ارتبطت حرب فييتنام في أذهان الكثيرين، بالهزيمة التي مني بها الأميركيون على يد المقاتلين الفييتناميين الشماليين (الفييتكونغ).
في الواقع، تعرّض الفرنسيون قبل الأميركيين بأكثر من عقد من الزمن، لهزيمة عسكرية مماثلة على الأرض الفييتنامية نفسها. فقبل أكثر من ستة عقود (1954)، منيت القوات الفرنسية بهزيمة نكراء على يد القوات الفييتنامية الشيوعية في منطقة «ديان بيان فو» في شمالي فييتنام.
وقد مثّلت هذه المعركة رمزية كبرى، كمحطة انتصار للفييتناميين ومن ورائهم المحور الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفياتي، على الفرنسيين ومن ورائهم المحور الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، ووضعت حدًا للقوة الاستعمارية الفرنسية في منطقة الهند الصينية، لا بل فتحت باب الثورات في بعض المستعمرات الفرنسية كثورة الجزائر. كما شكّلت هذه المعركة إحراجًا كبيرًا للولايات المتحدة الأميركية، ما دفعها إلى التفكير باستخدام القنابل النووية ضدّ المقاتلين الفييتناميين.
ظروف المعركة
بين العامين 1949 و1954، خاض الفرنسيون حربًا دامية للحفاظ على إمبراطوريتهم في الشرق الأقصى، وبعد أن استولى الشيوعيون على السلطة في الصين (1949)، تحوّل هذا الصراع الاستعماري إلى ساحة معركة رئيسة للحرب الباردة، فوقف الاتحاد السوفياتي والصين الشيوعية بجانب المقاتلين الفييتناميين، بينما تحمّلت الولايات المتحدة الأميركية تكاليف الجهد الحربي الفرنسي، لكنّ الجنود الفرنسيين هم الذين كانوا يقاتلون ويُقتلون.
في نهاية العام 1953، قرر قائد القوات الفرنسية في فييتنام الجنرال نافاريه إقامة حامية عسكرية محصّنة في وادي «ديان بيان فو»، على بعد حوالى 280 ميلًا من هانوي عاصمة فييتنام الشمالية. يمتد هذا الوادي على طول 20 كلم وعرض 6 كلم، وتحيط به المرتفعات والهضاب والجبال المغطاة بالغابات الكثيفة. وفق رؤية الجنرال تشكل هذه الحامية خط دفاع صلب للفرنسيين، إذا تمسّكوا بمواقعهم في التلال الداخلية، بحيث يمكنهم الحصول على الدعم في حالات الحصار من خلال جسر جوي. شكّلت طبيعة الأرض الجبلية والغابات الكثيفة عاملًا إيجابيًا لمصلحة الفرنسيين، إذ أنّها تمنع المقاتلين الفييتناميين من نقل القطع العسكرية الثقيلة كالدبابات والمدفعيات والعربات اللازمة لشنّ هجوم محتمل على القوات الفرنسية في تلك القاعدة، وقوامها 12 كتيبة.
بدء المعركة
في 13 آذار 1954، شنّ 50 ألف مقاتل من الفييتناميين، بقيادة الجنرال فونغوين جياب هجومًا كبيرًا ومفاجئًا على الحامية الفرنسية البالغ عددها 10 آلاف جندي في قاعدة «ديان بيان فو» الفرنسية. فأطلقوا وابلًا هائلًا من نيران المدفعية الثقيلة، أعقبه هجومٌ مركّز للمشاة. تمكّن المهاجمون بعد يومين، من احتلال اثنتين من التلال المحيطة بالقاعدة، ما شكّل صدمة عنيفة للقوى الفرنسية المدافعة التي لم تتوقّع حيازة العدو سلاح المدفعية الثقيلة.
وممّا زاد وضع القوات الفرنسية تعقيدًا، عدم قدرتها على الاستفادة من الدعم الذي يؤمّنه الجسر الجوي، بسبب استخدام الجانب الفييتنامي للسلاح المضاد للطائرات بكثافة، فغدت طائرات الإمداد الفرنسية كما المظليّون، أهدافًا سهلة للمدفعية الفييتنامية المضادة للطائرات.
قاوم الجنود الفرنسيون الهجوم الفييتنامي بشراسة، فصمدوا مدة 54 يومًا، لكن ضخامة الهجوم وتحطيم الدفاعات الفرنسية، دفع بالقيادة السياسية الفرنسية إلى طلب المساعدة العاجلة من الولايات المتحدة الأميركية.
الحليف الأميركي كان يتقاذفه تياران: الأول متشدّد ضد الشيوعيين ومتحمّس لدعم الفرنسيين ويضم، ريتشارد نيكسون (نائب الرئيس)، والأدميرال رادفورد (رئيس الأركان المشتركة للجيش)، وجون فوستر دالاس (وزير الخارجية). التيار الثاني كان أكثر تحفظًا تجاه التدخل العسكري الأميركي المباشر في الحرب إلى جانب الفرنسيين وأبرز أركانه الرئيس دوايت أيزنهاور، أمّا الكونغرس فاشترط لدعم التدخّل الأميركي العسكري المباشر في فييتنام، مشاركة بريطانيا فيه.
الواقع الميداني
شكّل الواقع الميداني في فييتنام، عاملًا ضاغطًا على القادة الأميركيين، فهيبة الولايات المتحدة ستتأثر في حال سقوط «ديان بيان فو» بأيدي الفييتناميين الشيوعيين، لذلك، سارع الرئيس أيزنهاور إلى إرسال بلاغ إلى رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، حذّره فيه من عواقب سقوط «ديان بيان فو» على الغرب بأكمله، ووصل الأمر ببعض المسؤولين الأميركيين (على رأسهم دالاس)، إلى التلويح بورقة استخدام الأسلحة النووية (ثلاث قنابل) لحسم المعركة. لكن الفرنسيين رفضوا هذا الحلّ لأنّه سيؤدي إلى مقتل الجنود الفييتناميين والحامية الفرنسية على حدٍ سواء، بسبب تداخل القوى وقُربها من بعضها البعض في ساحة المعركة، بالإضافة إلى أنّ هذا الاقتراح الأميركي لم يكن موقفًا رسميًا، بل أتى على لسان وزير الخارجية، وبالتالي لا يمكن التعويل على تأييد الولايات المتحدة له.
أدرك الضباط الفرنسيون بأنّ هزيمتهم باتت شبه مؤكدة، فوضعوا خطة لسحب قواتهم إلى مناطق آمنة جنوبًا، وشملت الخطة فكّ الحصار الفييتنامي في إحدى حلقاته ليلة السابع من أيار 1954، ومن ثم توجّه القوات إلى الأراضي اللاوسية عبر ثلاثة محاور، وتوجّه المظليين والمرتزقة والأفارقة نحو الجنوب الشرقي، بحيث يلتقون قوات فرنسية قادمة من لاوس العليا، بينما يبقى الجنرال دي كاستري مع الجرحى داخل مقر القيادة في المعسكر.
خفّف الفرنسيون طلعات طيران الإمداد في اليوم الأخير، فلم يسقط سوى بعض المواد التموينية من دون الذخائر، ثم عمدوا إلى تدمير الأسلحة والذخائر المتوافرة لديهم، وألقى بعض الجنود أسلحتهم في نهر «نام روم». علِم الفييتناميون بالنوايا الفرنسية، فشنّوا هجومًا على الموقع 507 قرب جسر الانسحاب الفرنسي أسفر عن استسلام الجنود الفرنسيين، كما سقط الموقعان 508 و509 على الضفة اليسرى للنهر، فاستسلمت القوات الموجودة فيهما، وأعقب ذلك هجوم استهدف مقر القيادة الفرنسية. تقدمت الفرق الفييتنامية من عدة اتجاهات، وخلال ساعات تمّت السيطرة على المقر العام وسقطت قاعدة «ديان بيان فو» بيد الفييتناميين، واعتقل الجنرال دي كاستري ومجموعة القيادة التي ضمّت 16 عقيدًا فرنسيًا، و1749 ضابطًا وضابط صف، و7 آلاف فرد.
كانت الأيام الأخيرة من تلك المعركة مرهقة للغاية، فقد تحوّلت الأرض إلى طين مع بدء الرياح الموسمية، فتشبّث الرجال بالخنادق، كما حصل في معركة فردان التي وقعت في العام 1916 خلال الحرب العالمية الأولى. وأخيرًا في 7 ايار 1954، وبعد حصارٍ دام 56 يومًا استسلم الجيش الفرنسي، وحقق الفييتناميون الشماليون نصرًا ساحقًا.
أسباب هزيمة الفرنسيين
إنّ الأسباب التي أدّت إلى هزيمة الفرنسيين في المعركة عديدة، وهي:
- سوء تقدير إمكانات العدو: فوجئ الفرنسيون بضخامة الهجوم الفييتنامي ونوعية الأسلحة المستخدمة فيه، نظرًا إلى سوء تقديرهم لقدرة العدو على حشد المقاتلين والأسلحة في تلك المنطقة الجبلية والمكسوّة بالغابات. فقد تمكن الفييتناميون - قبل اندلاع المعركة - من حشد عدد كبير من قطع المدفعية الثقيلة، على التلال المحيطة بالقاعدة الفرنسية. نقل هذه المعدات 15 ألفًا من العمال الكادحين، بما يوازي 3 ملايين يوم عمل، ولم يستثنَ النساء والأطفال من مهمة النقل تلك، والتي امتدّت على مسافة 600 كلم عبر الأحراج ليلًا ونهارًا. وقد ابتدع الفييتناميون لهذه المهمة فصائل «الأحصنة الحديدية»، أي الدراجات الهوائية التي ارتفعت قدرة تحمّلها من 100 كلغ إلى 250 كلغ.
- التفوّق العسكري الفييتنامي: أصرّ الجنرال الفييتنامي جياب على أن تكون أعداد القوات المهاجمة وعتادها ولا سيما المدفعيـة، أكثـر بثلاثـة أضعـاف من المدفعيـة الفرنسيـة المدافعة.
- الدعم العسكري والمادي الذي تلقاه الفييتناميون من الصين والاتحاد السوفياتي.
- إرادة القتال لدى الفييتناميين، فالحرب كانت بالنسبة إليهم حرب تحرير، بيد أنّها كانت حربًا استعمارية بالنسبة إلى الفرنسيين الذين ضمت قواتهم عددًا كبيرًا من المرتزقة الأفارقة ومرتزقة المستعمرات.
- الكفاءة العسكرية العالية للقادة الفييتناميين وعلى رأسهم الجنرال جياب الذي عرف بمهندس «حرب الشعب»، وأطلق مقولة: «كل مواطن مقاتل»، و«كل قرية حصن»، وقد أطلق عليه الفييتناميون لقب «جنرال إلى الأبد».
- طبيعة الأرض المكسوة بالغابات التي حدَّت من فعالية المراقبة والقصف الجوّيين، كما سمحت للفييتناميين ببناء قوة هجوم كبيرة من دون أن يلحظ الفرنسيون ذلك.
نتائج المعركة
أسفرت هذه المعركة عن نتائج بالغة الأهمية، فبالإضافة إلى الخسائر (1142 قتيلًا و1606 مفقودين و4500 جريح من الفرنسيين، ونحو 20 ألفًا بين قتيل وجريح من الفيتناميين)، أدى انتصار الفيتناميين إلى:
- انتهاء السطوة الاستعمارية الفرنسية في الشرق الأقصى.
- تشجيع المقاتلين المناوئين للاستعمار، على المقاومة واشتعال جبهات أخرى ضد الفرنسيين. فبعد أسابيع قليلة على انتهاء المعركة، اندلع تمرد عنيف ضد الفرنسيين في الجزائر، وشكّل هذا التمرد المقدمة الأولى للثورة الجزائرية التي بدأت في العام نفسه واستمرت ثماني سنوات.
- تمسّك الفرنسيين بشدّة بالجزائر بسبب حاجتهم إلى تحقيق نصر ما يعوّض لهم هيبتهم المفقودة في «ديان بيان فو»، وشعورهم بالحاجة إلى سلاح نووي رادع، وانطلاق المشروع النووي الفرنسي في العام 1954.
- انسحاب الفرنسيين إلى جنوبي البلاد، وتقسيمها إلى فييتنام شمالية وأخرى جنوبية.
استنتاج
شكّلت «ديان بيان فو» أول هزيمة عسكرية للغرب بعد الحرب العالمية الثانية، ولم تنته الأزمة الفييتنامية والحرب الباردة بانتهاء تلك المعركة، بل كانت «ديان بيان فو» إحدى حلقاتها. فقد تكرر المشهد نفسه مع الولايات المتحدة الأميركية التي حاولت تجنيب نفسها وصول فييتنام في العام 1954، لكنّها انغمست في حرب طويلة الأمد هناك بين 1968و 1975. انتهت تلك الحرب بفشل الولايات المتحدة وخسارتها ما يقارب 57 ألف قتيل وأكثر من 153 ألف جريح و587 أسيرًا، فكانت تلك المعركة من أهم معارك القرن العشرين، وشكلت رمزًا لحرب التحرير الوطنية ومحفزًا قويًا لقوى التحرر حول العالم.
م