غالباً ما يكون الذعر والترقب هما السمة الرئيسية لحالة الشارع والسلطات العامة في أي دولة تشهد عملاً إرهابيًا، وذلك بسبب الخوف من تكرار هذه العملية الإرهابية في ذات النطاق الزمني والمكاني، وهو ما ينقل حالة الذعر هذه للدول المجاورة، خاصة إذا كانت أوروبا هي مسرح الأحداث.
حيث إن ذهنية رجل الشارع – وكذلك رجل الدولة – قد نشأت على أن احتمالية وقوع عمل إرهابي جديد في أعقاب العمل الذي وقع للتو، هي دائماً احتمالية مرتفعة، حتى وإن كانت الشواهد التاريخية لا تدعم هذه الفرضية إلى الآن. ولكن دائماً ما يفترض رجل الشارع أن الأسوأ قادم.
الأمر الذي دفع خبراء مؤسسة RAND (مؤسسة الأبحاث والتطوير)، وهي منظمة غير ربحية وخلية تفكير أمريكية تأسست عام 1948 من قِبَل شركة طائرات دوغلاس لتقديم تحليلات وأبحاث للقوات المسلحة الأمريكية، إلى دراسة هذه الفرضية.
فقام كل من بريان مايكل جنكيز (كبير مستشاري مؤسسة RAND)، وهنري إتش ويليس (مدير مركز الأمن الداخلي والدفاع في مؤسسة RAND)، وبيغ هان (إحصائي في مؤسسة RAND)، بعمل تحليل إحصائي للهجمات الإرهابية التي استهدفت الولايات المتحدة وأوروبا من عام 1970 وحتى عام 2013، وتسجيل ملاحظات أولية حول هذا التحليل. وفيما يلي أبرز ما ورد في هذا التحليل.
ثلاث مراحل زمنية للعمليات الإرهابية
تثير الهجمات الإرهابية التي تقع في الولايات المتحدة وأوروبا مخاوف أكبر لدى الجماهير في الغرب، وتحض على ردود أسرع من المسئولين الحكوميين مقارنة بالهجمات التي تقع في مناطق أخرى في العالم. كما أن تحذيرات السفر الرسمية والتنبيهات الأمنية التي تدفع الأفراد إلى الاحتراس والاحتراز من شأنها في بعض الحالات أن تُعزز انتشار حالة الخوف من وقوع هجمات أخرى مرتقبة. أي أن هناك اعتقادًا سائدًا أن الهجمات الإرهابية تحدث في سلاسل، وأنه إذا ما وقع هجوم إرهابي كبير، فإن هجمات أخرى ستتبعه قريباً.
لذا، قام خبراء «Rand» بدراسة الأعمال الإرهابية التي وقعت في الولايات المتحدة وأوروبا خلال الفترة من 1970 إلى 2013، وقد تم تقسيمها إلى ثلاث مراحل: الأولى من عام 1970 إلى 1993، والثانية من عام 1994 إلى 2002، والثالثة من عام 2003 إلى 2013.
والهدف من هذا التقسيم هو محاولة التعرف على أي تغيرات مهمة في الأنماط الإحصائية بسبب حدوث تحولات في طبيعة النشاط الإرهابي حول العالم. فعلى سبيل المثال، هيمنت المجموعات المحلية القائمة على أساس أيديولوجي والتوجهات الانفصالية على الفترة من عام 1970 وبداية التسعينيات من القرن العشرين. لتشهد التسعينات انخفاضاً في نشاط هذه المجموعات مقابل زيادة النشاط الإرهابي المرتبط بالفكر الجهادي، وتُتوج هذه الفترة بهجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، والتي لم يسبق لها مثيل في تاريخ الإرهاب. بينما تعكس الفترة من عام 2003 حتى 2013 الأجواء التي تلت 11 سبتمبر/أيلول، وتنامي نشاط القاعدة في العراق والشرق الأوسط.
وقد اعتمدت الدراسة على تحليل تاريخ الهجمات الإرهابية مُستخدمين قاعدة بيانات الإرهاب العالمي (GTD) Global Terrorism Database، التي تضم أكثر من 140 ألف حادث إرهابي وقعوا حول العالم. وقد استبعدت الدراسة الحوادث الإرهابية التي لم تشهد سقوط أي ضحايا.
درجة عشوائية الهجمات الإرهابية
تُظهر نتائج التحليل الي توصلت إليها الدارسة إلى الآتي:
1- إن توزيع الأحداث الإرهابية الصغيرة والقاتلة (المُعرَّفة في الدارسة بأنها الأحداث التي تودي بحياة شخص واحد على الأقل وثلاثة على أكثر) لا يبدو عشوائياً في أوروبا والولايات المتحدة بين عامي 1970 و2002. بينما يبدو عشوائياً في الفترة بين عامي 2003 و2013. أي أن الأحداث كانت أكثر ميلاً للوقوع في سلاسل في الفترة الأولى.
2- في الفترات الزمنية التي لم تكن فيها الهجمات الإرهابية عشوائية: حاولت الدراسة الربط بين الهجمات الإرهابية الكبيرة (التي تودي بحياة ثلاثة أشخاص فأكثر) كنوع من الحوادث «التحريضية»، وبين وقوع حوادث إرهابية صغيرة متتالية بعدها، أي وقوع سلسلة من الهجمات الإرهابية (الدموية المُقلِدة) عقب (خلال 30 يوماً) حادث تحريضي إرهابي كبير. وقد توصلت الدراسة إلى أن هذه الصلة موجودة بالفعل في الهجمات التي وقعت خلال الفترة من 1970 إلى 1993، بينما تنتفي في الفترة من 1994 إلى 2002.
وعن تفسير هذه النتائج، يمكن القول إن الإرهاب في الولايات المتحدة وأوروبا في الفترة بين سبعينيات القرن العشرين وتسعينياته تسيطر عليه إحصائياً مجموعات تُنفذ حملات عنف محلية بوتيرة مستمرة.
فالجيش الجمهوري الإيرلندي المؤقت PIRA، وانفصاليو إقليم الباسك في إسبانيا أو إيتا ETA، مسئولون عن حصة كبيرة من مجمل النشاط المُسجل.
وغالباً ما كانت الهجمات تتخذ شكل موجات عدائية أو ما يمكن أن نُعرفه بالسلاسل الإحصائية. ومع القمع التدريجي للحملة الانفصالية في إسبانيا، وتسوية الصراع في إيرلندا الشمالية، اختفت هذه السلاسل. كما يُفسر انحسار النشاط المرتبط بهاتين الحملتين التراجع العام في حجم الإرهاب في أوروبا.
الإرهاب في المناسبات العامة
غالباً ما تتصاعد التحذيرات من وقوع هجمات إرهابية محتملة وتتشدد التدابير الأمنية المُتخذة في تواريخ معينة ذات أهمية رمزية للإرهابيين أو لخصومهم، مثل 4 يوليو/تموز (عيد الاستقلال الأمريكي)، أو ذكرى هجمات 11 سبتمبر/أيلول في الولايات المتحدة.
هذه التواريخ قد تشغل بال كل الإرهابيين – كمصدر إلهام لهم – والمسئولين عن الأمن أكثر من غيرهم، ولكن هل يقع فيها المزيد من الهجمات الإرهابية بالفعل؟
خلال الفترة من 1970 إلى 2013، كانت لعدد قليل فقط من هذه التواريخ (المكتوبة بالخط العريض) أهمية رمزية مُمكنة. وقد حدث هجوم واحد على الأقل في كل يوم من أيام السنة تقريباً (352 يومًا من أصل 365)، ويبلغ متوسط عدد الهجمات التي حدثت في أي يوم من أيام السنة أقل من خمس هجمات (4.8 في المتوسط).
بينما شهد 19 يوماً (المُبينين في الجدول) عشرة أحداث فأكثر، كما شهدت الأيام القريبة من عيد الاستقلال (2 و4 يوليو/تموز) وليلة رأس السنة (31 ديسمبر/كانون الأول)، عدداً كبيراً بشكل غير معتاد من الهجمات. ففي هذه التواريخ تُقيم المجتمعات فعاليات تجتذب حشوداً كبيرة، مما يزيد من التهديد الإرهابي بخلق أهداف سهلة المنال.
والخلاصة أن التواريخ المعينة التي يُتوقع فيها تصاعد احتمالات الهجمات الإرهابية بدت غير مرتبطة بوقوع عدد أكبر من الحوادث، كما يتبين من التحليل التاريخي.
فعلي سبيل المثال، لا تشير بيانات الولايات المتحدة إلى وقوع أي حوادث إرهابية قاتلة في 1 سبتمبر/أيلول فيما بعد عام 2001. وبالمثل لم تشهد أي من التواريخ الموافقة لشهر رمضان أي زيادة في الهجمات الإرهابية في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية مقارنةً بأيام السنة الأخرى.
تراجع العمليات الإرهابية وزيادة أعداد القتلى
تشير الدراسة إلى أن الولايات وأوروبا شهدت تراجعًا كبيرًا في عدد العمليات الإرهابية التي تودي بحياة قتيل واحد على الأقل، منذ سبعينيات القرن العشرين، ولا سيما في السنوات التي تلت 11 سبتمبر/أيلول 2001.
وهو الأمر الذي أعادته الدراسة إلى العوامل الآتية:
1-شهدت فترة سبعينيات القرن العشرين عدداً أكبر من المجموعات التي تنفذ عمليات ولها قواعد من الأنصار قابلة للتجديد. فقد شهدت تلك الفترة عدداً أكبر من المجموعات الإرهابية التي تنفذ عملياتها في أوروبا والولايات المتحدة مقارنة باليوم. ولا تزال بعض أسباب إرهاب السبعينيات موجودة إلى الآن، مثل عنصرية تفوق العرق الأبيض. كما ظهرت أسباب جديدة مثل أيديولوجية الجهاد العالمي المسلح التي يتبناها تنظيمي القاعدة وداعش، لكنها ظلت ظاهرة إقليمية في الغالب. وعلى الرغم من توجيه أو تحريض تلك المجموعات للقيام بهجمات إرهابية في أوروبا والولايات المتحدة، إلا أن أنشطتها الرئيسية تتركز في منطقة الشرق الأوسط.
2- كانت المجموعات في السبعينيات أفضل تنظيماً. ونظراً لانخراطها في نشاط مستمر، فقد كانت قادرة على اكتساب المهارات وصقلها؛ أما اليوم فيبدو الإرهاب في الولايات المتحدة أقل تنظيماً، حيث لا تتضمن معظم الهجمات والمخططات الإرهابية سوى منفذ واحد أو مؤامرات صغيرة على الأكثر، والتي تنتهي غالباً باعتقال المُنفِّذ أو موته.
3- صعّبت جهود مكافحة الإرهاب من تنفيذ الهجمات المستمرة، فيضطر الإرهابيون إلى محاولة تصدر عنفهم إلى الولايات المتحدة، عبر هجمات يشنونها أو يدبرونها من الخارج بإقناع أتباعهم من البلد باللجوء إلى العنف نيابة عنهم.
4- يمكن للإنترنت على خلاف المتوقع أن يُعيق النشاط الجماعي المؤثر. فالإرهابيون يستخدمون شبكة الإنترنت لنشر دعاياهم وتجنيد الأتباع وتوجيههم وتحريضهم على حمل السلاح. إلا أنه لشبكة الإنترنت أن تقوّض هذا النشاط في الوقت نفسه. فهي تُفسح المجال للمشاركة غير المباشرة من خلال الغير وتحقيق الإشباع النفسي دون الانخراط فعلياً في أنشطة على أرض الواقع. كما أن الإنترنت يشجع أولئك الذين يرغبون في ارتكاب أعمال عنف على العمل بشكل منفرد. إضافة إلى منح السلطات فرصة كبيرة للوصول إلى أولئك الراغبين في ممارسة العنف.
ورغم ذلك، فقد اتجهت الدراسة إلى فرضية أخرى تُفسِّر انخفاض أعداد الهجمات الإرهابية، ومفادها أن إرهابيي اليوم لا يُنفذون العدد نفسه من الهجمات الإرهابية التي كانت تُنفذ في السبعينيات، إلا أنهم صعّدوا من وتيرة عنفهم، أي إسقاط أعداد أكبر من الضحايا في الهجوم الواحد. بعبارة أخرى، فإن التراجع في حجم الهجمات الإرهابية يقابله ارتفاع في عدد القتلى الذي يسقطون جراء تلك الهجمات.
وختاماً، تعترف الدراسة بعدم إمكانية توقع الأشكال التي ستتطور إليها الهجمات الإرهابية، ولكن تحليل تاريخ الأعمال الإرهابية يُسلّط الضوء على ملاحظة مهمة، وهي: إن تطور الإرهاب ليس مُرتهنا بالمدى الذي وصل إليه تاريخياً، ولكن بالإمكانيات المستقبلية التي قد يصل إليها. لذلك ليس هناك ما يمنع من أن نشهد هجمات جديدة على مستوى 11 سبتمبر/أيلول أو هجمات باستخدام أسلحة الدمار الشامل.
مصدر