اسمه الرسمي (هارولد أدريان روميل فيلبي ) لقبه كيم وله اسمان حركيان هما( ستانلي) و(العميل توم) .ـ
سئل قبيل وفاته عما اذا كان لا يشعر بأنه خان وطنه بريطانيا , فقال " الخيانة تتطلب الانتماء أولا . وأنا لم أشعر بالانتماء أبدا " ومهما يكن هذا القول مبهما فأنه التفسير الوحيد الذي قدمه اغرب عميل في تاريخ الجاسوسية . كان فيلبي جاسوسا للمخابرات السوفيتية . سرب أسرار مخابرات بلاده قرابة ثلاثين وصل الى قيد شعرة من منصب رئيس المخابرات وهو في نفس الوقت يتجسس للعدو بنتائج تتجاوز الاحلام وصارت قصته مصدر وحي لعدد لا يحصى من الروائيين والقصاصين والكتاب الذين حاولوا تفسير ظاهرة فيلبي وتحليل شخصيته وتحديد شخصيته وتحديد دوافعه على الخيانة
ركز المحللون على طفولته وحياته المبكرة بحثا عن بؤرة ترديه في وهدة خيانة الوطن .. فهو من مواليد الهند قبيل الحرب العالمية الاولى عام 1912م أمه بريطانية وأبوه المستعرب " سانت جون فيلبي " رجل غريب الأطوار بنى لنفسه اسما في الشرق الأوسط حيث اشتغل لحساب المخابرات البريطانية وكانت مهمته تحريك الثورة العربية ضد تركيا بعد الحرب , اقتنع العرب بأن بريطانيا خانتهم , انتقل الى المملكة العربية السعودية واعتنق الاسلام وتزوج امرأة عربية زوجة ثانية وكان دائما يحذر ابنه من تصديق كلام الحكومة البريطانية . كان فيلبي وابنه متقاربان , لكن الأب لم يكن يتدخل في ميول ابنه السياسية نحو الشيوعية والواقع أن هذا الاتجاه لم يبدأ الا حينما التحق الابن بجامعة كامبريدج عام 1929م بعدما أصبح صديقا حميما لكل من جاي بيرجيس ودونالد ماكلين وكانا من غلاة الماركسيين ونجحا في اشباعه بالأفكار الشيوعية وخلال الاجازات كان يتجول في أوروبا حيث كانت مسارح الرعب النازي مما ثبت اعتناقه للشيوعية وقوى حماسة الماركسية وخلال صيف عام 1934م كان في فيينا حينما قرر أن يصبح جنديا في الصراع ضد الفاشية
انغمس في دوامة الاضطراب السياسي . كان اليمين الحكومي مشتبكا في صراع حياة أو موت مع الخصوم اليساريين وسجل فيلبي اسمه متطوعا في قائمة الثوار الاشتراكيين الذين يساندهم الشيوعيون النمساويين وبدأ بالعمل مراسلا بين عدد من المخافر الأمامية المضادة للحكومة والتقى في هذه الفترة بفتاة شيوعية نمساوية أحبها وهي " أليس فريدمان " المعروفة باسم " ليتز فريدمان " كانت غارقة لأذنيها في الصراع الذي يهز المدينة والذي بلغ القمة حينما قصفت قوات الحكومة مساكن العمال وقتلت مئات وشاهد فيلبي المذبحة فتحول من يومها الى متطرف راديكالي
تصادف أن للمخابرات السوفيتية رجلان يعملان في المدينة وهما الميجور " تيودور مالي" وهو قسيس سابق تحول الى الشيوعية و" جابور بيتر" وهو أيضا شيوعي وقد توسم كلاهما في فيلبي سمات نادرة تؤهله للجاسوسية والتفاني الأعمى في خدمة الشيوعية فجندوه لخدمة ما سميت بقضية الثورة العالمية وكان عليه أن يخفي ولاءه للشيوعية ويحاول أن يتسلل الى وظيفة حكومية في بريطانيا وياحبذا في خدمة المخابرات . بادر فيلبي بعمل كل ما من شأنه محو ماضيه الشيوعي كمدخل أساسي للالتحاق بخدمة الحكومة البريطانية وانظم الى عضوية الجمعية الأنجلو ألمانية وهي جمعية يمينية يدور نشاطها حول تنمية فكرة عقد حلف مع ألمانيا النازية وزيادة في التمويه بأنه تنصل من الشيوعية طلق "أليس فريدمان " وسنحت فرصة اختراقه للعمل الرسمي عام 1936م حينما حصل على وظيفة مراسل لجريدة " لندن تايمز" في الحرب الأهلية الأسبانية الى جانب "فرانكو " وتعمد أن تكون تقاريره الصحفية متحيزة للجنرال فرانكو فذاعت شهرته على أنه يميني متطرف على الرغم من أنه كان يزود المخابرات السوفيتية بما يلتقطه من معلومات من حاشية فرانكو وكادت حياته الجاسوسية تنتهي في مهدها حينما اشتبه فيه جنود وطنيون وحجزوه للاستجواب وكان معه أوراق تدينه ولما طلبوا منه تقديم حافظة أوراقه تظاهر بأنها سقطت منه عفوا تحت الطاولة وانحنى الجنود لالتقاطها فانتهز الفرصة واسترد الأوراق
في عام 1941م كان لا يزال مراسلا لجريدة التايمز وحانت الفرصة التي طالما انتظرها ذلك أن زميله في الدراسة ورفيقه في الشيوعية جاي بيرجيس كان يعمل في وكالة المخابرات البريطانية فضمه اليها وظلت الوكالة تتحرى عن ميوله وأنشطته بين الحين والآخر وسئل أبوه عما اذا كان فيلبي شيوعيا حقا فنفى ذلك بشدة قائلا " كانت مجرد حماقات سياسية مما يقع فيها المراهقون " وانتهت بذلك التحريات وانزاحت عن طريق مستقبله خلفيته المشبوهة
في عام 1941م ألغيت ادارة المخابرات البريطانية واستبدلت بوكالة أخرى أعادت تنظيم جهازها واكتشفت أن فيلبي يعاني من فأفأة في النطق فجنبته العمل الميداني وعينته في الأعمال المكتبية بشعبة الاستخبارات المضادة في الدول الأجنبية وكان ذلك هو الموقع الذي لم يحلم بأحسن منه لا هو ولا المخابرات السوفيتية لأنه سيطلع في هذا الموقع على آفاق بعيدة من المعلومات والتقارير التي لا تتوافر لأي عميل ميداني
كان فيلبي معروفا بين رجال المخابرات البريطانية محبوبا بينهم ومن ناحية أخرى كان ملفه عامرا بما يكفي من الوثائق التي توفر فيه ثقة رؤساءه واشتهر في الوقت نفسه بسهولة تآلفه مع الأقل مرتبة ولأنه ولد في الهند مثله مثل الشاعر " روديارد كيبـــلبخ" .. ولأنه كان رجل مخابرات موهوب تنبؤا له برئاسة الجهاز في المستقبل وأطلقوا عليه اسم "كيم"
في أواخر عام 1944م واتت فيلبي صفقة حظ مدهشة اذ أسندوا اليه رئاسة الشعبة التاسعة بالمخابرات البريطانية وهي الشعبة المنوط بها التصدي لعمليات الهدم والجاسوسية السوفيتية التي كانت مجمدة حينما كانت روسيا حليفة بريطانيا . فلما قاربت الحرب على الانتهاء واتضح أن الاتحاد السوفيتي سوف يكون عدو الغرب التالي فكرت المخابرات البريطانية في بعث الشعبة تحت ادارة فيلبي وزودته بمائة عميل .
كسبت المخابرات السوفيتية موقعا فوق المتصور . قد لا يعرف سوى أرشيف مخابرات موسكو مقدار ونوع الخيانات التي اقترفها فيلبي بالتفصيل والموضوعات التي نقلها اليها , لكن بات من المؤكد أنه أسدى للسوفيت خدمتين حيويتين أثناء الحرب
الخدمة الاولى هي الاحباط التام لكل جهود أعداء النازية الألمان السريين للحصول على دعم بريطاني للاطاحة بهتلر . وكان هؤلاء بمثابة أفظع كابوس لموسكو فلو أن حكومة ألمانية جديدة قامت على أشلاء النازي فانها ستسعى بكل تأكيد الى عقد اتفاقية سلام منفصلة مع الغرب وهو ما يمثل كارثة حقيقية للاتحاد السوفيتي خصوصا اذا احتفظ الالمان بكل جيوشهم وساقوها نحو الشرق لكي يجهض فيلبي هذه الخطة ونتائجها فعل كل ما من شأنه تشويه تقارير معارضي هتلر وتجريدها من فاعليتها وجدواها ووصمها بأنها لا تستحق النظر
أما الخدمة الثانية التي قدمها فيلبي للمخابرات السوفيتية فهي تزويدهم بأسماء عملاء المخابرات البريطانية العاملين في أوروبا الشرقية فلما استولت موسكو على المنطقة فيما بعد أحاطت بهم وفي الوقت نفسه خان فيلبي شبكة الجاسوسية المضادة للسوفيت التي نسجها بنفسه كرئيس للشعبة التاسعة وكانت المخابرات السوفيتية تحصل منه على التحذيرات والمعلومات وتعيد اليه معلومات مضللة خدعت المخابرات البريطانية سنوات
في عام 1945م واجه فيلبي أزمة هددت بوضع نهاية لوظيفته على الأقل ,ذلك أن رجلين من مخابرات السوفيت لجأا الى الغرب : أحدهما "ايجور جوزينكو " وهو كاتب شفرة في السفارة السوفيتية بكندا هرب بكمية برقيات سوفيتية سرية جدا وما يحتويه رأسه من معلومات خطيرة والرجل الثاني هو "كونستانتين فولكوف " ضابط مخابرات روسي كبير في استانبول لم يكن قد هرب بعد لكنه تقدم للسفارة البريطانية بطلب حق اللجوء السياسي و قرر فيه أنه يعلم علم اليقين أن المخابرات السوفيتية اخترقت المخابرات البريطانية . لم يعرف فولكوف شخصية العميل السوفيتي لكنه أشار الى عدة علامات تكشف عن شخصية العميل فيلبي
استشار فيلبي موجهه "يوري مردين " وكيل المخابرات الروسية الأسطوري الذي يشرف في لندن على شبكة العملاء الخمسة العاملين في بريطانيا وهم " فيلبي" و"ماكلين " و"بورجيس" و"أنتوني بلانت " و" جون كيرنكروس" ..
وجد مودن أن فيلبي لا يستطيع التعامل مع الجواسيس الروسيين المرتدين وأن على المخابرات السوفيتية أن تختار أشدهما خطرا وتتخلص منه واستقر الرأي على فولكوف وكان فيلبي –بحكم رئاسته للشعبة التاسعة – أن يستخلص المعلومات من فولكوف بنفسه عن أشخاص قال انهم اخترقوا المخابرات البريطانية لصالح روسيا
سافر فيلبي الى استانبول في الوقت نفسه الذي قررت المخابرات الروسية التخلص من التهديد المتمثل في ارتداد فولكوف ولم يكشف النقاب حتى الآن عما جرى لفولكوف غير أن شهود عيان رأوا جسما ملفوفا بأربطة الضمادات من الرأس الى القدم يزج على متن طائرة سوفيتية في مطار استانبول في نفس يوم اختفاء فولكوف فجأة
اتضح أن جوزينكو لم يكن على دراية بعمليات المخابرات السوفيتية داخل بريطانيا وهذا ما كان متوقعا ومن ثم عاد فيلبي الى لندن مطمئنا في نهاية الحرب ارتفع نجمه بثبات متألقا في سماء المخابرات البريطانية التي غابت عنها خيانته تماما بما في ذلك الارشاد عن الفدائيين من رجال المخابرات البريطانية العاملين ضد الشيوعية في دول البلطيق وعمليات أخرى مشابهة في أوروبا الشرقية
دار حديث في وكالة المخابرات البريطانية عن قرب ترقية فيلبي خلفا لمدير المخابرات "ستيوارت منزيس" وتأكدت الترقية بنقله عام 1949م رئيسا لمحطة المخابرات البريطانية في واشنطن , تحت ستار وظيفة سكرتير أول سفارة بريطانيا في أمريكا وكان من بين أهم واجباته المنوط بها أن يعمل كحلقة اتصال بين المخابرات البريطانية والمخابرات الأمريكية واعتبرت المخابرات السوفيتية هذا النقل ضربة حظ لم تكن في الحسبان لأن فيلبي يستطيع بمنصبه الجديد تزويد موسكو بأسرار المخابرات الأمريكية والبريطانية معا
انتقل فيلبي للاقامة في واشنطن وسرعان ما عرف سر أمريكا الأكبر شفرة اسمها "ف ي ن و ن ا" تستخدم في حل الشفرات موجهة مباشرة من لندن ونيويورك وواشنطن ضد شبكة المواصلات اللاسلكية للمخابرات السوفيتية خلال الحرب . شعرت واشنطن أن تغييرا طرأ على كثافة الاتصالات وساورهما الشك في أن ذلك راجع الى أن موسكو تحث عملاءها على تزويدها بالمعلومات في وقت تعاضم فيه الخطر على النظام الشيوعي وكان شكهما صحيحا
بدأت العملية باكتشاف كتاب شفرة سوفيتي محترقا جزئيا في فنلندا كشف عن مفاتيح شفرية حيوية كثيرة لحل رسائل السوفيت الشفرية ويبدو أن عدد عملاء روسيا في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا كان يقدر بالمئات وهؤلاء لا يمكن التعرف عليهم الا بأسمائهم الحركية ومع ذلك استطاع قراء الشفرة بمفاتيح أخرى مستمدة من رسائل مختلفة وركزوا اهتمامهم على الشخصيات البارزة خاصة عميل سرب معلومات عن مشروع القنبلة الذرية اتضح فيما بعد أنه كلاوس فوتشس , بل دوى ناقوس الخطر في صدر فيلبي حينما أشاروا الى عميل بريطاني يشغل منصبا مرموقا اسمه الحركي هومر يسرب المعلومات على جانب كبير من السرية من وزارة الخارجية البريطانية . وجاء في رسالة شفرية أن هومر سافر من واشنطن الى نيويورك ذات مرة ليزور زوجته الحامل المريضة وأشارت الرسالة مباشرة الى دبلوماسي بريطاني في واشنطن هو دونالد ماكلين .
باعتباره مسئول الاتصال البريطاني في واشنطن كان فيلبي عضوا في فريق المخابرات الذي راقب تطور نقد عملية "ف ي ن و ن ا " ومدى تقدم محاولة تحديد شخصيات عملاء السوفيت ومن ثم بادر الى تحذير المخابرات الروسية عام 1951م بأن قراء الشفرة قد دمغوا ماكلين . بهذا التحذير خشى مودن اذا قبض على ماكلين أن تنهار أعصابه ويسيء الى الشبكة السوفيتية باعترافاته فقرر تهريبه الى موسكو على أن تتم العملية بحذر ومهارة لأن فشلها يعني أيضا نهاية لفوائد فيلبي .
أسند مودن مهمة اخراج ماكلين من بريطانيا الى واحد من أهم عملاءه وهو "جاي بورجيس " الذي كان صديقا حميما لماكلين وكان في الوقت نفسه صديقا حميما لفيلبي يعيش في بيته منذ انتقل للعمل في أمريكا . كانت هذه علاقة مشئومة ازدادت سوءا حينما قرر بورجيس فجأة ولأسباب غامضة مرافقة ماكلين في رحلته الجوية نحو الشرق مما ركز الشك في فيلبي واعتباره الرجل الثالث الذي حذر ماكلين من اعتقال وشيك
كان الموقف برمته كارثة أصابت المخابرات السوفيتية في توقيت مذهل اذ شغل فيلبي منصبا استخباريا حساسا جعله على قيد شعرة من تولي رئاسة المخابرات البريطانية وفجأة يتحطم كل شيء بعمل طائش من جانب بورجيس بعد شهور قلائل أرسل مدير المخابرات الأمريكية " بيدويل سميث " رسالة جافة مقتضبة الى " ستيوارت منزيس" مدير المخابرات البريطانية نصها " استعيدوا فيلبي والا نقطع العلاقات الاستخبارية " وهكذا انتهت خدمة فيلبي الحقيقية للمخابرات السوفيتية . احتفضت به المخابرات البريطانية لكن في سحابة من الشك فلم يعد في موقف يتيح له بتزويد موسكو بالمعلومات التي تتوقعها منه . علاوة على ذلك صار عرضة لهجوم المخابرات البريطانية والأمريكية المضادة التي شكت في أنه كان الجاسوس الأعلى المشار اليه في عملية " ف ي ن و ن ا " بالاسم الشفري ستانلي وزاد الأمر سوءا أن عدد من المرتدين السوفيت في لندن وواشنطن قدموا أكوام المعلومات عن ضلوعه في الخيانة وأصبح واضحا في عام 1961م أن الخناق قد ضاق عليه ذلك أن عميلا آخر داخل المخابرات البريطانية اسمه " جورج بليك" تم القبض عليه وأدلى باعتراف كامل ذكر فيه بعض الشواهد تشير الى تورط فيلبي
تحرك مودن لانقاذ فيلبي فلجأ الى بند قديم في قانون المخابرات البريطانية – دله عليه شخصا ما زال مجهولا – يمنح فيلبي الحصانة مقابل اعتراف كامل . أسرع مودن الى بيروت حيث كان فيلبي يعمل جاسوسا للمخابرات البريطانية تحت ستار وظيفة مراسل صحفي
وكانت خطة مودن تتلخص في أن يتقدم فيلبي للمخابرات البريطانية بطلب استجوابه لمعرفة نوع ومقدار ما تأخذه عليه ثم يهرب الى موسكو بمجرد أن يكشف مستجوبوه كل أوراقهم وأدلى فيلبي –بالفعل- باعتراف محدود لا يتجاوز ما استشعر أن المخابرات البريطانية تعرفه . وفي 23يناير 1963م تسلل من حفل عشاء واختفى ثم أعلنت موسكو أنها منحته حق اللجوء السياسي
رحب الروس بفيلبي ترحيبا بالغا ومنحوه مسكنا فخما وتزوج فتاة صغيرة روسية لا تتجاوز سن بناته بعد طلاق زوجته الثالثة وأجزلوا له العطاء وصرفوا له مرتبا شهريا سخيا و دون أن يكلفوه بأي عملية استخبارية لأنهم لم يضعوه موضع ثقة كاملة فليس هناك ما يضمن لهم ألا يتحول الى خدمة الطرف الآخر وألا يقوم بدور الجاسوس ذي الوجهين فيعمل لصالح الغرب ما فعله لصالح موسكو وبناء عليه صار فيلبي رجلا انجليزيا منفيا بائسا يتجول في طرقات موسكو حاملا نسخة من جريدة "لندن تايمز " وهي ميزة سمحت له بها المخابرات البريطانية مع ممارسة لعبة الكريكيت . كان سكيرا ذكيا سريع البديهة حاضر النكتة كثيرا ما كان يرحب بزيارات الصحفيين البريطانيين ويسعده احترام كل الرسميين السوفيت له , ظل محافظا على مراسلة بعض أصدقائه الانجليز القدامى خصوصا " جراهام جرين " الروائي المعروف الذي كان زميله في المخابرات البريطانية والذي استنكر خيانة فيلبي حينما جعله بطلا لروايته " العنصر الانساني "
لم تتغير علاقة المخابرات الروسية بـــ فيلبي حتى عام 1980م حينما دعاه رئيسها "يوري أندروبوف " للخدمة مستشارا لعمليات روسيا في بريطانيا ولم يعرف أحد نوع المشورة التي قدمها فيلبي لكن فرصة عودته الى ميدان الاستخبار أسعدته كثيرا ولكنه أصبح معتلا ولم يظهر في أي مكان بدون قفاز أبيض يقي كفيه من حساسية جلدية خبيثة , كما أصيب بعدد من العلل التي استنزفت قواه ثم توفي عام 1988م .
لم يدخر السوفيت جهدا في تكريم أعظم عميل لهم على مدى تاريخهم حضر جنازته كل سياسي مهم وكل رجال الجاسوسية الروس وشيعوا جثمانه في موكب عسكري وأنعم على جثمانه برتبه جنرال ودفن حسب وصيته في مقبرة روسية وثبتت على صدره الأوسمة والنياشين قبل دفنه ومن بينها وسام لينين أرفع الأوسمة السوفيتية
أنتهى
تابع اشهر الجواسيس
فلاديمير فيتروف
لم تكن جريمة القتل شائعة الحدوث في موسكو خلال فبراير 1982م لذا أدرك رجال الشرطة أنهم يواجهون حالة غير عادية , حينما وصلوا إلى الحديقة العامة وشاهدوا جثة رجل مطعونة حتى الموت والمرأة المصابة بجروح بالغة وتأكدوا من أن الحالة أكثر غرابة حينما عرفوا أن القتيل ضابط كبير بالمخابرات السوفيتية وأن المرأة المصابة سكرتيرة بها
بمعنى آخر : كانت حالة مشحونة بتعقيدات سياسية .واستطاعت الشرطة بالكاد فهم هذه التعقيدات حينما حضر بعد ساعة من وصول الشرطة إلى مسرح الجريمة حشد من رجال المخابرات السوفيتية ومن بينهم كولونيل اسمه فلاديمير فيتروف يبلغ من العمر 54عاما . أشارت السكرتيرة المصابة إليه وأعلنت أنه القاتل الذي طعن القتيل حتى الموت وحاول قتلها . قبض رجال الشرطة عليه وعثروا على سكين ملوث بالدماء في جيبه .
كانت إحدى جرائم الانفعال الإنساني التي ابتلى بها المجتمع الانساني بين حين وآخر ولم يسلم منها مجتمع المخابرات السوفيتية . الذي حاول بشق الانفس التعتم علىأخبارها . أدلى فيتروف باعتراف مفصل ذكر فيه أن علاقة صداقة كانت تربطه بسكرتيرة المخابرات السوفيتية . وفي ذات ليلة أوقف سيارته في الحديقة
العامة وكانت السكرتيرة معه وفجأة جاء ضابط مخابرات
سوفيتية آخر كان يتمشى في الحديقة وطرق على نافذة
السيارة . كان قد عرف رفيقه في العمل وأراد أن يلقي عليهما التحية . لكن فيتروف أصيب بالذعر لسبب مجهول , ربما افترض أن رجل المخابرات السوفيتية على وشك اعتقاله فاستل السكين وأوسعه طعنا حتى الموت ولما حاولت السكرتيرة الهرب من مسرح الجريمة تعقبها فيتروف وكال لها الطعنات ثم ترك المكان معتقدا أنها توفيت , لكنه عاد بعد ساعة للتأكد من وفاة الضحيتين
ارتابت عقول رجال المخابرات السوفيتية المضادة للاستخبار الأجنبي في هذا المشهد الدرامي. لماذا انزعج فيتروف عندما رأى ضابط مخابرات آخر ؟ ما حقيقة الأمر بينه وبين هذا الضابط ذي الرتبة العالية ؟ تحت أي ضغط رهيب ارتكب جريمته ؟
لم تصل المخابرات السوفيتية إلى إجابات فورية , فقررت أن تضع فيتروف تحت مراقبة شديدة . وجهت إليه تهمة القتل وحكم عليه بالسجن 12عاما . ووضع تحت رقابة مشددة من المخابرات السوفيتية على أعماله وتحركاته مع مراقبة ما يرسله من خطابات وما يصل إليه من بريد . وأخيرا وجدوا مفتاحا لسر جريمته . كتب فيتروف في رسالة لزوجته إن جريمة القتل أجبرته على التخلي عن شيء كبير
بدأت المخابرات السوفيتية تضيق الخناق على فيتروف .لا يعرف أحد ما إذا كان قد عومل بأدوات التعذيب الجهنمية أم لا ولكن النتيجة كانت وثيقة كتبها بخط يده وجعل عنوانها " اعتراف خائن " كانت الوثيقة صدمة محزنة للمخابرات الروسية لأن فيتروف صرح فيها بأنه خان بلاده لحساب المخابرات الفرنسية عدة سنوات . والأسوأ من ذلك أنه أفشى أعظم أسرار وكالة الاستخبارات السوفيتية .
أول صدمة هي أنهم كانوا يعتبرون فيتروف من أكثر ضباط المخابرات السوفيتية ولاء والتزاما وإنجازا .. فكيف به يخون وطنه ؟ كان مهندسا نابغة جندوه للمخابرات السوفيتية بعد تخرجه مباشرة وكلفوه بمهمة تأسيس أكثر وحدات المخابرات السوفيتية سرية وهي المعروفة باسم " خط إكس " ومهمتها لا تقل عن إنقاذ الاتحاد السوفيتي .
في عام 1964م حينما تم إنشاء خط إكس. كانت المخابرات السوفيتية واللجنة التنفيذية للحزب الشيوعي يعرفان أنهما يخسران الحرب الباردة لصالح الغرب . والمسألة مسألة تكنولوجيا . كان النظام السوفيتي يتأخر أكثر وأكثر وراء الغرب في كل مجالات التكنولوجيا والعلوم , خاصة العلوم العسكرية . أبلغ علماء الكومبيوتر السوفيت اللجنة التنفيذية للحزب الشيوعي أن تكنولوجيا السوفيت وراء الولايات المتحدة الامريكية بما لا يقل عن 30 سنه وأن الفجوة تتسع بمرور اللحظات والنتيجة الطبيعية لذلك هي أن يتأخر الاتحاد السوفيتي وتفوز التكنولوجيا الغربية باليد العليا ويتحول الاتحاد السوفيتي إلى نمر من ورق.
كان الاقتصاد السوفيتي ضعيفا والقاعدة العسكرية أضعف ولا أمل للسوفيت في اللحاق بمسيرة الغرب فاتجهوا إلى إعادة صياغة المخابرات السوفيتية وتوجيهها نحو سرقة كل قطعة تكنولوجيا غربية تقع تحت ايدهم وكان على خط إكس أن يقوم بهذه المهمة الجديدة , أن يجند جيشا كاملا من الجواسيس المهندسين والفنيين والعلماء الذين يعرفون صيدهم وكيف يحصلون عليه
نجح خط إكس ببراعة وخلال عام واحد سرقت المخابرات السوفيتية أكثر من 5000عينة صناعية من الاتحاد السوفيتي ودول غربية أخرى . اندهش الخبراء العسكريون للسرعة التي حصل بها السوفيت على أكثر التكنولوجيات تقدما وأدخلوها في تصميماتهم واستطاع خط إكس بالتعاون مع المخابرات السوفيتية شراء ما تعذر عليهم سرقته وعرفت وكالات المخابرات الغربية تدريجيا عمليات نقل تكنولوجيا ضخمة إلى الكتلة الشرقية بمختلف الطرق بما فيها رشوة المهندسين والعلماء وموظفي الجمارك وشراء خرائط التصميمات .
ورغم هذه النجاحات كان لفيتروف شكوكه وآراءه الخاصة . كان يفكر
في المواطن السوفيتي العادي
. وكان يتمنى دائما أن يرفع التقدم التكنولوجي مستوى معيشة شعب روسيا . لكنه رأى محطات الفضاء السوفيتية تطوف الأرض والآلة الحربية السوفيتية تنمو شيئا فشيئا بينما الشعب لا يحظى بنصيب التقدم . كان الاتحاد السوفيتي دائم القلق على قوته العسكرية , يصب أكثر ما يمكن من دخله في اقتناء السلاح , وبينما الصواريخ السوفيتية الجبارة تتعاظم أمام الكرميلين في مايو كل عيد عمال حين يقام المهرجان الضخم والعرض العسكري الكبير كان أفراد الشعب الروسي يقفون صفوفا طويلة في الطرقات في عرض شعبي آخر لكن لشراء رغيف الخبز أو كسرة منه
احتفظ فيتروف لنفسه بهذه الشكوك . وفي عام 1965م انتدب في مهمة إلى باريس ليفتش على عمليات خط إكس في غرب أوروبا . وبدأ يلاحظ البين الواضح بين المواطن الفرنسي العادي ونظيره الروسي . حتى أفقر الأسر الفرنسية كانت تعيش عيشة أرقى وأوفر نعمة . ونمت شكوكه وعلمت بها المخابرات الفرنسية من خلال لقاء غير متوقع لانه أثبت أنه خطير
تورط فيتروف ذات يوم في حادث سير خطير . لم يصب بسوء , لكن سيارة الرجل الفرنسي التي صدمها أصبحت حطاما . وبشهامة نادرة عرض الرجل الفرنسي أن يدفع تكاليف الأضرار ورتب أمر الإصلاحات . ونشأت صداقة حميمة بينه وبين فيتروف الشاكر وبدأ الرجل الروسي يتحدث عن شكوكه للرجل الفرنسي دون أن يعرف أنه من رجال المخابرات الفرنسية
ما لم يكن يعرفه فيتروف هو أن الرجل الفرنسي الذي زعم أنه رجل أعمال كان عميلا للمخابرات الفرنسية المضادة للجاسوسية . عرفت المخابرات الفرنسية أن فيتروف لم يكن مجرد دبلوماسي بسيط كما زعم لذا تساءلت عن كيفية استغلال عدم رضاه عن الأوضاع في بلاده وقررت أن تعامله بحذر شديد لأن تحرياتهم عنه أقنعتهم أنه ضابط مخابرات سوفيتية على درجة عالية يحتمل ضلوعه في عمليات سرقة التكنولوجيا وعلى حد علم المخابرات الفرنسية كانت فرنسا آنذاك تنزف أكثر تكنولوجيتها حيوية وأهمية لذا رأت أن تجنيد فيتروف يوقف هذا النزيف
في عام 1970م انتفت جولته في فرنسا فاستدعوه إلى موسكو للعمل في مقر قيادة المخابرات السوفيتية . ظل صديقه رجل الأعمال الفرنسي على اتصال به لكنه لم يحاول تجنيده مباشرة واكتفى فقط بجعله على يقين من أن له صديقا في فرنسا . يستطيع في أي لحظة أن يخدمه . وكوفئت المخابرات السوفيتية على صبرها عام 1980م حينما كتب فيتروف عبارة حذرة في خطاب إلى صديقه الفرنسي يطلب منه مقابلة عاجلة في موسكو
وأخيرا تحرك فيتروف . حدث اللقاء في موسكو وتأكدت شكوك المخابرات الفرنسية . عرض فيتروف أن يخدم كجاسوس خائن لبلاده في المخابرات السوفيتية . في لقاءات متتابعة سلم فيتروف تحت أسوار الكرملين نسخ وثائق سرية جدا كلها مختومة بعبارة " ممنوع التصوير "
تكشف الوثائق عن كل ما يعرفه عن عمليات السرقات التكنولوجية التي قامت بها المخابرات السوفيتية . حلل فيتروف أسلوبه في إلتقاط صور الوثائق بأجهزة شعبة جاسوسية التكنولوجيا والوقت الذي يستغرق في التصوير . فخشى أن يتعرض للشك وزودته المخابرات الفرنسية بجهاز تصوير خاص فائق السرعة يمكنه تصوير خزينة ملفات وثائق بأكملها في زمن وجيز
كان فيتروف يسلم أفلام الصور لظابط اتصال يعمل ملحقا عسكريا في السفارة الفرنسية . كان الحلفاء الغربيون يشتركون في الكنوز وكانت تعود عليهم بفائدتين : فقد كشفوا الأهداف التكنولوجية التي تسعى إليها موسكو وتهتم بمعرفتها وفي الوقت نفسه اكتشفوا مواطن الضعف التكنولوجي في العسكرية السوفيتية وعلاوة على ذلك تعرفوا على شخصية حوالي 300عميل تورطوا في سرقات تكنولوجية وتوصلوا إلى أكثر من 100عميل في الغرب كانوا يسعدون في إتمام العمليات
كانت كارثة من الدرجة الأولى بالنسبة للمخابرات السوفيتي وكان يمكن أن تكون الكارثة أعظم لو لم يرتكب فيتروف جريمة القتل في الحديقة العامة عام 1982م بسبب توتر حياته المزدوجة . وبمجرد أن علمت فرنسا أن فيتروف قد اعتقل قررت – مع الحلفاء الغربيين – شد البساط من تحت أقدام خط إكس فطرد من فرنسا 47ضابطا من رجال المخابرات السوفيتية يعملون تحت المظلة الدبلوماسية و 150جاسوسا من دول أخرى وأسرعت المخابرات السوفيتية بسحب 200 عميل آخرين قبل أن يتم اعتقالهم أو طردهم واعتقل الحلفاء الغربيون عددا من العملاء
وهكذا انهارت عمليات خط إكس تاركا الاتحاد السوفيتي أكثر ما يكون عرضة للعطب , في الوقت الذي بدأ البناء الأمريكي العسكري الضخم يزداد نموا أثناء إدارة " رونالد ريجن " واضطر السوفيت إلى الاعتماد على مصادرهم الخاصة مؤقتا دون تقدم يذكر بل أدى التخبط إلى انهيار الاتحاد السوفيتي وكان ذلك من أهم الأسباب لانهيار الاتحاد السوفيتي نفسه بعد عدة سنوات.
أما بالنسبة لــ فيتروف فيمكن تخيل ضراوة غضب المخابرات السوفيتية عليه فرأت أن تقدمه للمحاكمة . لكنه أعلن بصراحة أنه سيجعل من المحاكمة منبرا للحديث عن فشل زعامة الاتحاد السوفيتي واتهام المخابرات السوفيتية بالفساد والعربدة . ورفض أن يشترك في محاكمة مسرحية يردد فيها النص الذي يملى عليه
وصمم أن يضيف إلى اعترافه العبارة التالية :" أسفي الوحيد هو أني لم أستطع أن أتسبب في أضرار أكثر للاتحاد السوفيتي وتقديم خدمات أكثر لفرنسا "
ولما يئست المخابرات السوفيتية قررت إخراج فلاديمير فيتروف من زنزانته ذات صباح من ربيع عام 1983م وإعدامه رميا بالرصاص
انتهى
رسالة جاءتني عبر الإيميل