في يوم 10 نيسان/ أبريل 1941 زار قنصل بريطانيا في البصرة وكيل متصرف البصرة، كما زار مستشار وزارة الداخلية في بغداد (بريطاني) رئيس الوزراء رشيد عالي الكيلاني وأعلماهما أن قطعات بريطانية تحملها قافلة مؤلفة من ثلاث بواخر حربية، وتحرسها طرادتان وثلاث طائرات، ستدخل مياه العراق الإقليمية خلال 48 ساعة8، فاجتمع مجلس الدفاع الأعلى وقرر السماح لهذه القوة بالنزول وفق الشروط المتفق عليها في 21 حزيران/يونيو 1940. وفي يومي 17 و18 نيسان- أبريل 1941 نزلت القوة البريطانية في البصرة دون مقاومة. وقد كان هذا من الأخطاء السياسية والإستراتيجية الكبرى التي ارتكبتها حكومة الكيلاني ومعها القيادة العراقية العسكرية في حينه، لان بريطانيا كانت عاقدة العزم على النزول في البصرة بكل الأحوال ومهما كلف الأمر
في 28 نيسان /أبريل 1941 طلبت السفارة البريطانية في بغداد من وزارة الخارجية العراقية، الموافقة على إنزال قوات بريطانية جديدة، تحملها ثلاث بواخر يتراوح عددها بين 2000 و3500 شخص، ستصل البصرة يوم 29 نيسان/ ابريل 1941. اجتمع مجلس الدفاع الأعلى، كما اجتمع مجلس الوزراء للنظر في طلب السفارة البريطانية، وقرر عدم السماح بإنزال قوة بريطانية جديدة قبل مغادرة القوة البريطانية الموجودة حالياً في البصرة، وذلك كما تنص عليه المعاهدة مع بريطانيا. كما قرر اتخاذ الترتيبات العسكرية اللازمة للدفاع عن سلامة المملكة وحفظ حقوقها إزاء المفاجأة. وأبلغت وزارة الدفاع بذلك. وقد أرسلت وزارة الخارجية مذكرة احتجاج إلى السفارة البريطانية، فتجاهلت السفارة البريطانية احتجاج وزارة الخارجية العراقية، ونزلت القوة البريطانية في البصرة يوم 30 نيسان/ أبريل 1941.
إجراءات احترازية عراقية
بناء على القرار الذي اتخذه مجلس الوزراء في جلسته يوم 28 نيسان/ أبريل 1941، قامت رئاسة أركان الجيش بتحريك بعض القطعات إلى التلال المحيطة بقاعدة الحبانية البريطانية في منطقة سن الذبان.
تقدير الموقف
يقول امير اللواء الركن حسين مكي خماس في مذكراته المنشورة ( من أيام العهد الملكي في العراق ) مقتبس منه الاتي : " كنا في مديرية الحركات العسكرية قد أعددنا تقدير موقف وبوقت مبكر تحسباً لتدهور الموقف، واحتمال الاصطدام بالجانب البريطاني، وذلك بناء على توجيهات من العقيد الركن صلاح الدين الصباغ. وقد توصل تقدير الموقف إلى عدد من الخيارات والمسالك المفتوحة. وكان المسلك الأكثر تفضيلاً هو أنه في حالة تدهور الموقف، واضطرارنا إلى اتخاذ عمل عسكري ضد القوات البريطانية، فعلينا اللجوء إلى الاستفادة من عامل الزمن لاستغلال تفوقنا العددي في القوات البرية، وكذلك في القوات الجوية في العراق، والذي سيبقى لفترة قصيرة جداً بعد اتضاح النوايا العدائية لدى الجانبين. فقد كانت القوات الجوية البريطانية المتواجدة في العراق في بداية تصاعد الأحداث لا تتجاوز بضعة طائرات تدريبية في قاعدة الحبانية ومعها عدد قليل من قوات الليفي (مشاة) محلية للدفاع المحلي والحراسات، مع عدم وجود إسناد ناري مدفعي لها. أما في قاعدة الشعيبة، فقد كانت تضم علاوة على طائرات التدريب، عددً من طائرات المواصلات، وعددً من الطائرات القاصفة نوع (ويلنكتون) مزدوجة المحركات. لذا استنتجنا في تقدير الموقف أننا إن تعين علينا اللجوء إلى العمل العسكري، أن نبدأ بالتعرض فوراً لتحقيق المباغتة الميدانية، وذلك بمهاجمة كل من قاعدتي الشعيبة في الجنوب والحبانية القريبة من بغداد ومسك المطارات المتواجدة بهما لحرمان الإنكليز من طائراتهم وإسنادهم الجوي وكذلك حرمانهم من المطارات التي يمكنهم بواسطتها جلب التعزيزات. وهذا سيؤدي إلى مباغتة سوقية ربما تقلب التوازنات السياسية والعسكرية في المنطقة وتجبر الإنكليز على التريث في عملهم الحربي بالرغم من إصرارهم على احتلال العراق، وفي هذا الوقت المتوفر تتمكن الحكومة من تعزيز اتفاقها أو تحالفها مع المانيا، والتي كانت قد بينت استعدادها لإرسال عدد من الطائرات الحربية لإسناد القوات العراقية بأعداد كافية. وعندها يمكن لقواتنا الصمود وربما فرض الأمر الواقع على البريطانيين.
مسالك العمل الممكنة: لذا فإن مسالك العمل المبنية على افتراض اللجوء إلى القوة المسلحة نصت على وجوب مهاجمة البريطانيين وفق الأسبقيات الآتية:
- حال صدور الأمر بتحريك قواتنا، تقوم قوتنا الجوية بمهاجمة مطارَيّ الحبانية والشعيبة بنفس الوقت وبشكل مباغت وبدون إنذار مسبق، من أجل تدمير وحرق جميع الطائرات البريطانية فيها، ولاسيما الطائرات القاصفة الموجودة في قاعدة الشعيبة قرب البصرة.
- بعد ذلك تتحول الأسبقية للقصف الجوي إلى تدمير المدارج وأبنية السيطرة الجوية وأكداس الوقود والعتاد في القاعدتين.
- بعدها يتحول الواجب إلى واجب تمشيط وقصف القوات البرية الموجودة ولاسيما قوات الليفي.
- يتزامن ذلك وبنفس الوقت تحرك القطعات البرية المهيأة للواجب، والتي ستتحرك بموجب مسلك العمل المفضل إلى قاعدة الحبانية لاحتلالها بموجب الخطة المعدة لذلك. وكذلك مهاجمة قاعدة الشعيبة واحتلالها ومسك المطارات المتواجدة في القاعدتين.
الخطة الأولية
بناء على ما جاء أعلاه فقد وُضِعَت خطة أولية لتحريك ما يكفي من القطعات لحصار كل من قاعدتي الشعيبة والحبانية من جميع الجهات، ومن ثم مهاجمتها حال انتهاء عملية القصف الجوي، على أن يزامن ذلك قصف مدفعي شديد للأهداف البرية في الحبانية لغرض تهديم أوكار الطائرات وتدمير وحرق ما لم يتم تدميره بالقصف الجوي، وأن يتم التنسيق بين القوة الجوية والقوة البرية المكلفة بالواجب.
اعتراض سياسي على الخطة وعدم توفر الإرادة السياسية لخوض الحرب
حال اطلاع مدير الحركات ورئيس أركان الجيش على الخطة، قالوا أن رئيس الوزراء وحكومته ربما لن يوافقوا على فكرة المباغتة والمبادأة بالهجوم، لأنهم يعتقدون أن الدبلوماسية والمفاوضات قد تعطي نفس النتائج مع تجنب الخسائر المحتملة11. وقد بيّنا رأينا بأن أي تأخر في المباغتة أو التخلي عن المبادأة ستؤدي إلى حدوث كارثة، لأن الإنكليز سوف يتمكنون من تحشيد قوات كافية في الوقت الذي يتظاهرون فيه بالتفاوض، ويتمكنوا من تحريك قواتهم الجوية بسرعة متناهية لامتلاك الطائرات عنصر وقابلية سرعة الحركة والمناورة، وإننا نقترح أن يصر القادة العسكريون على الفكرة العامة الأصلية للخطة.
القرارات التي تم تبنيها
نظرا لعدم تيسر القوات الكافية في الجنوب، فقد تقرر التركيز على العمل ضد قاعدة الحبانية فقط (وهذا مخالف لما اقترحناه ويعتبر خطأ سوقي سيؤدي من دون شك إلى خسارة قاسية، حتى لو تحققت نجاحات ميدانية، لان من المعلوم أن النجاحات أو الانتصارات التعبوية الميدانية لا يمكنها أن تصحح الأخطاء السوقية –الاستراتيجية)، وتقرر تكليف فرقة المشاة الثالثة بالواجب المذكور، وتعزيزها بقوات إضافية من موارد المقر العام. وكانت القطعات المخصصة للواجب:
- لواء مشاة واحد زائدا فوجي مشاة آلية.
- كتيبة مدفعية مسحوبة بالآليات تضم 12 مدفع قوس عيار 3,7 عقدة.
- كتيبة مدفعية ميدان ذات 12 مدفع 18 رطل وبطرية من أربعة مدافع قوس عيار 4,5 عقدة.
- سرية مدرعات تضم 12 مدرعة (سيارة مدرعة) Armored Car.
- سرية رشاشات آلية (منقولة بالعجلات).
- سرية مخابرة آلية واحدة.
- بطرية مقاومة طائرات/ مقاومة دبابات واحدة.
إصدار الأوامر
حال إكمال تقدير الموقف والمصادقة على الخطة الأولية الموضوعة ليلة 28 نيسان 1941، أُصدرت الأوامر الإنذارية إلى فق مش 3 لتهيأة القطعات على أن تكون بإنذار 3 ساعات للحركة.
أصدرت رئاسة أركان الجيش الأوامر لتحريك القطعات والتي كانت معسكرة في معسكري الرشيد والوشاش.
تحركت القطعات، وعندما وصلت إلى هضبة الحبانية الكائنة إلى الجنوب مباشرة من قاعدة الحبانية والمطلة عليها والمسيطرة على جانبي الطريق المؤدي إلى بغداد، انفتحت هناك مع إبقاء سرية مشاة واحدة في الفلوجة." انتهى الاقتباس".
بدء القتال بين القوات العراقية والقوات البريطانية.
بعد نزول قوات بريطانية جديدة في البصرة يوم 30 نيسان- أبريل 1941 رغم ممانعة الحكومة العراقية، أوعز قائد الجبهة صلاح الدين الصباغ، إلى قائد القوة العراقية التي تحاصر (سن الذبان) أن يصدر إنذاراً إلى آمر معسكر سن الذبان ( الحبانية) البريطاني يطلب فيه عدم تحليق الطائرات البريطانية في الجو في تلك المنطقة لأن القوات العراقية تقوم بإجراء المناورات التدريبية في المنطقة. ردَّ آمر القوة البريطانية على الإنذار بأن طلب سحب القوات العراقية من المنطقة وان تذهب القوات العراقية إلى مكان آخر لإجراء مناوراتها التدريبية.
بالساعة 0500 من صباح يوم 2 مايس- مايو1941 قامت القوات البريطانية وبشكل مباغت بإطلاق نار شديدة وكثيفة على قطعاتنا من معسكرها في الحبانية، كما قامت الطائرات البريطانية المتواجدة في القاعدة بإلقاء قنابرها على قواتنا المرابطة على مرتفعات سن الذبان. قامت قواتنا بالرد على النيران بالمثل فبدأت الحرب بين الجيش العراقي والقوات البريطانية.
احتلال البصرة:
في نفس يوم نشوب القتال في منطقة الحبانية وهو 2 مايو/مايو1941، قامت القوات البريطانية ومن ضمنها الطائرات البريطانية المنطلقة من قاعدة الشعيبة، بقصف القوة العراقية التي لم تكن تزيد عن فوج مشاة واحد الأمر الذي أدى لإصابتها بخسائر كبيرة، مما استدعى أن يطلب القائد الميداني العراقي هناك، الاتفاق مع القائد البريطاني على وقف إطلاق النار ميدانياً. وافقت القيادة العراقية على الاتفاق الميداني، وعلى أن ينسحب الفوج العراقي المرابط في البصرة بكامل سلاحه قبل حلول الساعة الثانية من بعد ظهر اليوم المذكور. ولما تأخر الفوج العراقي عن الانسحاب في الموعد المقرر حصلت بعض المناوشات بين قوات الطرفين، انسحب الفوح العراقي على إثرها إلى بلدة القرنة.
في يوم 7 مايو / ايار 1941 احتلت القوات البريطانية منطقة العشار في البصرة. وفي يومي 7و8 منه أصبحت البصرة في فوضى على إثر انسحاب السلطة العراقية المدنية منها ووقوعها تحت الاحتلال البريطاني العسكري المباشر ففُقِدَ الأمن وحدثت أعمال النهب والسلب. واستنادا إلى التقارير التي بعثها وكيل متصرف البصرة، قرر رئيس الوزراء رشيد عالي الكيلاني استدعاء الموظفين المدنيين والشرطة إلى بغداد. وصل الأمر إلى وكيل المتصرف يوم 16 مايو/ ايار1941، فأطلّع الموظفون على الكتاب وشرعوا بالانسحاب من البصرة في اليوم التالي 17 مايو/ايار 1941.
وصول مفرزة الطائرات الألمانية الى العراق.
في يوم 10 مايو/ايار 1941 شاركت طائرات من مفرزة القوة الجوية الألمانية المخصصة لمساعدة العراق في قصف مخفر الرطبة وقصف ارتال الجيش البريطاني التي كانت تتجه من شرق الأردن الى العراق لنجدة القوات البريطانية في منطقة الحبانية، ومساعدة القوات البريطانية ( الفرقة الهندية العاشرة ) التي باشرت تقدمها من البصرة نحو بغداد. وقد كان لعمليات هذه الطائرات في البداية تأثير نفسي جيد على معنويات المقاتلين العراقيين ، لكن ثبت في النهاية انها لم تكن لتؤثر تاثيرا كبيرا في تغيير نتائج الحرب كما سنرى في الفصول اللاحقة .
نهاية الحرب ونتائجها
استمرت الحرب من يوم 2 مايو1941 وانتهت فعليا يوم 31 منه بدخول القوات البريطانية بغداد . وشكلت بعد ذلك لجنة دعيت بلجنة الأمن الداخلي للسيطرة على الوضع في العاصمة برئاسة السيد محمد يونس السبعاوي وكان احد أعضاء القيادة الثورية حيث أُعلن حاكما عسكريا عاماً. لكنه ما لبث أن غادر بدوره العاصمة مع من غادرها. وبعد أن تم التوصل إلى اتفاقية وقف إطلاق النار مع الحكومة البريطانية، والتي كان من ضمن شروطها عودة القطعات العراقية إلى معسكراتها، فقد خرج عدد من ضباط مديرية الحركات العسكرية منهم المقدم الركن نور الدين محمود والمقدم الركن حسين مكي خماس وآخرون ليلة 31 مايو - 1 يونيو لاستلام قيادة الأرطال والقوات العراقية، والتي أصبحت بدون قادة ذوي رتب مناسبة بعد مغادرة القادة الأصليين إلى إيران، وتم إعادة القطعات إلى معسكراتها الدائمة. والحق فإنه بعد انتهاء هذه الحرب، وهروب قادتها، فقد تم اتخاذ إجراءات كثيرة لتقليص الجيش العراقي وإعادة تنظيمه حسب رغبة الوصي الذي عاد مع الإنكليز عند دخولهم بغداد . وتنفيذاً لرغبة بريطانيا التي كانت قواتها قد احتلت العراق ثانية، فتم الاستغناء عن معظم ضابطه وجنوده، فبعد أن كان تعداده يتجاوز الـ 40000 شخص تم تقليصه إلى 12000 فقط ولم يتم التعويض عن الخسائر التي أصابته في التجهيزات والأسلحة والمعدات. لذا تعين على من بقي في الجيش من الضباط والقادة القيام بواجبات كبيرة وصعبة ضمن إعادة التنظيم وإعادة التسليح والتجهيز.
العبرة والدروس :
كانت الحرب مع بريطانيا حربا غير متكافئة بين طرفين احدهما دولة استعمارية كبرى هي بريطانيا التي تخوض حربا عالمية شرسة تعتبر العراق منطقة استراتيجية حيوية لها ، والأخر الدولة العراقية الشابة التي حصلت بالكاد على استقلالها من المستعمر قبل اقل من 10 سنوات ، ولا يمكن مطلقا المقارنة بين قدراتهما السياسية والاستراتيجية ناهيك عن امكانتهما العسكرية الميدانية. وبالرغم من محاولة القيادة السياسية العراقية آنذاك (ممثلة بحكومة الكيلاني) توفير بعض أسباب النجاح للجيش العراقي من خلال طلب مساعدة المانيا وهي العدو الرئيسي لبريطانيا ، الاان النظرة الاستراتيجية الألمانية الى مسرح العمليات في العراق، لم تكن تعطيها أهمية كبيرة على سلم أولوياتها، ناهيك عن التحديدات الجغرافية والمسافات الشاسعة بين المانيا ومسارح عملياتها الحربية من جهة، ومسرح العمليات العراقي، كل هذا أدى الىان تكون المساعدة الألمانية لا تزيد عن سربين من الطائرات، وصلت متاخرة جداً ومن دون استحضارات كافية لها. ولم تؤثر على سير العمليات ولا على نتائج الحرب التي كانت نتائجها مدمرة، ولاسيما عند الأخذ بالاعتبار عدم توفر الإرادة السياسية لدى حكومة الكيلاني على قتال الإنكليز، بل التلويح بالقوة فقط ، مما ترك القادة العسكريون في موقف الانتظار لردود الفعل البريطانية أول الأمر، والتي بادرت قواتها إلى الضرب المباغت والشديد منذ البداية ، وتسلسل الحرب وخسارتها، ما أدى الى وقوع العراق ثانية تحت النفوذ البريطاني ولو بشكل مستتر ، وتدمير قوته الجوية وتقليص قواته المسلحة الى اقل من النصف كما سبق وبينا. هناك الكثير من الدراسات والبحوث التي تناولت الحرب العراقية البريطانية، او حركات مايو 1941، بالإمكان الرجوع اليها، لكن ما ذكر عن المساعدة الألمانية قليل جدا، وهذا ما يراد من هذا الكتاب ايضاحه للقارئ الكريم .
اللواء الركن
علاء الدين حسين مكي خماس
مصدر