لقد كانو يحتلون المدن والقري في كامل منطقة قنال السويس ، وأقامو المعسكرات والقواعد العسكرية الضخمة التي تبينهم الخريطة التالية
وأرادوا عن طريق حرب العدوان الثلاثي والغزو الأنجلوفرنسي لبورسعيد يوم الأثنين والثلاثاء والأربعاء (5 - 7 نوفمبر 1956) أن يرجعوا لأرض مصر ويحتلوها مرة أخري ، بعدما خرجو منها ليلة يوم 18 يونيو 1956
ورفع جمال عبدالناصر ، في صباح اليوم التالي ، العلم المصري علي القاعدة البحرية المعروفة ... بالنافي هاوس في بورسعيد
جلاء القوات البريطانية عن مصر يوم 18 يونيو 1956 ، بعد توقيع إتفاقية
الجــلاء 1954
منذ أن احتلت القوات البريطانية مصر في 15 سبتمبر 1882 وهى تدعي أن هذا الاحتلال عمل مؤقت سيزول بمجرد أن تنتهي أسبابه ولكن هذا العمل دام نحو 74 عاما إلى أن أنهته ثورة 23 يوليه عام 1952.
كان حوالي 80 ألفاً من القوات البريطانية متمركزة على طول قناة السويس ويمثلون مصدراً للغضب والاستياء للشعب المصري، ورمزاً لرضى الإسرائيليين الذين كانوا يعتبرون البريطانيين كمانع لأي هجوم مصري عبر القناة، وقد كانت قاعدة القناة أكبر قاعدة عسكرية في شمال أفريقيا، فكانت تضم 15 فرقة عسكرية، 15 سرب طائرات، والأسطول البحري الملكي في شرق البحر المتوسط، كما كانت القاعدة تستخدم ما يقرب من 200 ألف من المصريين في مختلف المجالات.
ظلت الجماهير المصرية ساخطة على الاحتلال البريطاني، مما اضطر الحكومة المصرية "وزارة الوفد" في 15 أكتوبر 1951 إلى إلغاء المعاهدة البريطانية المصرية التي عقدت عام 1936م، وبعدها بدأ الشعب المصري النضال ضد الإنجليز في منطقة القناة حتى قيام ثورة يوليه 1952، حيث كان الفدائيون المصريون يخطفون ويقتلون الجنود البريطانيين، ويلقون بالقنابل اليدوية في معسكرات الضباط، ويزرعون الطرق بالألغام وينسفون المنشآت العسكرية.
كان أول مطلب للثورة أن تجلو بريطانيا عن البلاد، وبدأت المحادثات الأولى في 17 أبريل 1953، ومع شعور بريطانيا بأنها لن تستطيع أن تحمي قاعدتها في مصر من هجمات الفدائيين، والتكاليف المتزايدة للقاعدة، علاوة على عدم أهميتها في العصر النووي، لذا أعلن في 21 يوليه 1954، أنه قد تم الوصول إلى اتفاق مبدئي، ينص على جلاء القوات البريطانية عن منطقة قناة السويس في خلال عشرين شهراً، على أن يقوم المدنيون الإنجليز بصيانة القاعدة مع شرط تهيئة القاعدة للعمل، وعودة القوات البريطانية في حالة وقوع هجوم مسلح من أي دولة على أحد دول الجامعة العربية أو تركيا. وأن تجلو هذه القوات بعد ذلك فور وقف القتال.
في 19 أكتوبر 1954 تم توقيع الاتفاق المصري البريطاني بين "عبدالناصر" و"أنتوني ناتنج" ـ Nutting Anthony ـ وزير الدولة للشؤون الخارجية البريطاني، وفي 13 يونيه 1956 غادر البلاد آخر جندي بريطاني قبل الميعاد الرسمي المحدد بخمسة أيام .
موقف مصر من اتفاقية الجلاء
مثل التوقيع على الاتفاقية نقطة هامة في تاريخ مصر، حيث أسدل الستار على عصر اتسم بكفاح مرير خاضه المصريون ضد الاحتلال، فقد رأت في الاتفاقية تتويجاً لثورة يوليه، وكان "عبدالناصر" حريصاً على إنجازها لأكثر من سبب، فهو يريد أن يحقق حلم عمره الذي جاهد من أجله منذ كان طالباً، وليثبت ذاته، وينقش اسمه على وثيقة تنهي الاحتلال البريطاني لمصر الذي دام طويلاً، ورأى أيضاً أن يولي جهوده شطر الناحية الداخلية ويتفرغ لإعادة بناء الاقتصاد، والإصلاح الاجتماعي.
ومما لا شك فيه أن مصر قبلت بعض التنازلات عندما وقعت الاتفاقية، خاصة ما جاءت به المادة الرابعة التي نصت على أنه "في حالة وقوع هجوم مسلح من دولة من الخارج على أي بلد، يكون طرفاً في معاهدة الدفاع المشترك بين دول الجامعة العربية الموقع عليها في القاهرة في 13 أبريل 1950 أو تركيا، أن تقدم مصر للمملكة المتحدة من التسهيلات ما قد يكون لازماً لتهيئة القاعدة للحرب وإدارتها إدارة فعالة، وتضمن هذه التسهيلات استخدام الموانئ المصرية في حدود ما تقتضيه الضرورة القصوى للأغراض سالفة الذكر".
وقد صور السفير البريطاني في القاهرة مظاهر الفرحة التي عمت حكومته، وكيف خرجت الجموع يومي 21،20 أكتوبر تجوب الشوارع، رافعة اللافتات، تهتف وتؤيد "عبدالناصر" ورفاقه، وأن السياسيين القدامى حرصوا على المشاركة، فهنأ حسين سري "عبدالناصر"، وعبر علي ماهر عن ارتياحه، وكان "عبد السلام فهمي جمعة" هو الزعيم الوفدي الوحيد الذي أيد الاتفاقية. وعلى الجانب الآخر كان هناك ناقمون على النظام بصفة عامة، وتمثلوا في الجناح المتشدد من الوفد، والتنظيمات الشيوعية.
كما تعرض عبدالناصر لمحاولة اغتيال بواسطة الإخوان المسلمين بعد أسبوع واحد من توقيع الاتفاقية أثناء وجوده بالإسكندرية، ولكن جاءت النتيجة عكسية، ويسجل السفير البريطاني في القاهرة "همفري تريفليان ـ Humphrey" ، "أن هذا الحادث لم يؤثر معنوياً على النظام"، ووفقاً لما سمعه، "فسوف يزيد من ثقة "عبدالناصر" الزائدة في نفسه، ويقوي تعاطف الشعب معه ".
موقف بريطانيا من اتفاقية الجلاء
عقب إبرام الاتفاقية، بعث وزير الخارجية البريطاني "سلوين لويد ـ Selwyn Lloyd" رسالة إلى "عبدالناصر" يهنئه فيها، ويصف ما تم بأنه "خطوة هامة إلى الأمام لإيجاد تفاهم وصداقة على أسس جديدة بين البلدين". واتخذت مصر الإجراءات الرسمية لشطب شكواها ضد بريطانيا في مجلس الأمن، وتم تبادل وثائق التصديق على الاتفاقية، وأرسلت نسخة للأمم المتحدة .
موقف أمريكا من اتفاقية الجلاء
حظيت الاتفاقية بتأييد الأمريكيين، الذين كان لهم الدور في إتمامها. فقد مارس "أيزنهاور ـ Dwight David Eisenhower" ضغوطاً قوية على بريطانيا لسحب قواتها. ويروي "أيزنهاور" في مذكراته أنه كان يعتقد " أن احتفاظ بريطانيا بقوات كبيرة بصورة دائمة في منطقة تابعة لحكومة غيورة ومستاءة ووسط تجمعات سكانية معادية لم يكن مستساغاً أو عملياً، ومن هنا شجعنا، "جون دالاس ـ John Foster Dulles" وأنا، البريطانيين على أن يجلوا بالتدريج".
كما لوحوا بالمعونة العسكرية لمصر، واستخدموا ورقة المساعدة الاقتصادية لإقناعها بالموافقة. وعندما نوقشت الاتفاقية في الاجتماع الوزاري لحلف شمال الأطلسي في باريس، أكد المجتمعون على أنها عمل مرض، وتقدم التسهيلات للغرب، وبينوا أنهم تخلصوا من مصدر الاحتكاك الرئيسي مع العالم العربي، مما يؤهل للقيام بدور أكثر إيجابية وإفادة فيما يتعلق بمشكلات الشرق الأوسط .
موقف إسرائيل من اتفاقية الجلاء
كان احتمال نجاح المفاوضات الدائرة حول الانسحاب يسبب انزعاجاً كبيراً لإسرائيل، فمعنى ذلك أنه سيتم إلغاء الحاجز الواقي، الذي تمثله القوات البريطانية الموجودة على طول القناة بين إسرائيل والقوات المصرية، وبالتالي تزداد قوة "عبدالناصر" وشعبيته رسوخاً. ولم يكن مثل هذا الاحتمال بالأمر الذي تسكت عليه إسرائيل. وللحيلولة دون تحقيق إمكانية نجاح المفاوضات، نفذ جهاز الاستخبارات الإسرائيلية خطة ملتوية للقيام بعملية سرية ضد المنشآت الأمريكية والبريطانية في مصر. دون علم "موشى شاريت ـ Moshe Sharett" رئيس الوزراء.
وكان هدف العملية القيام بأعمال تخريب بحيث تبدو كما لو كانت من تدبير المتعصبين المصريين وبالتالي تظهر حكومة "عبدالناصر" أنها لا تستطيع أن تسيطر على الأمور في قناة السويس لو انسحب منها البريطانيون.
وكان أكثر ما يزعج رئيس الوزراء الإسرائيلي تقدم مفاوضات الانسحاب. إلا أن ما أقلقه وحيره بشكل خاص هو أن المفاوضات كانت تتقدم دون أي اهتمام ظاهر بمصالح إسرائيل.
وكان يرى أن من حق إسرائيل أن تخرج على الأقل ببعض المزايا في مجرى تلك المفاوضات بالضغط على مصر كي توافق على السماح للسفن الإسرائيلية بالمرور من القناة. فعدم المرور سبب أضراراً كبيرة للاقتصاد الإسرائيلي، كما أن الإغلاق اللاحق لمضيق "تيران" على شاطئ البحر الأحمر ضاعف الضرر.
فالمضيق يتحكم في المرور إلى "إيلات". المنفذ البحري الوحيد لإسرائيل إلى المحيط الهندي وآسيا. وكما ذكر "موشي دايان ـ Mosha Dyan" ، الذي عين عام 1954 رئيساً لأركان الجيش الإسرائيلي، في مذكراته، إن "إغلاق الممرات المائية اعتبر بمثابة حصار لم يمثل بالنسبة لإسرائيل قضية سياسية بالغة الأهمية فحسب، بل مثل أيضاً ضربة قاصمة لاقتصادها وعقبة أمام تطورها" .
التغيرات التي طرأت على اهتمامات وأولويات عبدالناصر
لقد أبدى عبدالناصر منذ وصوله للسلطة، اهتماماً محدوداً بالتعبيرات العربية المعتادة حول كراهية إسرائيل، وعندما قابله الجنرال "بيرنز ـ Burns" رئيس أركان قوات الأمم المتحدة في الشرق الأوسط لأول مرة، في 15 نوفمبر 1954، وجد الرئيس المصري مستغرقاً في المشكلات الداخلية، ويذكر بيرنز أن عبدالناصر أخبرني أنه لا يرغب في حدوث متاعب في الجبهة الشمالية لمصر، أو وقوع ما يعكر صفو سنوات الهدوء الست التي مرت منذ توقيع الهدنة، وأنه لا يفكر في القيام بأي مغامرة عسكرية". كذلك قال "عبدالناصر" "لكينيت لاف ـ Kennett Love": مراسل نيويورك تايمز ـ New York Times " نحن نريد السلام حتى نستطيع أن نخصص الأموال التي تنفق الآن على الدفاع لمشروعاتنا الاقتصادية والاجتماعية".
مع بداية عام 1955، كان الهدوء النسبي يسود على طول الحدود المصرية الإسرائيلية، إلا أنه في مساء 28 فبراير تحطم هذا الهدوء على نحو عاصف، فقد تحركت مجموعة من المظليين الإسرائيليين يبلغ عددها نحو 50 فرداً، كان هدفهم تدمير معسكر صغير للجيش المصري، وخط السكك الحديد الموجود في الضواحي الشمالية لمدينة غزة، داخل الحدود المصرية. وقد أسفر هذا الحادث عن ثمانية من القتلى، وتسعة من الجرحى في الجانب الإسرائيلي، وخمس عشرة من القتلى، فضلاً عن تسعة عشر من الجرحى في الجانب المصري.
وقد أدان مراقبي الأمم المتحدة الهجوم الإسرائيلي في عبارات حادة" إننا نعتبر هذا العدوان الفظيع أمراً بالغ الخطورة واستفزازاً صريحاً للقوات المسلحة المصرية. ويتعين على إسرائيل أن تتحمل النتائج المترتبة عليه، والمسئولية الكاملة عن أي أعمال عدوانية أخرى".
أعلن الجنرال "بيرنز" تأييده لتصريح المراقبين ووصف الغارة بأنها" هجوم مدبر ومخطط تم بناء على أوامر من السلطات الإسرائيلية وقامت به قوات إسرائيلية نظامية" وأوصى بأن يصدر مجلس الأمن قراراً قوياً بإدانة إسرائيل، وقد أصدر مجلس الأمن بالفعل هذا القرار واشترك في صياغته الدول الثلاث الأكثر تأييداً لإسرائيل، بريطانيا وفرنسا وأمريكا. وقد كتب الجنرال "بيرنز" في تقريره عن غارة غزة يقول "إن هذه الغارة مثلت حدثاً خطيراً في التاريخ المقبض للشرق الأوسط".
غيرت غارة غزة، أكثر الحوادث دموية بين مصر وإسرائيل منذ حرب عام 1948، طبيعة الموقف بين مصر وإسرائيل. وأثارت سباق تسليح شديد المنافسة بينهما. فضلاً عن ذلك فقد حولت الشرق الأوسط من منطقة نزاع بين العرب واليهود إلى حلبة للمنافسة بين القوى العظمى.
كان الأثر الذي تركته الغارة في عبدالناصر شديد الوطأة فقد أدت إلى تغيرات في سياساته، فخلال أسابيع قليلة أصدر قرار بتنظيم المتطوعين الفلسطينيين في قطاع غزة في شكل وحدات من الفدائيين للقيام بعمليات تخريب وإرهاب داخل إسرائيل. وأمر الجيش النظامي بتدريب هذه الوحدات، كما أمر، لأول مرة، بإطلاق العنان لأي عمليات فدائية ضد إسرائيل.
كذلك أصدر قراره الخطير بتغيير الأولوية الأولى في برنامج حكومته من إصلاح مجتمع مصر المتخلف إلى الضرورة الملحة للحصول على الأسلحة .
كسر احتكار السلاح
رفعت بريطانيا الحظر على بيع الأسلحة لمصر الذي فرضته بموجب الإعلان الثلاثي الصادر في 25 مارس 1950 من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، عندما وقع "عبدالناصر" بالأحرف الأولى على اتفاقية الجلاء في 27 يوليه 1954. سلم عبدالناصر قائمة بالأسلحة التي يريدها إلى" أنتوني ناتنج" وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية وواحد من أكثر المقربين إلى "إيدن ـ Eden, Sir Anthony" عقب التوقيع الرسمي على الاتفاقية في 19 أكتوبر 1954 وطلب منه أن يحملها معه إلى لندن، وأثير الموضوع أمام مجلس العموم البريطاني، وعارضه الذين خشوا على إسرائيل خاصة حزب العمال، ورد عليهم "ناتنج" بأن ذلك لا ينطوي على شئ يخيفها، أو حتى يدعو لقلقها، لأن تقديم الأسلحة لمصر سيكون فقط في استخدامها في أغراض الدفاع المشروع، وأن بريطانيا ستمكن دول الشرق الأوسط من القيام بدورها في الدفاع عن المنطقة كلها.
ولكن إلى أي مدى كان التطبيق؟ راحت لندن تبحث قائمة المطلوب من الأسلحة التي تقدمت بها مصر، وعندما بعث السفير البريطاني في القاهرة لحكومته ليستفسر عما تم في هذا الأمر، ردت الخارجية البريطانية بأن المسألة تناقش على مستوى عال، وأن بريطانيا لا تشجع سباق التسليح، وتبذل أقصى ما في وسعها في سبيل ذلك.
كان "عبدالناصر" ينتظر إجابة طلبه، وحاول استثارة الغرب ومس وتره الحساس، فصرح لمراسل صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية أن روسيا الشيوعية تشكل خطراً جسيماً على أمن مصر، وأنه من الطبيعي أن يتجه العرب صوب الغرب لطلب الأسلحة والمساعدة، وحث على التعاون الذي يرتكز على الصدق والصداقة معه. ولم يطرق عبدالناصر باب بريطانيا فقط، وإنما طلب أيضاً الأسلحة من الولايات المتحدة الأمريكية، التي أرسلت بعثة عسكرية لإجراء مباحثات حول توريد الأسلحة لمصر، ولكن "دالاس" أصر على أن ترتبط مصر بشبكة الدفاع الغربية للشرق الأوسط، وفي نفس الوقت وافقت واشنطن على تزويد العراق بالأسلحة. وعندما طلب عبدالناصر الأسلحة من فرنسا ساومته على التخلي عن شمال أفريقيا خاصة الجزائر، وراحت تزود إسرائيل بها.
استمر التسويف البريطاني، وتكررت الاعتذارات التي تنم عن الرغبة في المحافظة علي التوازن في التسليح بين مصر وإسرائيل، وفي تلك الأثناء كانت المساعي البريطانية على قدم وساق بالنسبة لحلف بغداد، لذا وجدت لندن أن تجمد مسألة الأسلحة وتساوم مصر عليها، وعمد "عبدالناصر" إلى مزيد من الانتظار، برغم أن مصر كانت لا تمتلك سوى ست طائرات عسكرية صالحة للاستعمال، وكمية من ذخيرة الدبابات تكفي لمعركة مدتها ساعة واحدة.
في 24 فبراير 1955 أعلن رسمياً عن مولد حلف بغداد، وبعد أربعة أيام اخترقت إسرائيل الحدود المصرية وشنت غارة على قطاع غزة بدعوى الانتقام من الفدائيين. هزت هذه الحادثة عبدالناصر بعنف، وأصبح على استعداد للتعاون مع من يمد له يد المساعدة، في سبيل أن تكون الأسلحة في يد جيشه ليشهرها في وجه عدوه. كرر طلبه مرات أخرى سواء مع بريطانيا أو الولايات المتحدة الأمريكية وقد استعرض الموقف مع السفير الأمريكي المستر " بايرود ـ Bayard " مبينا أن مصر تُحرم من الأسلحة وغارات إسرائيل تتكرر، في الوقت الذي تعقد فيه صفقات الأسلحة مع إسرائيل والعراق. كذلك كان الفشل حليفه في شراء الأسلحة من باقي دول الغرب لارتباطها بعضوية حلف شمال الأطلسي. ومن هنا أصبح على يقين أنه لن يحصل على الأسلحة من الغرب، لأنه لن ينفذ شروطه، خاصة فيما يتعلق بنظام الدفاع عن الشرق الأوسط، وضرورة الدفع بالعملة الصعبة. ومع هذا ألح في الطلب، وكما يذكر "ناتنج" أن "عبدالناصر" قصد اختبار حسن النوايا أكثر من تلبية طلبه.
كان الاتحاد السوفيتي هو البديل للغرب بالنسبة لتوريد الأسلحة، ولم يعد أمام "عبدالناصر" إلا التفكير فيه، بعد أن نفد صبره، وأوصدت أبواب الغرب أمامه. حقيقة أنه لم يكن يرغب في فتح الباب الشرقي لما يمكن أن يترتب على ذلك من سلبيات، ولأن أسلحة الكتلة الشيوعية غير معروفة للجيش المصري، وبالتالي ستكون هناك صعوبات، ولكنه مع هذا راح يفكر في الأمر بجدية.
وجاءت الفرصة لـ "عبدالناصر" أثناء حضوره مؤتمر "باندونج" وفي حديث له مع "شو إن لاي ـ Chou En - Lai " رئيس وزراء الصين الشعبية عن الأوضاع في الشرق الأوسط، تكلم "عبدالناصر" عن التهديد الذي تتعرض له مصر من جانب إسرائيل، ومماطلة الغرب في إمداده بالأسلحة لإجباره على أتباع سياسته والسير في ركابه، ثم سأله عن إمكانية شراء مصر الأسلحة من الصين الشعبية، فأجابه أنه يعتمد على أسلحة الاتحاد السوفيتي، ووعد بالوساطة لمصر لدى موسكو. وبذلك انحرف طريق "عبدالناصر" في هذا الأمر عن الغرب وبدأ الخطوة الأولى في طريق الاتحاد السوفيتي الذي أعلن استعداده لتوريد الأسلحة لمصر.
اطمأن "عبدالناصر" للوضع الجديد، وفي الوقت ذاته رأى استخدام أسلوب المناورة، بمعنى أن يلمح سواء لبريطانيا أو الولايات المتحدة الأمريكية بالرد على تسويفهما باستيراد الأسلحة من غيرهما، ربما يحرك فيهما الغيرة ويدفعهما للتوريد حتى لا يسمحا أن يطأ قدم الاتحاد السوفيتي المنطقة.
من هذا المنطلق كان تحذيره للسفيرين: البريطاني والأمريكي من أنه ما لم يستطع الحصول على الأسلحة من الغرب، سيضطر لقبول العرض السوفيتي، واعتقدت لندن وواشنطن أن "عبدالناصر" يبتزهما، إلا أن رد لندن جاء ليحذره من أنه لو استلم أسلحة من موسكو لن يتلقى أي أسلحة من بريطانيا. وعَدَّ عبدالناصر ذلك تهديداً لا يمكن قبوله، ومما زاد الموقف صعوبة أن اللجنة المشرفة على تنفيذ الإعلان الثلاثي لعام 1950، الذي تعهدت بموجبه بريطانيا وأمريكا فضلاً عن فرنسا بعدم إثارة الاضطراب في الوضع القائم في الشرق الأوسط بتقديم إمدادات جديدة من الأسلحة إلى أي من الطرفين، قد وافقت على إعطاء إسرائيل أسلحة جديدة، ووكلت لفرنسا مهمة التوريد.
حاولت بريطانيا أن تحسن من موقفها، فأرسلت لمصر في صيف 1955 أربعين دبابة من طراز "سنتوريون ـ Centurion" دون أن تكون معها طلقة واحدة من الذخيرة، وعندما احتجت مصر، شحنت لها عشر قذائف لكل دبابة، وهو عدد لا يكفي لمجرد التجارب الأولية لإطلاق النار وتحديد الهدف. وهذا يعني أن الشحنة لا يرجى منها نفع.
على الجانب الآخر، نظرت موسكو للرغبة المصرية برؤية متفتحة، فقد طرقت الظروف أبوابها، فرحبت بها واحتضنتها، في وقت تأسس فيه حلف بغداد وانضمت إليه بريطانيا ليكون حزاماً شمالياً إستراتيجياً في الشرق الأوسط ليعوق التقدم السوفيتي جنوباً. وبسرعة فائقة التقى "سولود ـ solod, Daniel" السفير السوفيتي في القاهرة بعبدالناصر عارضاً عليه موافقة حكومته على تزويد مصر بالأسلحة التي منعها الغرب عنه.
عرض الاتحاد السوفيتي التسهيلات، فقد أبلغ "شبيلوف ـ Dmitri Shepilov" محرر صحيفة البرافدا ـ Pravda السوفيتية والذي أصبح وزيراً للخارجية "عبدالناصر" أن بلاده تقبل دفع ثمن صفقة الأسلحة بالقطن المصري. وكانت مسألة العملة الصعبة تشكل صعوبة في استيراد الأسلحة، لكن في الوقت نفسه تردد "عبدالناصر" في مسألة رهن القطن، بالإضافة إلى تيقنه من استغلال موسكو للظروف، وفي داخل نفسه كان يتمنى أن يكون التعامل في الأسلحة مع الغرب، حتى لقد صرح فيما بعد لمراسل الصحيفة الأمريكية نيويورك بوست ـ New York Post بقوله: "كنا نفضل الصفقة مع الغرب، ولكن بالنسبة لنا فالمسألة حياة أو موت".
أُعد مشروع الاتفاقية بين القاهرة وموسكو، ونص على أن تشتري مصر أسلحة سوفيتية من بينها مقاتلات "الميج ـ MIG" وقاذفات القنابل "اليوشن ـ Ilyushin " ودبابات "ستالين ـ Stalin Mark" وغواصات ومدافع وزوارق طوربيدات ومدفعية ميدان ونظام راداري على أن تسدد ثمن هذه الأسلحة بالقطن والأرز، وحددت الفائدة بـ 2% وفترة سماح أربع سنوات.
تقرر أن تُنسب صفقة الأسلحة إلى تشيكوسلوفاكيا ـ Czechoslovakia لعدة أسباب، فعلى الجانب السوفيتي، فضلت موسكو ألا تكون هناك مواجهة مع الغرب، أما الجانب المصري، فقد رأى "عبدالناصر" أن يبدو في نظر العالم الخارجي أقل ميلاً لليسار حيث أن إسرائيل كانت تحصل على سلاح من تشيكوسلوفاكيا أثناء حرب فلسطين، بالإضافة إلى أمله في أن يغير الغرب موقفه ويستجيب له خاصة بعد محاولة بريطانيا الخاصة بشحنة الدبابات غير المكتملة الذخيرة، لذا أَطْلَعَ "عبدالناصر" السفير الأمريكي على مسودة الاتفاقية. وكان يؤمن أنه إذا وافقت الولايات المتحدة الأمريكية، فإن الموافقة البريطانية ستصحبها. وإتباعاً لسياسة النفس الطويل انتظر "عبدالناصر" شهرين، لعل هذا التهديد يحدو بالغرب لاتخاذ خطوة إيجابية تلغي مشروع الاتفاقية مع السوفيت، ولكن فشلت هذه المحاولة مما اضطره لتوقيع الاتفاقية. ولم يعلن عنها في حينه. وإنما أعلن عنها رسمياً في 27 سبتمبر 1955 أثناء افتتاحه معرضاً للقوات المسلحة.
ثارت بريطانيا للإعلان عن هذه الصفقة، وطلب السفير البريطاني في القاهرة مقابلة "عبدالناصر" على وجه السرعة، وبين له أن الصفقة تتعارض مع اتفاقية الجلاء التي تشير مقدمتها إلى الصداقة والرغبة في التعاون، وأنها ـ أي الصفقة ـ تهدد أمن القاعدة البريطانية في القناة لوجود أسلحة من بلد شيوعي، وما يتبع ذلك من وجود فنيين أجانب، فأجابه "عبدالناصر" أنه لا يوجد نص في الاتفاقية يمنع شراء الأسلحة من أي جهة، وأن عدد الفنيين سيكون محدوداً، وسيرحلون عقب تدريب المصريين، كما أن أماكن التدريب ستختار بعيدة عن القاعدة، ثم سأله السفير عن إمكانية إلغاء الصفقة، فنوه "عبدالناصر" بارتباط ذلك بثورة في الجيش.
وتفجر هذا النبأ في إسرائيل كأنه قنبلة واعتبرت هذه الصفقة تغييراً واضحاً في موازين القوى في المنطقة. كما كان قرار الصفقة يعني شيئاً أكثر من ذلك حيث يحمل مغزى إستراتيجياً وهو أن مصر التي كانت تعتبر حتى ذلك الوقت ضمن نطاق الوصاية الغربية التي يفرضها الغرب فرضاً قد انتقلت إلى دائرة النفوذ السوفيتي وأن "عبدالناصر" سيأتي بالروس إلى منطقة الشرق الأوسط.
أما عن مصر فقد استفادت من الصفقة وبعثت ضباطاً مصريين إلى تشيكوسلوفكيا وبولندا ـ Poland ليتدربوا على نوعية السلاح، كما أرسلت بعثة من القوات الجوية إلى الاتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية. وكان "عبدالناصر" قد اشترط أن يرفق بالصفقة قطع غيار وذخيرة تكفيها لمدة خمس سنوات، وأن تتسلم الأسلحة في شحنات ضخمة لا على دفعات على النحو الذي اعتاد عليه الغرب. وبذلك حقق عبدالناصر هدفه وضمن قوة جيشه. ورغم تردده في البداية عندما أقدم على هذا الإجراء، إلا أنه كان في صالحه، وأجهضت لأول مرة سياسة احتكار الغرب للأسلحة، وازداد هو رفعة وثقة، حيث دعم بهذه الخطوة موقفه المعارض للغرب، وأظهر قدرته على التحدي.
وهكذا كانت صفقة الأسلحة إيذاناً بكسر احتكار الغرب للشرق عسكرياً واقتصادياً، وبزوغ اتجاه جديد سلكته مصر عندما وجدت في مقدورها استخدام سياسة تحقق لها متطلباتها من ناحية، وتضرب في الوقت نفسه أعداءها من ناحية أخرى.
اقتباس:
فيما يلى ، النص الحرفى ، لأتفاقية الجلاء عن قاعدة القنال ، التى وقعتها مصر مع إنجلترا يوم 19 أكتوبر 1954
وبالتمعن فى نصوص هذه الأتفاقية ، نجد أن مصر كانت ما تزال مقيدة ناحية بريطانيا ، وأن الأستقلال الكامل لم يكم متحققا بهذه المعاهدة
ولقد حدثت مناقشات حادة فى المجتمع المصرى ، إشترك فيه خبراء القانون وأساتذة الحقوق والمحامون المصريين ، وكانت النبرة الواضحة أن تلك المعاهدة ، ليست كسبا حقيقيا لمصر ...
وتشاء الظروف أن يتم الأعتداء الأنجلوفرنسى على مصر ، بمساعدة إسرائيل ، مما أتاح لمصر فى النهاية ، التخلص من سلاسل هذه المعاهدة ،
بل أدت فى النهاية الى إستيلاء مصر على كافة المخازن البريطانية فى منطقة قناة السويس ، وشملت غنيمة مصر ، معدات عسكرية بريطانية حديثة ودبابات سنتوريون ومدرعات ومدافع ذاتية الحركة ومدافع ميدانية ومدافع طائرات وذخيرة وصواريخ وأجهزة رادار حديثة وسيارات ومعدات عسكرية تجاوزت قيمتهم مئات الملايين من الجنيهات الأستربينية ... وبذلك عوضت خسائرها فى سيناء ومعسكراتها التى هوجمت فى قواعد القناة وبقية مصر " حول القاهرة ، والأسكندرية والدلتا وجنوب مصر وقواعد البحر الأحمر" التى حدثت بين يوم الأثنين 29 أكتوبر والأربعاء 7 نوفمبر 1956
وقد أستعملتهم مصر فى تسليح قواعد سيناء ، بالأضافة الى المعدات الروسية "دبابان ، مدافع ، رادارات ، ومعدات عسكرية جديدة" إستولت إسرائيل على العديد منهم " ..... للأسف ... ... " خلال أيام حرب الأيام الستة "نكسة 5 يونيو" ... التى سأتطرق الى تفاصيلها فى وقت لاحق
د. يحى الشاعر