فجر السبت الـ 14 من أبريل من العام الجاري شنت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا هجوماً عسكرياً جوياً دام أقل من ساعة على مواقع ومنشآت عسكرية في سوريا ، قالت الدول المهاجمة أن هذه المواقع تستخدم من قبل النظام السوري في تصنيع وتعبئة المواد والأسلحة الكيماوية ، حيث كان الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما قد وضع خطاً أحمراً عام 2012 قال بأن أمريكا سوف تتدخل مباشرةً في حال تجاوزه ! وهذا الخط يتمثل في الإقدام على تحريك أو استخدام الأسلحة الكيماوية في الصراع الدائر في سوريا ، وسيتم التطرق في هذه الورقة إلى الكيفية التي تم بها تنفيذ هذا الهجوم، وما هي الدلالات السياسية التي يمكن استنباطها بناءً على سير مراحل التنفيذ وتفاعلاتها من البداية وحتى النهاية .
تفاصيل الضربة :
أولاً : التصريحات السياسية ومسرح العمليات قبل 48 ساعة من تنفيذ الهجوم :
بتاريخ 11 / 4 / 2018 السفير الروسي في لبنان ألكسندر زاسبكين يظهر على قناة تلفزيون المنار الموالية لحزب الله اللبناني ، ويؤكد على أن روسيا سوف تُسقط أية صواريخ تهاجم سوريا بل وسوف تستهدف حتى منصات إطلاقها ، ويقول بأنه يستند في حديثه إلى تصريحات الرئيس بوتين ، ورئيس الأركان الروسي فاليري غراسيموف بشأن الوضع الميداني في سوريا .
بعد ساعات .. الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يرد على التصريحات الروسية ، ويطلق تغريدة من حسابه على تويتر يقول في جزء منها ( استعدي يا روسيا .. الصواريخ الذكية قادمة ) .
بتاريخ 11 / 4 / 2018 أيضاً .. صور الأقمار الصناعية تُظهر إخلاءً مفاجئاً لقطع الأسطول الروسي الحربية لمواقعها من قاعدة طرطوس السورية المطلة على شرق البحر المتوسط ، و إعادة تمركزها في مواقع اخرى بعيدة !
بتاريخ 12/ 4 / 2018 المنظمة الأوربية لسلامة الملاحة الجوية ( يوروكنترول) تدعو شركات الطيران إلى توخي الحذر الشديد شرق المتوسط وذلك لوجود احتمالات كبيرة بتنفيذ هجوم جوي على سوريا .
بتاريخ 13 / 4 / 2018 موقع ( flight radar ) المتخصص في تتبع حركة الطيران العالمي على الإنترنت يرصد خلو الأجواء السورية تماماً من حركة الطائرات المدنية التي كانت تعبر بشكل معتاد ، حيث قامت جميع شركات الطيران العالمية بتحويل خطوط رحلاتها بعيداً عن الأجواء السورية !
ثانياً : بدء الهجوم :
بتاريخ 14 / 4 / 2018 وعند الساعة 2 صباحاً بتوقيت غرينتش سُمع دوي انفجارات عنيفة في أماكن متفرقة في سوريا، حيث تم استهداف 3 مواقع مرتبطة ببرنامج النظام السوري للأسلحة الكيماوية حسب تصريحات البنتاغون، واستغرق الهجوم نحو 50 دقيقة، وأوضح مسؤولون أميركيون أنه قد تم إطلاق ما بين 100 إلى 120 صاروخاً مجنحاً من نوع ( كروز ) و ( توماهوك ) من بوارج حربية أمريكية قابعة في البحر الأحمر باتجاه مواقع عسكرية على الأراضي السورية، وبأن طائرات ( رافال وميراج2000 ) فرنسية ، و( تورنادو ) بريطانية، وقاذفات B1 أميركية شاركت أيضاً في الهجوم، ومن جانبه كشف رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية الجنرال جوزيف دانفورد، أن الضربة الأولى استهدفت مركزاً للبحوث العلمية حول الأسلحة الكيماوية في منطقة برزة بالقرب من العاصمة دمشق.
أما الضربة الثانية فقد استهدفت منشأة لتخزين الأسلحة الكيماوية غربي حمص، بينما استهدفت الضربة الثالثة مرفقاً لتخزين المعدات الكيماوية ومركزاً للقيادة والسيطرة، وتابع دانفورد قوله بأن ما قد تم تدميره هو البنية التحتية التي ستساهم في تراجع استخدام النظام السوري للأسلحة الكيماوية، وأضاف بأن هذه الضربات مصممة لمرة واحدة، وقال إنه لم ترد أي تقارير عن أية خسائر في قوات الحلفاء، وأكد على أن المقاومة الوحيدة التي واجهتهم كانت من صواريخ أرض جو ودفاعات أرضية سورية.
تفسير الموقف الروسي :
كما هو معلوم فإن للحرب قواعد ثابتة وتكتيكات معروفة من ضمنها المباغتة والمفاجأة، وهي صفات ربما تكاد تكون مفقودة في هذا الهجوم الجوي بالذات، فلم يكن هناك أي عنصر للمفاجأة بل على العكس فالنوايا كانت معلنة ، وهناك شبه تفاهم بين جميع الأطراف على عملية الاخراج والدعاية ! وربما يقول قائل بأن الولايات المتحدة وحلفاؤها يمتلكون تفوقاً عسكرياً حاسماً أقوى بكثير من امكانيات النظام السوري، لذلك فهي لا تبالي بالإعلان عن نواياها العسكرية تجاهه، إلى حد ما هذا القول صحيح ! لكن النظام السوري ليس وحده، وهو يتلقى المساندة العسكرية من عدة أطراف على رأسها روسيا، إذاً لماذا عمدت الولايات المتحدة وحلفائها إلى شن الهجوم رغم تهديد روسيا بالرد على أي عمل عسكري يستهدف قوات النظام في سوريا ؟
الإجابة تكمن في تناقض التصريحات الروسية مع ما تقوم به فعلاً على الأرض ! فبينما يصرح السفير الروسي في لبنان باستعداد القوات الروسية للمواجهة والرد، نجد في نفس التوقيت إخلاءً تاماً للبوارج الحربية الروسية لمواقعها في قاعدة طرطوس بعيداً عن ساحة المواجهات المحتملة.
وعلى كل حال يبدو أن تلك التصريحات كانت فقط حملة نفسية للتأثير على صانعي قرار الهجوم لإثنائهم عن التنفيذ ، ولم يكن هناك خطط فعلية للرد ! وهنا يبرز سؤال آخر .. هل فعلاً علاقة روسيا بالنظام السوري هي علاقة صداقة كما تفهمها العقلية العربية ؟! أم أنها تستخدم هذه الصداقة " المدروسة " كحصان طروادة للوصول والابقاء على تواجدها في المياه الدافئة عند الضفاف الشرقية للمتوسط ؟ حيث أن هذا الهدف الاستراتيجي كان حلماً روسياً قديماً منذ عهود القيصرية ! من خلال تفسير ما حدث يتضح جلياً بأن العلاقة بين الطرفين الروسي والسوري تقع ضمن محددات المصالح الروسية فقط، وهي ليست علاقة مصيرية كعلاقة الولايات المتحدة بالكيان الصهيوني على سبيل المثال، وما يدعم هذا القول هو امتناع روسيا عن تزويد النظام السوري أو على الأقل تأمين منشآته بصواريخ S300 ،S400 المتطورة والقادرة على اعتراض الصواريخ بشكل فعال وحاسم، وأن هذه الصواريخ موجودة فقط لتأمين القوات الروسية في قاعدة حميميم شمال سوريا، وفي قاعدة طرطوس البحرية لتأمين الأسطول الروسي
كما أنه توجد قرينة أخرى للبرهنة على هذا القول، وهي أن روسيا لم تشارك في الحرب على ما يسمى الإرهاب في العراق ! وهي الحجة التي ساقتها لدخول الحرب في سوريا، الأمر الذي يؤكد على أنها تسعى فقط لتأمين تواجدها الاستراتيجي في البحر المتوسط وتحسين شروط التفاوض إذا ما جاءت اللحظة الحاسمة للتخلي عن النظام في سوريا.
حيث يقول الكاتب الروسي ( ليونيد إيساييف ) في مقال له على موقع الجزيرة الانجليزية بأن "مشاورات جرت بين روسيا والولايات المتحدة على ما يبدو في الأسبوع الذي سبق تلك الضربات، ويضيف أن ثقة موسكو في هذا التنسيق تجلت في وجود وفد من حزب روسيا الموحدة الحاكم وعلى رأسه الأمين العام للحزب ( أندري تورشيك ) في دمشق أثناء تنفيذ الضربة ! وفي نهاية المطاف كما يقول الكاتب " أضحت هذه الضربات الشكلية هي الحل الأمثل لكلا البلدين لتخفيف التوتر بشأن مسألة الأسلحة الكيميائية في دوما، فقد أبقت موسكو على الوضع القائم في سوريا، ونفذت واشنطن وعدها شكلياً واتخذت موقفاً على أساس المبادئ ".
الخلاصة :
هناك من يعرّف الحرب على أنها استمرار لمسار السياسة ولكن بشكل عنيف، حيث أن نتائج الحرب هي من يحدد الأوضاع السياسية فيما بعد، وعلى كل حال لا يمكن فهم المدة التي استغرقتها القوى العظمى الغربية وروسيا في محاربة داعش وماتسميه الارهاب في سوريا ، وهي التي هزمت دول المحور القوية في الحرب العالمية الثانية خلال 8 سنوات فقط ، لا يمكن فهم ذلك إلا على أنه ربما إطالة متعمدة لأمد الصراع ، وتكتيك دموي يريد كل طرف الاستفادة منه بطريقة ما ! حيث تستفيد روسيا بزيادة تأكيد وجودها فعلياً في المنطقة ومن ثم المحافظة عليه والمساومة به في أي تسوية سياسية قادمة، وكذلك هي فرصة نادرة لتنفيذ تمارين وتدريبات حربية فعلية لتحسين أداء القوات المسلحة الروسية وتفقد جاهزيتها للحرب وتجربة أسلحتها ومعداتها العسكرية، حيث أنها استخدمت أسلحة متطورة كالطائرات القاذفة ومنظومات القيادة والسيطرة الحديثة، والصواريخ الاستراتيجية بعيدة المدى، والتي قامت بإطلاقها من منصات حربية في بحر قزوين باتجاه مواقع قالت أنها لداعش في سوريا، والتي تبعد عنها آلاف الكيلومترات .
أما الولايات المتحدة فهي لا يمكن أن تسمح بالانفراد الروسي بهذا الصراع، حيث أنها تعمل على التواجد العسكري على الأرض، والذي تسعى من خلاله للتنسيق ميدانياً مع جيش الكيان الصهيوني ، وكذلك تأمين المساندة للأطراف التي تدعمها، حيث أن القوات الأمريكية تتمركز الآن في أكثر من 5 قواعد عسكرية على الأرضي السورية من ضمنها قاعدة التنف في الجنوب على الحدود الأردنية السورية ، وقاعدة صباح الخير في الشمال الغربي ، وقاعدة تل تمر في أقصى الشمال ويوجد بها اكثر من 200 جندي امريكي ، وغيرها من القواعد والنقاط اللوجستية الأخرى التي تنتشر على الأراضي السورية، حيث تعمل الولايات المتحدة بهذه الطريقة على التواجد المباشر في الميدان لدعم المقاتلين التابعين لها، لاستكمال خططها الهادفة لتوريط إيران وزيادة تخبطها في الوحل السوري، كذلك انهاك حزب الله وتشتيت قواه وإبعاده عن هدفه الرئيسي والمتمثل في المقاومة المسلحة للاحتلال الاسرائيلي، إذ يتحدث تقرير للمخابرات الألمانية صدر عام 2013 ونشر في صحيفة القدس العربي ، عن أن حزب الله قد وقع في فخ تكتيكي كان قد نصب له من عدة أطراف دولية، وذلك لغرض انهاكه عسكرياً واسقاطه معنوياً ، فبعد إن كان هذا الحزب العقائدي مثار إعجابٍ وتأييد من معظم الشعوب العربية والاسلامية على اختلاف مذاهبها، بل وتحصله حتى على دعم مالي كبير من دول إسلامية غير شيعية ؛ نجده اليوم قد تآكل معنوياً وأصبح يتخبط في مستنقع الطائفية والحروب الأهلية؛ بعد أن كان يركز عل هدف واحد وهو فقط محاربة الكيان الصهيوني . وفي النهاية فإن هذه الحرب هي عملية بطيئة ومستمرة، الغرض منها انضاج وضع جديد يضمن أمن اسرائيل ويخلق حالة من التوازن الاستراتيجي بين القوى العظمى التي تتنافس في المنطقة، حيث أن هذه الحرب الماراثونية لا يمكن أن تكون إلا "حرباً بالتراضي" بين كل من يدعمها حتى تتحقق المصالح التي يصبوا إليها كل طرف دون أن يلغي أحدهما الآخر !
وختاماً لا أجد وصفا لما يحدث أبلغ من العبارة التي تقول : إن الحرب هي قتالٌ بين أناسٍ لا يعرفون بعضِهم البعض .. من أجل آخرين يعرفون بعضِهم البعض ولكنهم لا يتقاتلون !
الكاتب : المقدم محمد جمعه الحلبوص
* المقال ورقة بحتية أعدها الكاتب كمشاركة في ورشة العمل التخصصية حول السياسة الخارجية الامريكية في الشرق الأوسط وإفريقيا التي أقامتها الأكاديمية الليبية بمدرسة العلوم الاستراتيجية والدولية قسم الدراسات الإقليمية والدولية شعبة الأمريكية في الأكاديمية 2018 م.
.