعمة التجارة كان المسؤول عن تلكؤ إسبانيا في أحيان كثيرة. فالتمادي في التوسع الإمبريالي والاعتماد المفرط على ثروات المستعمرات والمستوى المتدني لصنع السياسة كلها أعاقت تقدم إسبانيا.
هنا يُثار السؤال عمّا إذا كانت مصاعب إسبانيا وتأخرها عن الركب ناتجين من استمرار قوة الدين. فمحاكم التفتيش الإسبانية لم تكن، كما يصفها روبن، تنازلًا "باهظ الثمن" للكنيسة في مقابل شرعنة الحكم فحسب، بل كانت هذه المحاكم مؤسسة للسيطرة الاجتماعية. وما ورط الملوك الإسبان أنفسهم في حروب أوروبية لا تنتهي "من أجل حماية مصالح الكنيسة" فحسب، بل كانت مصالح الدولة والدين متداخلة، ليس الفصل بينها سهلًا.
الأفضلية والعائق
في الشرق الأوسط، دمج السلاطين العثمانيون قوتي الدولة والدين، مصممين على شرعنة حكمهم وتحقيق طموحاتهم التوسعية باسم الإسلام. أصبحت الوحدة التي كانت أفضلية في العصر الوسيط عائقًا مبكرًا في العصر الحديث.
في غياب الحاجة السياسية إلى التعامل مع المصالح الاقتصادية، فشل العثمانيون في تنفيذ إصلاحات تحديثية في التمويل والعملة والقانون. ولم يأت الإصلاح الليبرالي إلا في القرن التاسع عشر، حين كانت الإمبراطورية العثمانية متخلفة بعيدًا وراء الغرب، وسرعان ما تضافرت السلطوية والنزعة الدينية المحافظة والكولونيالية لكبح تقدم هذا الإصلاح.
يشرح روبن التعقيد الاقتصادي بوضوح واختصار، وتستحق وجهة نظره الأساسية التي تشدد على أهمية "مَنْ يبسط الحكم السياسي" التوقف عندها لدى محاولة تفسير اخفاقات الشرق الأوسط السابقة والحالية في مواجهة تحديات التطور وكسر حاجز التقاليد المحافظة.
وتبقى العلاقة بين الدين والسلطة السياسية معضلة من أعقد معضلات المنطقة، ولا توجد لها حلول سهلة. ويكتب روبن: "التاريخ يعطينا سببًا للتشاؤم والتفاؤل على السواء".
http://elaph.com/Web/Culture/2017/8/1163247.html