لم يكن الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون يدرك أنه بزيارته للصين عام 1972، وفك عزلتها، سيخطو الخطوة الأولى ليس نحو ضم الصين إلى المعسكر الغربي، كما كان منتظراً، بل نحو إعطائها الفرصة لتقويض الهيمنة الأمريكية على العالم.
فقد وجهت بكين دفة العولمة لصالحها، واستغلت الخطوات الأمريكية لدمجها بالنظام العالمي في تعزيز قوتها والنهوض باقتصادها.
وبالرغم من المظهر السلمي الهادئ للصعود الصيني، فإن الحقائق على الأرض تخبرنا بأن القدرات العسكرية الصينية قد تطورت بشكل مذهل، مستفيدةً من النجاحات الاقتصادية الكبيرة.
ويؤكد الخبراء العسكريون أن الإنفاق العسكري الصيني مصمم لتحدي الجيش الأمريكي، وذلك لأسباب تأتي في مقدمتها قضية جزيرة تايوان، التي تقف واشنطن بكل قوتها ضد مخططات الصين لاحتلالها.
تايوان... القاعدة البحرية
تشكل تايوان نقطة محورية في العلاقة بين القوتين الكبيرتين. وبحسب تعبير الجنرال الأمريكي الراحل دوغلاس ماك آرثر، فإن "تايوان حاملة طائرات لا يمكن إغراقها".
ينظر الأميركيون إلى تايوان بوصفها بمثابة المكابح التي تضغط عليها واشنطن للجم الطموحات الصينية. لذلك، فإن ضم الصين لتايوان هو العلامة الدالة على الظهور الحقيقي لعالم متعدد الأقطاب، إذ سيحرر الطاقات العسكرية الصينية لتتجه إلى الخارج بدرجة هي الآن غير ممكنة.
وقد واجهت الإدارة الأمريكية انتقادات من عدد من كبار المفكرين بسبب حروب أفغانستان والعراق، إذ رأوا أنها شغلت بلادهم عن التفرغ لمواجهة الصين واستنزفت جهودهم، وحاججوا بأنه حتى في حالة النجاح في تحقيق الاستقرار في أفغانستان وباكستان، ستكون الصين هي الرابح الأكبر عبر دخول استثماراتها الضخمة إلى هناك.
ومثلت الورطة الأمريكية في العراق وأفغانستان أنباءً سارة للصين وأخباراً مدمرة لتايوان. فطبقاً لدراسة أجرتها مؤسسة راند الأمريكية في 2009، لن تكون الولايات المتحدة، بحلول عام 2020، قادرة على الدفاع عن تايوان في مواجهة هجوم صيني، كما يذكر روبرت كابلان في كتابه "انتقام الجغرافيا".
ولا تخطط الصين لهزيمة الولايات المتحدة عسكرياً، بل لجعل تكلفة الحرب باهظة إلى درجة يتم فيها استبعاد التلويح بالخيار العسكري تماماً عند التعامل معها في أيّة قضية خلافية.
وكذلك تهدف أمريكا إلى جعل التكلفة العسكرية لاحتلال تايوان أكبر بكثير من تكلفة الانتظار والمراهنة على عامل الزمن لحل القضية.
وتُعدّ أزمة مضيق تايوان عام 1996 لحظة تاريخية هامة ينبغي التوقف عندها. فحين أرسل الأمريكيون مجموعتي حاملات طائرات لحماية تايبيه من عدوان الصين المحتمل، اكتشفت الأخيرة أن التهديد الأكبر لها يأتي عن طريق حاملات الطائرات، فأجرت عملية مراجعة شاملة لسياسة التسلح التي تنتهجها وأولت مزيداً من الاهتمام لتطوير قواتها البحرية، متبنيةً نظرية ألفريد ماهان التي تقول إن الدول صاحبة القوة البحرية الأعظم سيكون لها التأثير الأكبر في العالم.
وعمل المنظرون العسكريون على تحويل مقولات ماهان إلى واقع عملي، وتقليص فجوة التسلح بينهم وبين منافسيهم، وتم إنتاج عدد كبير من السفن الحربية بالتعاون مع الروس.
وشهد سلاح الغواصات نقلة نوعية، فأُنتج عدداً كبيراً من غواصات الديزل التي تتميز عن الغواصات النووية بقدرتها على الاختفاء وصعوبة اكتشافها.
رسائل صينية إلى الخصوم
بعد قطع خطوات واسعة في هذا الطريق، أوصل الجيش الصيني إلى خصومه رسالة عملية بطريقته الخاصة. ففي 26 أكتوبر 2006 اقتربت غواصة صينية من طراز "سونغ" من حاملة الطائرات الأمريكية USS KittyHawk الرابضة في مقر الأسطول السابع في أوكيناوا باليابان، ثم ظهرت فجأة على سطح الماء، من مسافة تجعل حاملة الطائرات في مرمى طوربيداتها وصواريخها، قبل أن يتم اكتشافها، ثم اختفت مرة أخرى.
كانت تلك رسالة قوية قرأها الأمريكيون بعناية، وربما لا أحد يعرف بدقة كم عدد الطوربيدات القادرة على إغراق حاملة الطائرات، ولكن لا يوجد أدنى شك في أن طوربيداً واحداً قد يسبب أضراراً واسعة ويعيق عملياتها بشدة.
وفي عام 2012، أعلنت بكين امتلاكها حاملة طائرات تسمى "لياونينغ" استطاعت الحصول عليها بمساعدة فنية من موسكو، إلا أنها لم تمتلك القدرة حتى الآن على تصنيع حاملات الطائرات بالكامل، فضلاً عن الوصول لدرجة كفاءة معينة.
ولكن الصين تمتلك خطة طموحة لتصنيع العديد منها خلال السنوات القليلة المقبلة.
وفي الوقت الذي تعمل فيه على رفع الكفاءة النوعية لقواتها البحرية، لم تهمل قيادة الجيش الصيني القطاعات الأخرى كسلاح الطيران، والقوات البرية، كما طورت القوة الصاروخية بشكل كبير سواء الصواريخ العابرة للقارات أو الصاروخ المسمى بـ"قاتل حاملات الطائرات" أو الصواريخ الحاملة لرؤوس نووية.
وقد كان الهدف الحاضر دائماً هو تحقيق توازن رعب أمام الولايات المتحدة، ووضع أراضيها في مرمى التهديد الصيني على غرار العلاقة بين القطبين إبان الحرب الباردة في القرن الماضي.
فبرغم تفوق أنظمة الدفاع الجوي الأمريكية، فإنها قد لا تصمد في حال اعتمدت الصين إستراتيجية "الإغراق الصاروخي" والذي يعني قصف الأهداف المعادية بعدد صواريخ أكبر مما يمكن أن تعترضه المضادات الأمريكية وتسقطه، فتعجز شبكة الصواريخ الدفاعية عن الدفاع عن مئات الأهداف الإستراتيجية التي سيتم قصفها في التوقيت نفسه.
ودرس الصينيون السلوك الأمريكي في حروب أفغانستان والعراق ولاحظوا الاعتماد المطلق على الأقمار الصناعية، فركزوا جهودهم على التغلب عليها، ونجحوا في ذلك بشكل مذهل.
ففي عام 2007، وبعد سنتين من المحاولات الفاشلة، نجح الصينيون في استهداف قمر صناعي تابع لهم وتدميره تماماً، وهو ما رصده البنتاغون واعتبره رسالة من الصينيين تقول إنهم قادرون على تدمير الأقمار الصناعية الأمريكية.
كما طور الصينيون أسلحة قادرة على "إعماء" الأقمار الصناعية، أي جعلها عمياء لا ترى شيئاً سواء بشكل مؤقت أو دائم عن طريق توجيه أشعة ليزر إلى أجهزة استشعارها، مثل الشخص الذي يتم توجيه أشعة مصباح قوي إلى عينيه مباشرة.
واستطاعوا أيضاً تصنيع أقمار صناعية قادرة على خطف أقمار أخرى أصغر حجماً من قلب مداراتها، وقد طبقوا تجارب حقيقية في الفضاء، ورصد الأمريكيون ذلك على شاشاتهم ورأوا كيف استطاعت مركبة فضاء صينية تكرار خطف قمر صناعي وإطلاق سراحه مرة أخرى.
ويعكف الباحثون الصينيون حالياً على إنتاج طائرات بدون طيار تطير على ارتفاع 40 كيلومتراً (أي أربعة أضعاف الارتفاع الذي تحلق به الطائرات)، تستطيع في حالة تعطل أو تدمير الأقمار الصناعية الصينية، أن تشكل أداة ممتازة للتتبع والمراقبة.
ولم يترك الصينيون سبيلاً إلا وسلكوه في سبيل الحصول على التكنولوجيا العسكرية سواء لدى الأصدقاء أو الأعداء. فمنذ حادثة طائرة التجسس الأمريكية التي تم إجبارها على الهبوط الاضطراري في جزيرة هاينان عام 2001، وجرى تفكيكها وكشف أسرارها، تزايدت عمليات التجسس على الجيش الأمريكي بكافة الوسائل، سواء عن طريق شراء الجواسيس أو بأساليب مخابراتية، أو حتى عن طريق القرصنة الإلكترونية.
بينما على الجانب الآخر، وبسبب سياسة التعتيم الصارمة التي ينتهجها التنين الأصفر، فإنه من الصعب الجزم بتقديرات وأرقام دقيقة حول قدراته العسكرية. ويحذّر البعض من أن تكون قدرات الصين أكبر مما يتم الإعلان عنه، في محاولة منها للعب على عنصر المفاجأة بحال اندلاع أزمة ما، بينما يرى آخرون أن ما تدّعيه الصين مبالغ فيه.
يتبنى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إستراتيجية تسلح مختلفة وتوجهات لم يتم تبنيها منذ حرب فيتنام، تركز على بناء الأسلحة المصممة لخوض حروب كبرى، كحاملات الطائرات والأسلحة النووية، ما يعني تجهيز الجيش لصراع محتمل مع الصين أو روسيا، وهذا صدى للنظرية التي ترى أن صراع القوى العظمى أمر حتمي.
بينما كانت إستراتيجية بات غاريت (Pat Garrett) في السابق والتي تم تداولها في البنتاغون منذ عام 2010، ترسم مخططات الخرائط البحرية الأمريكية على أساس مجابهة القوة الإستراتيجية الصينية دون مواجهة عسكرية مباشرة، بالتوازي مع التقليصات المتتابعة لميزانية الجيش الأمريكي وتقليل عدد القطع البحرية، إذ اهتمت أكثر بالوجود الإقليمي في قواعد عسكرية ثابتة أكثر من تركيزها على القطع البحرية باعتباره حلاً وسطاً بين مقاومة الصين الكبرى، وبين الارتضاء بالدور المستقبلي للبحرية الصينية.
فقد كانت إدارة أوباما تفضل العمل على ترشيد الصعود الصيني بدلاً من مواجهته. وفي 12 نوفمبر 2014 اتفق رئيسا البلدين، على أن يخطر كل طرف الجانب الآخر بأية أنشطة عسكرية كبرى قبل القيام بها، تجنباً للصدام.
وعلى غرار الحرب الباردة، لا يُتوقع أن تصل الأمور في أسوأ حالاتها إلى مواجهة عسكرية بين العملاقين، لكن قد يشهد المجال الاقتصادي شيئاً من ذلك وقد تمضي بكين في دعم أنظمة تمثل تهديداً للولايات المتحدة تجنباً للمواجهة المباشرة والعكس صحيح.
فطبقاً لـ"النظرية الواقعية" في العلاقات الدولية، فإن أكبر ضامن للسلام هو امتلاك قوة عسكرية رادعة تجعل كل طرف يخشى إشعال حرب مع مَن يمتلك هذه القوة.
ويعوّل المراقبون على أن الحكمة التي من المفترض أن يتحلى بها القادة من الطرفين ستخيب توقعات هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، في الفصل الختامي من كتابه "حول الصين" "On china"، حين حذر من حرب شاملة سوف تقع بين بلاده والصين على غرار الحرب العالمية الأولى.
مصدر