نجح التحالف الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية في الإطاحة بالملاذ الآمن الذي تحصن به الإرهابيون، ولكن الغرب لم ينجح بنفس القدر في مواجهة الطبيعة الوحشية للحروب، فبالرغم من إشارة التقارير عادة إلى أن عدد ضحايا العمليات العسكرية يقترب من الصفر، وهو أمر مشكوك في صحته، فإن ذلك يدفع للتأمل في السبب وراء اعتقاد الشعوب الغربية بأن الحروب قد تكون بغير ضحايا.
نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية في أواخر عام 2017 تقريرًا يفيد بأن نية الحكومة الأمريكية في تقليل الضحايا المدنيين لضرباتها الجوية ما هو إلا «وهم، ولو جزئيًا على الأقل»، فبعد تحقيق ميداني منهجي، وجدت الصحيفة أن عدد المدنيين الذين لقوا حتفهم جراء الضربات الجوية الأمريكية أكبر من الإحصائيات الرسمية بـ 31 ضعفًا، وأن القوات الجوية البريطانية ألقت، في نفس الوقت، ما يزيد عن 3400 قنبلة، ومع ذلك ادعت عدم وجود دليل على سقوط ضحايا مدنيين.
ومن ناحية أخرى، نشرت صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية اليومية اعتراف وزير الدفاع الفرنسي بأن قواته قامت بحوالي 1300 ضربة جوية على الأقل دون سقوط مدنيين. وأظهر فحص البيانات الإخبارية التي يصدرها التحالف وتقارير الضحايا والبيانات الصحفية الدورية أن روايات التحالف حول حملته العسكرية تتمحور حول دقة الاستهداف، ففي عام 2015، أجريت 6052 ضربة جوية، سقط فيها 81 مدنيًا فقط في كل من سوريا والعراق.
ليس من العسير العثور على أدلة حول سقوط ضحايا مدنيين نتيجة استخدام القوة المسلحة، فقد أظهر تقرير «هيومان رايتس ووتش» السنوي لعام 2018 قتل 400 ألف مدني، من بينهم 2286 قتيل بسبب الهجمات الجوية الغربية، كما يشير ملخص تقرير الأمم المتحدة حول القتلى والمصابين من المدنيين إلى وتيرة مرعبة تصل إلى مئات القتلى والمصابين كل شهر، كما نشرت مجموعة «أكشن أون أرميد فيولينس» Action on Armed Violence إلى ارتفاع الوفيات من المدنيين بسبب المتفجرات بنسبة 50% في سوريا والعراق في عام 2017.
طريقة الإحصاء هي الفيصل
فسر التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأعداد المنخفضة للضحايا من المدنيين بالإجراءات غير العادية التي اتخذها لضمان عدم وقوع أي ضرر على المدنيين من الضربات الجوية أو لضمان الحد من تلك الأضرار.
ووفقًا للقانون الدولي، يجوز للقوات المسلحة الاستفادة من التفوق العسكري طالما أن ذلك لا يشمل وقوع أضرار مجحفة على الحياة المدنية أو إصابات بين المدنيين أو تدمير للممتلكات المدنية. وادعى التحالف أن قواته تقوم بتحليلات استخباراتية تشمل جمع معلومات حول مخاطر وقوع أضرار مجحفة على الحياة المدنية، بحيث تكون سياسة الاستهداف منضبطة ومخطط لها بعناية قبل تنفيذها.
وبالفعل، اعترف البنتاغون بأن أعداد الضحايا ترتفع في بعض الأحيان، في الوقت الذي يميل فيه المراقبون إلى أن السبب في ارتفاع نسبة الضحايا هو خطاب البيت الأبيض الداعي للحرب تحت رئاسة دونالد ترامب، والحرية التي أعطاها ترامب للقادة العسكريين الميدانيين في القتال ضد داعش، كما أشار البنتاغون نفسه إلى تزايد تعقيدات معارك المدن.
وفي الواقع، ارتفعت وتيرة معارك المدن أواخر عام 2016، وبلغت ذروتها في 2017، عندما استطاع التحالف الاستيلاء على معقلين رئيسيين من داعش؛ وهما مدينتي الموصل والرقة، وليس من قبيل المصادفة أن يصدر التحالف الدولي تقريرًا شهريًا عن الضحايا المدنيين بداية من نوفمبر/تشرين الثاني 2016، إذ كان يتوقع تشديد الرقابة على قواته مع بدء عمليات الحملتين، ما يعني إقرار التحالف بأن البيانات الصحفية العاجلة التي كانت تغطي الضربات الجوية الأمريكية لم تكن شاملة، وبالتالي ينبغي إعادة النظر بدرجة أدق في حجم الضحايا من المدنيين.
ومع ذلك، فلا ريب أن قادة التحالف تتعامل مع الأدلة المتعلقة بسقوط ضحايا بطريقة تقلل من أعدادهم في التقارير المعلنة، إذ يميز التحالف بين المصادر «الموثوقة» والمصادر «غير الموثوقة» عن سقوط ضحايا، إذ تأتي معظم تلك المصادر من منظمات غير حكومية وهيئات تسعى لشفافية العمليات العسكرية، ولا يؤكد التحالف هذه التقارير أو ينفيها اعتمادًا على المعلومات والصور التي يملكها، ولذلك في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، اعتبر التحالف أن 55 تقريرًا منها غير موثوقة بدرجة كافية، فيما منح الثقة لخمسة تقارير أخرى تشير إلى قتل 15 مدنيًا عن طريق الخطأ.
وإذا اعتمدنا على اليقين في الحكم على المعلومات الواردة من ميادين القتال التي تتسم بالعنف والتعقيد وعدم القدرة على الولوج إليها، فإننا سنتجاهل أغلب تلك المعلومات، والاعتماد على اليقين هو ما يسعى إليه العسكريون، إذ تشير تلك التقارير إلى النتائج السيئة لأفعالهم. كما أظهرت النتائج الأولية لبحثي أنه في الوقت الذي تعلن فيه الولايات المتحدة من آن لآخر عن سقوط مدنيين، فإن شركاءهم من الأوروبيين وغيرهم لا يعلنون عن سقوط ضحايا من المدنيين على الإطلاق.
ستحصل على ما تسعى إليه
قال المنظر العسكري الشهير، «كارل فون كلاوزفيتز»، إن طبيعة الحرب تتبع طبيعة المجتمع، ولذلك تتظاهر الجيوش الغربية بأنها تحارب بالشكل الذي تتوقعه المجتمعات الغربية، فهي لا تشن حروبًا بالمعنى التقليدي، وإنما كجراحة عسكرية لتنقذ الإنسانية من الشرور دون ألم.
وفي النهاية، بطبيعة الحال، فإن تلك التوقعات الليبرالية الحديثة بأن الحرب يمكن التحكم في مجرياتها تجعل الحرب هي الخيار الأسهل، وفي كل مرة يختار الغرب اللجوء للحرب، يسعى العسكريون لتحقيق النتائج المتوقعة منها.
ولعل ما يغيب عن أوروبا هو الفهم السياسي-الإستراتيجي الحقيقي للحرب بأنها صراع، وليست نوعًا من التدخل الجراحي أو إدارة الأزمات، فالحرب بطبيعتها عنيفة وتقاوم التحكم السياسي فيها، خاصة من قبل أولئك الذين فشلوا في فهم وحشيتها المتأصلة، وللأسف فإن تلك النقطة تغيب عن ذهن الحكومات الغربية.
.