أمضى الأستاذ والمؤرخ في الكلية الأكاديمية تل حاي الإسرائيليّة مصطفى عبّاسي سنوات وهو يتعقّب آثار قصتهم. قبل سنوات قليلة، وصلت إلى يده رزمة من الجرائد الفلسطينيّة التي تعود لحقبة الانتداب، وما وجده فيها من أخبار عنهم ساعده في الوصول إلى مذكرات بعضهم وأوراقه الشخصيّة حتى وجد قلة منهم على قيد الحياة.
ومن خلال المقابلة معهم، ثم البحث في الأرشيف البريطاني والصهيوني وأوراق الهاغاناه ومواد من أرشيف "الجناة"، التنظيم العسكري للحركات الصهيونية الذي تحوّل إلى الجيش الإسرائيلي لاحقاً، كانت معالم القصة قد اتضحت.
هم حوالي 12000 فلسطيني شاركوا كمتطوعين في الحرب العالميّة الثانية إلى جانب بريطانيا في محاربة النازيّة، بينما سقطت جهودهم من خانة التوثيق في وقت احتفى التاريخ بالمتطوعين اليهود الذين خاضوا الحرب في المعسكر نفسه مع البريطانيين.
مؤخراً، نشر عباسي قصة هؤلاء الفلسطينيين في ورقة بحثية في دورية "كاتيدرا" التي خصّصت العدد لـ"فلسطينيين حاربوا النازية: قصة المتطوعين الفلسطينيين في الحرب العالميّة الثانية"، وشرح فيها الأسباب التي أسقطت هؤلاء المتطوعين من كتب التاريخ.
لماذا تجاهلهم التاريخ؟
من ناحية، انكبّ مؤرخو الصهيونيّة على تخليد الدور الذي لعبه المتطوعون اليهود في التصدي للنازية، في مقابل تركيز المؤرخين الفلسطينيين على توثيق مقاومة الحكم البريطاني ولم يكونوا معنيين بتمجيد أسماء من تعاونوا مع المستعمِر (البريطاني) الذي كان قد أخمد الثورة العربية قبل سنوات قليلة (بين عامي 1936 و1939)، معتبرين أن هؤلاء (المتطوعين) قد ساعدوا اليهود بشكل أو بآخر لبناء دولتهم لاحقاً.
ثمة أسباب أخرى، مفصليّة وحاسمة، يأتي عباسي على ذكرها في سياق تفنيده لمسوّغات تجاهل مشاركة الفلسطينيين في تلك الحرب. سيأتي عباسي على ذكر هذه الأسباب، ولكن قبل نقلها من بحثه لا بدّ من معرفة خلفيات ودوافع مشاركة 12000 فلسطيني في الحرب إلى جانب بريطانيا آنذاك.
من أين أتى هؤلاء لمحاربة النازيّة؟
يقول عباسي إنهم كانوا في الغالب من النخبة الفلسطينيّة التي، وعلى عكس ما يعتقد كثيرون، كانت تمثل "جزءاً مهماً ومحورياً من الشارع الفلسطيني". هذا الجزء اعتقد آنذاك أنه من الضروري وضع التطلعات الوطنيّة الفلسطينية جانباً والوقوف إلى جانب بريطانيا باعتبار أن محاربة النازية أولوية.
لقد فعلوا ذلك في وقت غادر مفتي القدس أمين الحسيني فلسطين والتقى بهتلر مهنئاً المتطوعين المسلمين في جيش ألمانيا النازية. في معرض الكلام عن المفتي ينتقده عباسي متسائلاً:"لقد غادر فلسطين عام 1937 لمدة عقد من الزمن. أي نوع من القادة يتخلى عن شعبه في مثل هذا الوقت؟"، وهكذا يزعم في ورقته البحثيّة أن المفتي لم يكن له تأثير على كثر سئموا من أساليبه.
وعن الموقف من المفتي بشكل أساسي، علّق الصحافي في "هآرتس" عوفر آديريت بالقول إن قصة عباسي هي الرواية المضادة لتلك التي يصرّ نتنياهو على تبنيها والتسويق لها، كما فعل عام 2015 حين اتهم المفتي بالمشاركة في الهولوكوست. لا يُفوّت الأخير مناسبة للتذكير بأن الفلسطينيين دعموا الرايخ الثالث، بينما يقول عباسي إن دعوة المفتي آنذاك لدعم النازية لم تلق آذاناً صاغية لدى الجمهور العريض.
وقد وجد عباسي أن نساء فلسطينيات تطوّعن أيضاً لمحاربة النازيين، وكان عددهم حوالي 120 شابة تطوعن في الفرع النسائي للجيش البريطاني، إلى جانب النساء اليهوديات.
وإذا ما عدنا إلى دوافع التطوّع كما يسوقها عباسي سنجد أن "البعض فعل ذلك لأسباب أيديولوجيّة بدافع معارضة الأيديولوجيّة النازية وما تمثله"، وتحديداً وسط أولئك الآتين من الطبقة العليا والوسطى وأصحاب الشهادات العليا. الريفيون الذين شاركوا كانوا مدفوعين للقتال لأسباب ماليّة، ومن الدوافع كذلك كان سعي البعض وراء المغامرة واقتناص الفرصة للسفر إلى الخارج.
من شارك في حثّهم على قتال النازيين؟
كان من بين المؤيدين للحرب البريطانية رؤساء بلدية القدس مصطفى الخالدي وبلدية نابلس سليمان طوقان وبلدية غزة رشدي الشوا.
وفي البحث كذلك يظهر مثال عن تعليقات للكاتب مصري عباس محمود العقاد كانت تبثها إذاعة فلسطين وقتها وفيها يصف الحرب بأنها "حرب بين القيم السامية والإنسانية التي تمثلها بريطانيا وقوى الظلام التي يمثلها النازيون". الكاتب المصري طه حسين والسوري عبد الرحمن الشهبندر كانا من الرأي ذاته، بالإضافة إلى رؤساء قبائل ورجال دين ورجال أعمال كانوا من بين المدافعين عن الحرب إلى جانب بريطانيا وقد كرّسوا جهودهم للترويج لها.
بموازاة هؤلاء ظهرت مواقف سياسية من نخب حاكمة في دول كانت تحت الحكم البريطاني مثل مصر والأردن والسعودية والعراق. ومن من بين هذه الدول، كانت إمارة شرق الأردن التي تميّزت بدعمها الواضح للبريطانيين. في تقرير استخباري بريطاني، صدر في سبتمبر 1940، تمّ تسجيل أن الأمير عبدالله لم يكن راضياً عن تجنيد الأردنيين فحسب، بل بذل جهوداً كبيرة في إقناع الزعماء الفلسطينيين باتباع خطته في دعم بريطانيا، وقد نجح في ذلك، وفق عباسي.
وهنا يستشهد عباسي بما كتبه دايفيد نوتاديل عن أن السعي النازي لتجنيد مقاتلين من الشرق الأوسط وأفريقيا لم يحظ بالنجاح نفسه الذي حظي به في مناطق أخرى في البلقان، وذلك بفعل البروباغندا العربيّة والبريطانية.
ولعبت الدعاية آنذاك دوراً أساسياً في مشاركة هؤلاء إلى جانب بريطانيا. فقد وثّق عباسي في بحثه مؤتمرات الدعاية المؤيدة لبريطانيا التي عُقدت منذ عام 1940 في أبو ديس وجنين وفي قرى نابلس وطول كرم وفي اللد. وكان البريطانيون قد بدأوا بشكل أساسي بالسعي لتجنيد مهندسين فلسطينيين، واعتقدوا أن نجاحهم في كسب 2000 متطوع يُعدّ مكسباً كبيراً.
كانت دوافع المشاركين الفلسطينيين تختلف عن تلك التي قادت اليهود لدعم البريطانيين، فاليهود تجندوا بسبب معارضة ألمانيا النازية وسياستها العنصرية تجاه شعبهم ، إلى جانب الدوافع الأخرى مثل إحياء الجيش اليهودي، وصولاً إلى مشروع إقامة الدولة.
يُعيدنا هذا الفرق بين الطرفين إلى المحور الأول في العرض هنا، وهو أسباب سقوط هذه القصة من الروايات التاريخيّة.
مصير الفلسطينيين الذين شاركوا في قتال النازية
يُشير عباسي إلى أنه في البداية، عمل المتطوعون الفلسطينيون واليهود في وحدات مختلطة. يقول عباسي "لقد تلقوا تدريبات وحفروا في نفس القواعد وفي كثير من الحالات قاتلوا جنباً إلى جنب".
وقد أدى قرب المقاتلين اليهود والفلسطينيين في بعض الأحيان إلى ذوبان الفريق الفلسطيني الذي لم يدخل إلى الحرب في فرقة تحمل اسم فلسطين على عكس اليهود الذين كان لديهم أجندة قوميّة، فقد كان هناك يهود يطالبون بأن تقام لهم وحدات يهودية خاصة، بينما العرب لم يطلبوا الاستقلال في وحدات خاصة بهم.
حصل الخلط بشكل أوضح في حالة شهاب حجاج، الفلسطيني الذي تم أسره في ألمانيا وتوفي عام 1943. وقد دُفنت رفاته في مقبرة عسكرية إسرائيلية باعتباره إسرائيلياً لأن شخصاً ما اعتقد خطأً أن كنيته تشير إلى أنه يهودي.
وجاء في الدراسة أيضاً أن المتطوعين الفلسطينيين، وبينهم كان جد الباحث سعيد عباسي، قاتلوا في عدة جبهات، منهم من قتل ومنهم من جُرح. وهناك قسم منهم فُقد في الحرب بينما وقع المئات في الأسر لدى الجيش الألماني، لكن أحداً لم يهتم بتخليد ذكراهم.
وبينما قال عباسي إن "المؤرخين في إسرائيل وغيرها قلّلوا من شأن التطوع الفلسطيني للحرب ضد النازية، وتسببوا بذلك في ظلم وتجنٍ شديدين"، أشار إلى حالات شبيهة ذكرها مؤرخون عن ظلم التاريخ لأفارقة شاركوا في الحرب العالمية الثانية، لأن التاريخ يظلم المستعمَر أو يحكي عنه بعنصرية وانتقاص.
مصدر 1
مصدر 2