في كتابه "حرب الأمم الضعيفة: مصر في الحرب العالمية الثانية 1939- 1945" الصادر حديثاً باللغة العبريّة، قام أستاذ التاريخ الثقافي المصري في جامعة تلّ أبيب الباحث إسرائيل غيرشوني بـ"تحطيم الأسطورة السائدة حول دعم النخب المصرية للنازيّة والفاشيّة خلال الحرب العالميّة الثانية".
هكذا وصف الكاتب في صحيفة "هآرتس" الإسرائيليّة أوريت باشكين خلاصات الكتاب المؤلَّف من جزئين.
بل الخوض في تفاصيل ما طرحه غيرشوني بشأن الموقف المصري من النازية، والحجج التي ساقها لدعم رأيه، لفت باشكين إلى راهنيّة الكتاب وأهميته في وقت "لا تزال الكتابة عن الحرب العالميّة الثانية مسألة موجعة، مسيّسة وإشكاليّة في إسرائيل".
يقول باشكين: "كثيرون في الشرق الأوسط عارضوا النازية والفاشية ومدّوا يد المساعدة لليهود في محنتهم… فكيف يمكن التغاضي، إذاً، عن خطاب الأحزاب اليمينية الغربيّة (حتى في إسرائيل نفسها) الراهن الذي يميل إلى مقارنة المسلمين بالنازيين؟".
في كتابه الجديد، أطلّ غيرشوني على المجتمع المصري إبان الحرب العالمية الثانية بمنظار مختلف، بينما ركّز اهتمامه على فترتين حاسمتين: الأولى حين حاولت قوات الزعيم الإيطالي بينيتو موسوليني تحدي السيطرة البريطانية على المنطقة في سبتمبر 1940، والثانية، وهي الأهم بالنسبة للكاتب، ترتبط باندلاع معركة العلمين عام 1942، والتي انتهت بهزيمة فيلق إفريقيا الألماني بقيادة رومل على يد بريطانيا.
بحسب المفهوم الشائع، دعمت النخب المصرية ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية خلال الحرب العالمية الثانية، لكن غيرشوني يدحض ذلك تماماً، مستخدماً العديد من المقالات والرسوم الكرتونية التي نشرتها الصحف المصرية آنذاك، فضلاً عن أفلام وبرامج إذاعيّة عدة تمّ عرضها في تلك الفترة.
وقبل أن يسوق حججه، يفسّر كيف شاعت الفكرة الخاطئة حول دعم مصر للنازية والفاشيّة.
برأيه، كانت القوات "المعادية للديمقراطية" التي وصلت إلى الحكم بعد عام 1952، إلى جانب المؤرخين الذين كتبوا عن تلك المرحلة، وراء تشويه الأحداث، إذ وضع هؤلاء الوطنيين المصريين في موقع الداعم لقوى المحور أملاً في إنهاء الإمبريالية البريطانية بأي ثمن.
ويكمل غيرشوني في تفنيد أصل الفكرة الخاطئة بالقول: "من جهة، كان هناك مؤرخون كناداف سافران (Nadav Safran) وب. ج. فاتيكيوتيس (P.J. Vatikiotis) ممن أمعنوا في تسويق تلك الفكرة، ومن جهة أخرى كان هناك واقع أن حزب الوفد الديمقراطي الذي وصل إلى السلطة بمساعدة القوى البريطانية عام 1942 خالف إرادة الملك فاروق وكان يفتقر إلى الدعم الشعبي".
ويشرح غيرشوني أن تلك السرديّة ناسبت طموحات البعض ما بعد الاستعمارية في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات.
ينتقل الكتاب ليرسم صورة مختلفة لمصر: أمة ترزح تحت الحصار خلّفت فيها الضربات الجوية، وتحديداً التي استهدفت الإسكندرية، دماراً في الأرواح والممتلكات؛ أمة كانت فيها السلطات الرئيسية، حزب الوفد نفسه والطبقات المتعلمة، خائفة من العدو الألماني؛ أمة كانت فيها الطبقات الوسطى مستعدة للقبول بالإذلال الجزئي لملكها وتأليف حكومة موالية لبريطانيا لأنها رأت في الأخيرة أهون الشرّين، بمعنى آخر رأت فيها خطوة نحو حماية البلاد من النازية.
يخلص مجلدا الكتاب الضخمان، وفقاً لكاتب "هآرتس"، إلى أن مصر اتخذت قرارها بدعم الحلفاء بالرغم مما ينطوي عليه ذلك من إذلال وطني، نظراً إلى تاريخ الاحتلال البريطاني لمصر.
هكذا، وعلى الرغم من عدم إعلان مصر رسمياً الحرب ضدّ ألمانيا، دعمت الدولة المصرية بريطانيا ومن الأمثلة على ذلك توظيف 250 ألف مصري في القواعد العسكرية والمخيمات البريطانية إبان الحرب.
ليست المرة الأولى التي يدرس فيها غيرشوني موقف العرب من النازية. في العام 2014، صدر للباحث كتاب حمل عنوان "ردود العرب على النازية والفاشيّة: الانجذاب والنفور".
تطرّق إلى هذا الكتاب الباحث جيلبير الأشقر في كتابه "العرب والمحرقة النازية"، وقال: "إنها لمأثرة اجترحها إسرائيل غيرشوني… إذ قام بتفكيك المروية المهيمنة التي تزعم، على الرغم من كلّ الأدلة الوثائقية، أن غالبية من المصريين كانت مفتونة سياسياً وفكرياً بالنازيين في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي".
يعود غيرشوني الآن إلى نفس القضية بكتابه الجديد، بينما تسعى الدعاية الإسرائيليّة والغربية (ببعض أطيافها) الحالية إلى تكريس أوجه تقارب بين العرب والنازيين، في وقت كان بإمكان الصهاينة أنفسهم التمييز بين الطرفين في ثلاثينيات القرن الماضي.
يفنّد الباحث، بدقة ومنهجيّة، ردود الفعل الإعلامية والشعبية على الحرب، لافتاً الانتباه إلى الطريقة "المثيرة للإعجاب" التي عبّر فيها المفكرون والفنانون والكتاب المصريون عن آرائهم متحدّين الرقابة.
ونشرت صحف ومجلات معروفة كـ"روز اليوسف" و"الاثنين والدنيا" صوراً سخرت من قادة قوى المحور، ومنها ظهور هتلر في صور شهيرة كشيطان متعطش للقوة ومبعوث للشيطان، في وقت ظهر الحلفاء بصورة شجاعة ونبيلة كما حين تمّ تصوير الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت كعملاق يهزم هتلر.
بموازاة الصور، كانت هناك مقالات وخطابات أظهرت وجهات نظر السياسيين وحزب الوفد والنخب في موقع معادٍ للشمولية والعدائية والديكتاتورية لصالح الأجندة الديمقراطية.
"غيّر الكتاب هرميّة التاريخ الفكري من وجهة نظرنا"، يقول باشكين في "هآرتس" شارحاً كيف وُجد كذلك نقدٌ صارم وفعال في الشرق الأوسط ضد النازية والفاشية. ومن بين الأسماء البارزة في تشكيل هذا النقد، تحدث الكتاب عن كلّ من توفيق الحكيم ونجيب محفوظ.
ويقارن غيرشوني بين العمل البارع الذي قامت به حنة أرندت في ربطها بين الشمولية والاستعمار وبين ما توصلت إليه النخب المصرية (وهي بدورها ضحية الاستعمار البريطاني) في دراسة الاستعمار المقارَن، إذ خلصت إلى أن الاحتلال الإيطالي، والأهم الاحتلال الألماني، ينطوي على نوع جديد من العنصرية اعتبرته أسوأ من أنواع أخرى شهدتها فترات الاحتلال السابقة.
ومن بين أصحاب تلك النظرية مَن درس في فرنسا وخبِرَ مخاطر الفاشية كما عاين عن كثب ارتباطها بالاستعمار والعنصرية والديكتاتورية والاستبداد. هؤلاء أنفسهم، حسب وصف غيرشوني، رأوا في مصر أمة ضعيفة تحت الحصار وغير قادرة على الوقوف وحدها في وجه الوحوش التي صنعتها أوروبا، ما يحتّم دعمها لبريطانيا خلال فترة الحرب.
ويُظهر الكتاب أن المخاوف المبكرة من الفاشية تعود إلى الثلاثينيات حين كانت إثيوبيا ترزح تحت الاحتلال الإيطالي. وفي مجموعة من المقالات الفلسفية، تحدث (توفيق) الحكيم عن قوى الحلفاء التي تدافع عن الحضارة الإنسانية بوجه قوى الشر التي عززت العنف والحرب والبربرية.
ويذكّر غيرشوني أن مصر عارضت التمرّد المدعوم من ألمانيا في العراق عام 1941، والذي شهد مذبحة بحق يهود بغداد، ووصفت زعماءه بعصابة من الطغاة، حتى أن "الإخوان المسلمين" خففوا من حدة نشاطهم المناهض لبريطانيا حتى أواخر عام 1944.
بموازاة ذلك، اتخذ الخطاب المعادي للنازية بعداً فلسفياً، إذ جادل علماء الدين بأن الإسلام، الدين المرتكز على مسؤولية الفرد تجاه خالقه، يتعارض مع مبادئ النازية والفاشية، كما نظر آخرون إلى معاداة السامية كمرض نما في ألمانيا النازية التي "طردت اليهود بأحمق الوسائل وأبشع الطرق التي لم تعرفها حتى القرون الوسطى". وركّز آخرون على حقيقة أن النظرية العنصرية الآرية تحتقر العرب وتنظر إليهم كمخلوقات دنيا.
يعلّق باشكين في "هآرتس" على كتاب غيرشوني قائلاً إن الأخير كان بإمكانه بالمقابل استعراض النخب والقوى التي دعمت النازية والفاشية، من دون أن يقلّل من أهمية طرحه الأساسي.
كما كانت الانتقادات التي لحقت بريطانيا العظمى خلال تلك الفترة تستأهل إضاءة من الكاتب، حسب باشكين الذي تساءل هل كان يشعر المصريون بالاستغلال حينها؟ وأشار إلى الأصوات المعترضة التي تعالت في الهند إثر المجاعة التي تسببت بموت الملايين في البنغال بينما كانت موارد الهند تنصبّ في دعم الحرب.
مع ذلك، يمثل الكتاب، حسب "هآرتس"، إنجازاً هائلاً إذ يوثّق وضع الحرب في مصر بكل تعقيداته، ويسلّط الضوء على قصة أخرى من قصص معارضة النازية والفاشية في الشرق الأوسط: من الشيوعيين في العراق الذين حذروا النخب العسكرية من إيذاء اليهود عام 1941 إلى الأكاديميين اليهود الذين وجدوا ملجأ في تركيا، والناشطة الفلسطينية نجاتي صدقي التي شاركت في الحرب الأهلية الإسبانية، وبعد ذلك كتبت كتاباً عن التناقض بين الفاشية والإسلام (والذي كتب عنه غيرشوني مقالة هامة باللغة الإنكليزية)، وحالات كثيرة غيرها.
يلفت باشكين في النهاية إلى النظام التعليمي الجديد الذي بات يقوم على أسلوب جديد لمقاربة تاريخ الدول الإسلامية. وبينما يستهدف غيرشوني بكتابه شريحة أكثر تخصصاً من القراء، أمل الكاتب أن يجد الأساتذة والأكاديميون وسيلة لإدخال الكتاب إلى المدارس الإسرائيلية لـ"أهمية الاعتراف بالحلفاء القدماء - الجدد، الذين أعاد لهم غيرشوني الاعتبار بجهد وإعجاب كبيرين".
اضغط هنا