كن ممتنًا للهاتف الذي يأتيك بالأخبار لحظة حدوثها، واعرف فضل الإشعار الذي يخبرك أن فلانًا القاطن في أقصى العالم قد فعل كذا. فلو كانت هذه التكنولوجيا متاحة عام 1812 لتجنب العالم وقوع حرب استمرت عامين ونصف. بل لو كانت الولايات المتحدة وبريطانيا تملكان اتصالًا «برقيًا» لربما حفظا حياة 1600 جندي بريطاني، و 2260 جنديًا أمريكيًا.
قبل يومين من اندلاع الحرب أعلنت بريطانيا الموافقة على جميع المطالب الأمريكية. لكن هذا الخبر لم يصل إلى مسامع الولايات المتحدة في الوقت المناسب. لذا في يونيو/ حزيران 1812 أعلنت الولايات المتحدة حربها.
أسبابها كانت القيود التجارية التي فرضتها بريطانيا على الولايات المتحدة أثناء حرب الأولى مع فرنسا. ثم إجبار البحارة الأمريكيين على الخدمة في البحرية البريطانية. ثم ازدياد التحرش البريطاني بالسفن الأمريكية، آخر ما تم كان ضرب سفينة أمريكية، وقتل ثلاثة من طاقمها.
هذه الأسباب وافقت رغبةً أمريكية في إيقاف الدعم البريطاني للقبائل الهندية المناهضة للتوسع الأمريكي، وفوقها رغبة الولايات المتحدة في ضم ما تقدر عليه من المملكة العظمى إن هزمتها في الحرب.
الرئيس الأمريكي «جيمس ماديسون» رأى أن أمريكا لا زالت فتيةً، لا تقوى على حرب كهذه، لكنه دُفع إلى طرح الأمر إلى الكونجرس الأمريكي، فجاءت الأغلبية بخوض الحرب. دفعه إلى هذا «صقور الحرب»؛ مجموعة من الجمهوريين المتطرفين استطاعوا التكتل والنفاذ إلى داخل المجالس النيابية.
لم يكن أي طرف مستعدًا لهذه الحرب؛ بريطانيا لانشغالها بحربها مع «بونابرت»، والولايات المتحدة لم تكن تجد العدد الكافي من الجنود. الأمريكيون كان يفضلون القتال في ميليشيات بدلًا من جيش نظامي. والميليشيا إما أنها تتآلف من صغار متحمسين، أو كبار يفتقدون لفنون الحرب.
كذلك كان عناد «الجمهوريين» في عام 1811 وإصرارهم على عدم التجديد للبنك الأمريكي السبب وراء تضخم العملة الأمريكية، ما يعني فقد مصادر تمويل تلك الحرب. لكن إصرار الجمهوريين كان أعلى من الجميع، فاضطرت 12 سفينة أمريكية لمواجهة 800 سفينة بريطانية.
خاض الطرفان الحرب ونتائج «حرب الاستقلال» عالقة في أذهانهما. فأشعلا حربًا على كافة الجبهات. هاجمت سفن الحربية والقراصنة التابعة لكل طرفٍ الطرف الآخر. استعانت الولايات المتحدة بالسفن المستأجرة لتقاتل نيابةً عنها. ونشبت حرب برية على الجبهة الأمريكية الكندية بطول البحيرات العظمى، ثم الجنوب الأمريكي.
القتال بلا خطة
حرب البحر كانت سجالًا. وفي الجنوب الأمريكي تمكن الأمريكيون من دحر الهنود الموالين لبريطانيا، لكن تمكن البريطانيون من احتلال «نيو أورلينز». أما الحرب على الجبهة الأمريكية الكندية فتغيرت إستراتيجية الطرفين فيها كثيرًا. كان المحدد لطبيعة القتال هو موقف البريطانيين أمام «نابليون بونابرت».
في البداية اعتمد البريطانيون على الدفاع لانشغالهم بقتال نابليون، واختار الأمريكيون الهجوم. لكن الدفاع البريطاني كان حصينًا، فلم تقوَ الولايات المتحدة إلا على بحيرة «إيرى» عام 1813، وغرب «أونتاريو». اكتفى الأمريكيون بذلك، إذ أنه يقضي على حلم الهنود بإقامة دولة خاصة لهم للأبد.
في إبريل/نيسان 1814 هُزم نابليون. في نفس التوقيت اختار البريطانيون التحول من الدفاع إلى الهجوم. أرسلوا 15 ألف جندي إلى أمريكا الشمالية. وفي الجنوب الغربي تمكنوا من هزيمة قبائل هنود الكري الموالين للولايات المتحدة في معركة «هورس شو بيند»، ثم النصر الكبير في معركة «بلادنزبرج»؛ ما مكنهم من السيطرة على واشنطن العاصمة وإحراقها.
لا بد للصعود البريطاني المتتالي من أن يتهاوى. في سبتمبر/ أيلول 1814 هُزم البريطانيون في معركة «بلات سبرج». بهذا استطاع الأمريكيون الاحتفاظ بـ «نيويورك».
تلك الهزيمة كانت إشارةً إلى أن المرحلة القادمة ستكون أمريكية. لهذا آثرت الحكومة البريطانية، بضغط من التجار، الهدنة والسلام. وقع الطرفان معاهدة سلام عادت الأمور بموجبها إلى ما قبل الحرب.
لا نعرف لماذا قاتلنا!
اكتشف الطرفان أن اتفاقية «كَنت» التي انتهت بموجبها الحرب لم تغير شيئًا، وأن ما وقع الطرفان عليه هو تعيين لجان تنظر لاحقًا لمشاكل التجارة والصيد البحري وحقوق الطرفين في البحيرات. ولم تتطرق المعاهدة إلى أفعال بريطانيا التي كانت الدافع الأكبر وراء هذه الحرب.
للمرة الثانية يؤدي فقر قنوات الاتصال إلى كارثة. ستة أسابيع كاملة لم يعلم قادة السفن البريطانية في المحيط الأطلنطي بخبر توقيع الاتفاقية. استمرت السفن البريطانية بإطلاق نيرانها. بادلتها نظيرتها الأمريكية الطلقات. تلقت السفن البريطانية هزيمةً ساحقةً في يناير/كانون الثاني 1815 في «نيو أورلينز».
الأوضاع الجغرافية عادت إلى ما كانت عليه قبل الحرب. أما الأحوال المعنوية لجميع الأطراف لم تفعل. الولايات المتحدة احتفلت بـ «عصر المشاعر الطيبة». اختفاء للعداوات الحزبية، وتوحد خلف القومية الأمريكية. المقاطعات الكندية احتفلت بانتصاراتها على القوات الأمريكية وشعرت بالولاء الخالص لبريطانيا. وزاد العداء البريطاني للولايات المتحدة.
لم تقتصر غرابة تلك الحرب على سبب اندلاعها، بل امتدت إلى حقائق انتهائها. انتهت الحرب واتفق الجميع على أن الهنود هم الخاسرون لضياع حلم إنشاء دولة خاصة بهم. لكن في الوقت ذاته أعلن كل طرف نفسه منتصرًا. قام المؤرخون في أمريكا، وكندا، وبريطانيا برسم المعركة ونتائجها بما يضمن لكل منهم أن يُعرف نفسه بأنه من استطاع إنهاء الحرب لصالحه.
مصدر