تعرّض «لويس ولبرت»، الأستاذ الفخري بقسم علم الأحياء الخلوي والنمائي بجامعة لندن، لنوبة اكتئاب حاد، كتب على إثرها كتابه الهام «الحزن الخبيث: تشريح الاكتئاب»، وذلك بأسلوب علمي شيق ودقيق في آن واحد رغم ثقل الموضوع المُتناوَل.
ففي مقدمة الكتاب يصف ولبرت جزءًا من معاناته:
كانت تلك أسوأ تجربة في حياتي، وربما أسوأ من مأساة وفاة زوجتي بمرض السرطان، وكم يخجلني الاعتراف أن تجربتي مع الاكتئاب كانت أسوأ من مشاهدة زوجتي تموت بالسرطان، لكنها الحقيقة التي لا يمكن إنكارها. لقد كنت في حالة لا تشبه أي حالة مررت بها من قبل، فليست تلك حالة من الخمول أو الهبوط العام، ولم أكن محبطًا بالمعنى الشائع للكلمة، بل كنت مريضًا بالفعل، لقد كنت متقوقعًا على ذاتي تحاصرني الأفكار السلبية، وتسيطر عليَّ فكرة الانتحار معظم الوقت. فقدت قدرتي على التفكير السليم… وكل ما كنت أرغب فيه هو البقاء في السرير طوال النهار والليل… كنت أعاني من نوبات الهلع إذا تُركت وحيدًا… ظهرت لديَّ أيضًا أعراض بدنيَّة، فقد عانيت سخونة في جميع أنحاء جسدي…
لكنه وبعد أربع سنوات تعرض لنوبة أخرى من الاكتئاب الحاد هوت به مجددًا، حتى إن أصدقاءه نصحوه بقراءة كتابه.
ما هو الاكتئاب؟
يرى الكاتب أن الاكتئاب كالسرطان؛ فبينما ينشأ السرطان عن خلل في عملية طبيعية تحدث في الجسم يوميًا، ينشأ الاكتئاب كذلك عن خلل في مجموعة من الانفعالات التي تحدث بشكل طبيعي في حياتنا.
أعتقد أن تعبير «الخبيث» مناسب جدًا عند التعرض للحزن غير العادي والقلق والخوف، إذ يمكن لهذه المشاعر السلبية أن تنتشر وتحتل العمليات العقلية الأخرى، كما تفعل الخلايا السرطانية. كما أنها يمكن أن تؤثر تأثيرًا جوهريًا على طريقة تفكير المصاب، ويمكن أن تؤثر كذلك بعضها على بعض.
في الفصل الثاني يستعرض الكاتب عددًا من النظريات عبر أزمنة مختلفة، فالاكتئاب بدأ منذ بداية التاريخ البشري ذاته. وباختصار فالاكتئاب يُصنَّف على أنه خلل في المزاج، وله صور عدة، فهناك الاكتئاب الأحادي القطب الذي يتضمن الاكتئاب الحاد والخفيف، أما الاكتئاب ثنائي القطب فهو الاكتئاب الذي يرافقه فترات من الهوس، وبالطبع تتعرض كثير من السيدات لاكتئاب ما بعد الولادة، وكذلك فإن اختلاف الفصول قد يُسبِّب الاكتئاب الموسمي.
والاكتئاب قد يصيب الأطفال والمراهقين والبالغين (رجالاً ونساء) في مختلف أنحاء العالم، لكن تشخيصه يختلف باختلاف الثقافات. فبينما يتم تشخيصه بسهولة من خلال الاضطرابات الانفالعية في الغرب، يصعب تشخيصه في بلدان الشرق بسبب ظهور ما يُسمى بـ «الجسدنة» أي التعبير عن الاكتئاب من خلال أعراض جسدية كآلام المعدة والصداع، ويحدث ذلك بسبب ارتياح المرضى لهذا الشكل من التعبير، إذ يحميهم من الوصمة الاجتماعية المرافقة للأمراض النفسية.
ما هي أعراض الاكتئاب؟
طبقًا للدليل التشخيصي للاضطرابات العقلية «DSM-IV»، والذي وضعه الأطباء في الجمعية الأمريكية للطب النفسي، فإنه لتشخيص مريض بإحدى مراحل الاكتئاب الشديد، ينبغي توافر عدة أعراض على أن تستمر مدة أسبوعين على الأقل:
-اكتئاب في المزاج معظم اليوم.
-تقلص في الشعور بالاهتمام والاستمتاع.
-زيادة ملحوظة أو نقصان ملحوظ بالوزن.
-اختلاف عدد ساعات النوم بالزيادة أو النقصان.
-نقص القدرة على السيطرة على حركات الجسم.
-الإرهاق.
-الشعور بالتفاهة أو الذنب.
-فقدان القدرة على التفكير والتركيز.
-التفكير بالموت أو الانتحار.
يعرض الكاتب المزيد من الاستبيانات والمقاييس لتشخيص أنواع مختلفة من الاكتئاب في الفصل الثاني كذلك.
أسباب الاكتئاب
يرى الكاتب أن للاكتئاب نوعين من الأسباب: نفسية، وبيولوجية، وهذا ما شرحه بالتفصيل في الفصلين الثامن والتاسع. أما الأسباب النفسية، فقد قدّم العديد من النظريات والتجارب التي وُضعت لمحاولة فهم أسباب الاكتئاب.
حيث تُشبه مدرسة التحليل النفسي -التي تعتمد على أفكار فرويد بشكل رئيسي- الاكتئاب بالحِداَد، أما الطبيب والمحلل النفسي البريطاني «جون بولبي» فقد وضع نظرية «التعلق»، وقد استنبطها من تجارب له أظهرت تعلق الصغار بأمهاتهم بشرًا وحيوانات، وأثر غياب الأم على صغيرها الذي قد يؤدي إلى الاكتئاب.
أمّا «مارتن سليجمان»، أبرز باحثي علم النفس حول العالم، فقد فسّر السلبية والانسحاب بأنها نتيجة للعجز المكتسب. بينما طور «آرون بيك» نظرية العلاج المعرفي، التي تؤكد على قدرة المكتئب على تفهم المرض والتعايش معه إذا ما حصل على مساعدة المعالج النفسي.
ويلخص الكاتب كل ما أورده من نظريات وتجارب فيما يلي:
بناءً على ما سبق، يمكننا تطوير نظرية عن الاكتئاب اعتمادًا على تأثير الفقد وتجارب الطفولة المؤلمة في تحفيز الحزن الشديد لدى من يحملون قابلية وراثية للمرض، ثم يؤدي ذلك الحزن الشديد إلى تغييرات معرفية وانفعالية طويلة الأمد. ويمكن للحزن الشديد أن يتحول إلى حزن خبيث بسيطرته على العمليات المعرفية وتشويهها، فلا تعود تستجيب لمثيرات المتعة والفرح، مما يؤدي إلى الاكتئاب.
وفي الفصل التاسع، أفاض الكاتب في التفسيرات البيولوجية المحتملة للاكتئاب، وذلك من خلال شرح أجزاء المخ وأقسامه والهرمونات المرتبطة بالانفعالات، وشرح وافٍ للخلية العصبية وعمل الخلايا العصبية مع بعضها البعض، كما قدّم الكثير من التجارب التي حاولت فهم كيفية عمل أجزاء المخ والأجزاء المسئولة عن الذاكرة بنوعيها الضمنية والصريحة، وهذا الفصل لدقة شروحاته فهو طبي بحت، إلا أنه ذو أهمية بالغة وكنت أود -وبشدة- لو كان يضم في صفحاته بعض الرسوم التوضيحية لفهمٍ أسرع.
ويمكننا اقتباس هذه الفقرة من نهايات الفصل لفهم سريع للسبب البيولوجي للاكتئاب:
يمكننا القول إن الاكتئاب يحدث نتيجة تفاعل داخلي بين مناطق محددة في الدماغ مثل اللوزة المسئولة عن الانفعالات ومناطق أخرى مسئولة عن الجانب المعرفي، إذ تُحفِّز خطوب الحياة انفعال الحزن الذي قد يتطور إلى حزن مكثف لدى الأشخاص الذين يمتلكون الاستعداد الوراثي لذلك، ويولد الإحساس المكثف بالحزن بدوره أفكارًا سلبية تسيطر على التفكير، ممّا يحفز المزيد من مشاعر الحزن، وهكذا قد يتحول الحزن العادي في النهاية إلى حزن خبيث.
العلاج
في الفصل العاشر، يتحدث الكاتب عن مضادات الاكتئاب وتاريخ اكتشاف أهمها، ثم يشرح طريقة عملها واضعًا عدة جداول مُصنفة حسب أنواعها باسمها العلمي والتجاري، كما يلقي الضوء على علاجات أخرى فهناك عشبة «سان جون»، والجراحات التي قد تنطوي على خطورة، وهناك أيضًا الصدمات الكهربائية، والعلاج بالضوء.
لكن هل علاج الاكتئاب دوائي فقط؟
بالطبع لا، فهناك العلاج النفسي إلى جانب الأدوية التي بلا شك تخفف الكثير عن المريض، ويعتمد العلاج النفسي على مساعدة المريض في تغيير طريقة تفكيره السلبية وتغيير حالته المزاجية وتعامل أفضل مع المشاكل المحيطة به.
مصدر