غالباً ما يدرس التاريخ بالتركيز على السلطة وتحولاتها على الأرض، ولكن التاريخ الإسلامي، مرتبط دون شك بالبحار، وعلاقة الأساطيل وحروبها البحرية لا تقل أهمية عن أي من عوامل السيطرة والقوة.
لعل القرن الخامس عشر (أي التاسع هجري) خير مثال على ذلك، حيث شهد البحر المتوسط أهمّ أشكال الصراع والتنافس.
تتبع المقالة هذا التنافس في قصة تحالف بين بحار يهودي، هو سنان ريس، وأمير البحار العثماني خير الدين بارباروسا (بربروس)، في مقابلة أسطول أوروبي هائل العدد والعدة، وتفصل كيف استطاعا معاً أن يحققاً نصراً لم يكن ممكناً لأي منهما دون الآخر، فكان من أهم الأحداث البحرية في تاريخ المسلمين.
العثمانيون وأوروبا: كيف جرى التمهيد للصدام؟
مما لا شك فيه أن القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، قد شهد منافسة حامية الوطيس بين طرفي المتوسط.
في هذا القرن، وقعت حادثتان على قدر كبير من الأهمية والمكانة في تاريخ المسلمين والمسيحيين خصوصاً، والتاريخ الإنساني بوجه عام، وهما على الترتيب دخول العثمانين إلى مدينة القسطنطينية عام 856هـ/ 1453م، وضمّ الإسبان لمملكة غرناطة في 897هـ/ 1492م.
فبينما كانت الخلافة العثمانية تحرز تقدماً إستراتيجياً هائلاً باستيلائها على عاصمة الإمبراطورية البيزنطية الحصينة، فإنه -وفي الوقت ذاته- قد خسرت الأندلس للخصم الأوروبي موقعها الأخير في شبه الجزيرة الأيبيرية.
تلك الحالة الجدلية المزدوجة، تبدّت معالمها في الحالة المضطربة التي عاشتها كلّ من طرفي السلطة والصراع من أهل ذلك العصر، فبينما تصاعدت طموحات الطرف الأول في اجتياح القارة الأوروبية، فإن الطرف الثاني قد بدأ في إعداد الخطط وحشد الحشود لغزو بلدان العمق الإسلامي وتحويلها لمستعمرات.
وفي خضم تلك الأحداث المتلاحقة، اعتلى السلطان العثماني الأشهر سليمان الأول بن سليم الثاني، والمعروف بسليمان القانوني، كرسي الإمبراطورية العثمانية، وصوب ناظريه تجاه قلب العالم المسيحي في الفاتيكان، معتزماً الاستيلاء عليه وتحويله لمدينة إسلامية.
الظروف السياسية والدينية في أوروبا حينذاك، مهدت الطريق لأحلام القانوني التوسعية، ذلك أن العداء كان قد استحكم ما بين أكبر ملكين في أوروبا، وهما حاكم الإمبراطورية الرومانية المقدسة كارلوس الخامس، الذي اعتاد العثمانيون تسميته بشارلكان، وفرانسوا الأول ملك فرنسا.
كما أنه في الوقت ذاته، كانت دعوة رجل الدين الألماني مارتن لوثر وأتباعه ممن عرفوا باسم البروتستانت، قد استأثرت باهتمام البابا ليو العاشر وشغلته عن التفكير في الشأن السياسي كعادة أسلافه من باباوات الفاتيكان.
بحسب ما يذكره محمد فريد بك في كتابه "تاريخ الدولة العلية العثمانية"، فإن السلطان سليمان قد استغل فرصة الهزيمة المذلة التي تعرض لها فرانسوا على يد شارلكان، ليمد يده إلى الأول متحالفاً معه ومسانداً إياه، ولتبحر الأساطيل العثمانية إلى القواعد البحرية الفرنسية في تولوز ونيس لحمايتها من الهجوم الإسباني المحتمل.
وبذلك وجد العثمانيون معقلاً لهم في قلب العالم الأوروبي، وفي الوقت نفسه، فإن القانوني وجّه جيوشه للاستيلاء على مناطق واسعة في المجر وصربيا والبلقان.
ولكن مع تنصيب البابا بول الثالث في 13 أكتوبر 1534م، فإن نوعاً من التوازن قد وقع ما بين كفتي ميزان المعادلة السياسية الأوروبية، وذلك عندما قام البابا بإصدار قرار حرمان كنسي ضد فرانسيس الأول، مما اضطر معه الأخير لإلغاء تحالفه مع العثمانين، ولإبرام معاهدة نيس في 945هـ/ 1538م مع غريمه اللدود شارلكان، لتتوحد أوروبا مرة أخرى ضد الجار المسلم العثماني المتحفز، ولتتجهز الأجواء لوقوع معركة كبرى ما بين أكبر حاكمين عرفهما العالم في ذلك الوقت.
بارباروسا وسنان: كيف جمعتهما الظروف؟
خير الدين بربروس بقلم الفنان الإيطالي أغسطينو دي موسي (1536)، من مقتنيات المعرض الوطني للفنون (واشنطن)
في ظل جميع تلك الظروف الصعبة التي طالت المنطقة الأوروبية في تلك الفترة، تطل قصة أخرى لا تقل سخونة وإثارة، وهي قصة البحار المسلم خير الدين بارباروسا والبحار اليهودي الريس سنان.
بحسب ما يذكر الدكتور محمود السيد الدغيم في بحثه "تاريخ البحرية العثمانية حتى نهاية عهد الخليفة سليم الثاني"، فإن عائلة بارباروسا قد ظهرت على سطح الأحداث السياسية في وقت مبكر من القرن السادس عشر الميلادي، حيث كان الإخوة بارباروسا الأربعة (إسحاق، وعروج، وخضر، وإلياس)، قد عرفوا بأخبار سفراتهم البحرية التجارية المتعددة في شتى سواحل البحر المتوسط.
وبحسب المرجع السابق، فإن عروج قد تم أسره في جزيرة رودس على يد بعض القراصنة المسيحيين، ولكنه استطاع أن يهرب واتصل ببعض الأمراء العثمانيين عارضاً عليهم أن يضع قدرات وإمكانات أسرته في خدمة طموحاتهم التوسعية في البحر المتوسط.
وبمجموعة قليلة من السفن الحربية، تمكن آل بارباروسا من إقناع سلطان الحفصيين بمنحهم جزيرة جربة لتصبح قاعدة لشن هجماتهم البحرية على الإسبان.
جهود عروج وإخوته نجحت في إنقاذ نحو 70,000 مسلم ويهودي تعرضوا للاضطهاد على يد محاكم التفتيش في شبه الجزيرة الأيبيرية، حيث تم نقلهم من السواحل الأندلسية إلى شواطئ المغرب والجزائر وتونس.
ومع اتساع نفوذ عروج العسكري في السواحل المغربية، وجد الإسبان أنه قد أضحى من اللازم عليهم التخلص من هؤلاء البحارة الذين سببوا الكثير من المشكلات للتاج الإمبراطوري، فجرى تجريد حملة ضخمة على مدينة تلمسان، بعد الاتفاق مع حاكمها على الإيقاع بعروج وإخوته.
وبالفعل، نجحت المساعي الإسبانية في تحقيق هدفها، حيث تم غزو تلمسان وقُتل عروج وأخوه إسحاق في ذلك الهجوم، بينما نجا خضر، المعروف باسم خير الدين.
كان الالتجاء إلى العثمانيين هو الخيار الأكثر منطقية لدى خضر في ذلك الوقت، فقد كان القانوني يبحث عن السيطرة في البحر المتوسط، بينما كان الأخ الوحيد المتبقي من عائلة بارباروسا، يملك الخبرة والدراية الكافية لتحقيق ذلك الهدف، وهكذا حدث اللقاء ما بينهما وتم الاتفاق على أن يقود خير الدين الأساطيل العثمانية، وأن يتصدى لهجمات البحار الجنوي أندريا دوريا، التي عانى العثمانيون كثيراً من نتائجها في الأعوام الأخيرة.
وبالتوازي مع تلك الأحداث المتسارعة التي شارك فيها آل بارباروسا، كان هناك تقارب آخر يتم ما بين واحد من كبار البحارة اليهود المعروفين في البحر المتوسط من جهة، والدولة العثمانية من جهة أخرى: كان هذا البحار هو سنان ريس، وهو بحار يهودي أندلسي الأصل.
رغم أن المعلومات حول بدايات حياته غامضة نوعاً ما، إلا أن هناك اعتقاداً قوياً بأنه كان ابناً لواحدة من عائلات اليهود السفارديم المرحلين من غرناطة عقب نهاية الحكم الإسلامي بها، وهو أمر غير مستغرب على الإطلاق، إذا ما عرفنا أن ما يقرب من مليوني يهودي كانوا يعيشون في ظل الحكم الإسلامي بالأندلس، وذلك بحسب ما يذكره بسام العسيلي في كتابه "خير الدين بربروس والجهاد في البحر".
بدأ سنان خبراته في البحر المتوسط بإنقاذ مجموعات كبيرة من اليهود العالقين في أراضي إسبانيا والبرتغال، ومن المؤكد أن الفظائع والأهوال التي قصها عليه الناجون من تلك المآسي أثرّت به، فقد كانت الأندلس أرضه وبلده التي أجبر على تركها مثل ما حلّ بهم، مما جعله يعتبر أن ملك إسبانيا هو عدوه الأول الذي يجب قتاله ومحاربته.
وبعد فترة قضاها البحار اليهودي في القرصنة على السفن التجارية الإسبانية والبرتغالية، انضم سنان للأسطول العثماني، وترقى في الوظائف حتى أصبح واحداً من بين كبار قادة الأسطول، ونال رتبة ريس، وهي رتبة تلي رتبة أمير البحار بشكل مباشر.
سنان الأندلسي حليف العثمانيين الملقب بـ"اليهودي العظيم"
مهارة سنان وكفاءته البحرية تبدت في الكثير من المعارك البحرية في البحر المتوسط، فقد تمكن من تحقيق الانتصارات على الأساطيل الإيطالية في جنوا وبيزا وفلورنسا، وهو الأمر الذي تسبب في ذيوع اسمه في أنحاء المعمورة، لدرجة أن حاكم الهند البرتغالية قد أطلق عليه اسم "اليهودي العظيم" عندما بلغته بعض الأخبار التي تفيد بأن السلطان سليمان قد وجه سنان لمساعدة المسلمين في الهند، وذلك حسبما يذكر الكاتب إدوارد كريتزيلر في كتابه "البحارة اليهود في الكاريبي".
المعلومات المتوفرة لدينا عن اللقاء الأول ما بين بارباروسا وسنان، قليلة إلى حد كبير، غير أن مذكرات بارباروسا قد تضمنت العديد من الإشارات التي تبين المكانة الكبيرة والاحترام الهائل الذي شغلته شخصية سنان في نفس خير الدين، وهو ما يظهر بشكل خاص أثناء حديث بارباروسا عن فتح تونس وحروبه مع الإسبان فيها، فقد أشاد كثيراً بجهود سنان ريس في المواقف الصعبة التي جرت في عملية الغزو، حيث يقول مثلاً:
"في هذه الأثناء سقطت قلعة حلق الوادي، إلا أن سنان رئيس تمكن من الانسحاب إلى المدينة بمن بقي معه من البحارة الأتراك لينضم إلينا... لقد استحق سنان رئيس تقديراً كبيراً بذلك الانسحاب بعدما قطعت الأمل في نجاتهم، إن كفاءته العالية مكنته من إنقاذ البحارة من الطوق الذي ضربه عليهم العدو".
بارباروسا وسنان: تحالف قلب موازين القوى
كانت الغزوات البحرية المتعددة التي قام بها بارباروسا وسنان ريس على سواحل أوروبا، قد أضحت عبئاً ثقيلاً على القوى الأوروبية، ولذلك تم الاتفاق على تشكيل أسطول أوروبي موحد بغرض تحطيم القوة البحرية العثمانية.
شاركت كل من إسبانيا وألمانيا والنمسا والبندقية والبرتغال وجنوة ومالطا، في تعبئة ذلك الأسطول العظيم الذي تكون من 600 قطعة بحرية مختلفة الحجم والتجهيز، وكان عدد المقاتلين المشاركين في تلك الحملة يقترب من الستين ألف جندي، يقودهم البحار المخضرم أندريا دوريا، وذلك بحسب ما يذكره بارباروسا في مذكراته.
توجه الأسطول الذي عُرف باسم "الرابطة المقدسة" نحو الشواطئ اليونانية على البحر المتوسط، والتقى هناك بالأسطول العثماني الذي يقوده بارباروسا وسنان ريس، وذلك في منطقة بروزة.
ورغم أن تجهيزات وإعدادات الأسطول العثماني، المكوّن من 122 سفينة وعشرين ألف جندي فحسب، كانت أقل بكثير من نظيره الأوروبي، فإن العثمانيين قد اتخذوا القرار بحتمية المواجهة والقتال.
ومن المؤكد أن التحالف بين الاثنين أدى دوراً محورياً في اتخاذ ذلك القرار، ذلك أنّ بارباروسا وسنان كانا يطمحان للانتصار على الإسبان بشكل عام، وعلى قائدهم أندريا دوريا بشكل خاص.
وفي 4 جمادى الأولى 945هـ/ 28 سبتمبر 1538م، وقعت المعركة الكبرى ما بين القوتين في بروزة، واستطاع العثمانيون من خلال استخدامهم المتقن لمدافعهم البعيدة المدى أن يلحقوا خسائر بالغة بالأسطول الأوربي، وهو ما أجبر أندريا دوريا على الانسحاب من المعركة بعد خمس ساعات فحسب من بدايتها.
وبذلك الانتصار تحققت السيادة المطلقة للعثمانيين على البحر المتوسط لما يقرب من الـ30 عاماً، وأصبح المسلمون القوة البحرية الأولى في العالم بلا منازع، وهو الأمر الذي ترك أثراً في تاريخ الأتراك حتى اليوم، عندما جعلوا من الذكرى السنوية لوقوع معركة بروزة مناسبة للاحتفال بعيد البحرية التركية.
اضغط هنا