أجرى رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح، الجمعة، مشاورات مع مسؤولين في مصر، بعد يومين من زيارة قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر، وبعد ساعات من بيان للجيش يؤكد الانسحاب من محيط طرابلس، وفي ظل تحركات دولية تسعى إلى استئناف العملية السياسية، وتمسك تركي باستمرار دعم رئيس حكومة الوفاق فايز السراج، فيما يسيطر الغموض على موقف مصر، بشأن ما إذا كانت ستتدخل لحماية مصالحها أم أن لديها مخاوف تعيق هذه الخطوة.
ويرى مراقبون للتطورات على الساحة الليبية، وما أدت إليه من تدخل تركي وتمركز للآلاف من الإرهابيين والمرتزقة، أن مصر تتعامل مع طبيعة الخطر الناجم عن هذا التحول بهدوء، وترفض المغامرة غير المحسوبة، مع أنه يمثل تهديدا مباشرا لأمنها القومي.
وبعد تمدد أنقرة وأذرعها المسلحة، وتراجع الجيش الوطني الليبي في محيط طرابلس، أصبح الخطر شديدا على المصالح المصرية، لأن أنقرة لن تكتفي بما حققته وقد تستمر إلى ما بعد طرابلس وترهونة مستفيدة من الصمت الإقليمي والدولي. ويتخوف المصريون من أن تعيد تركيا من خلال تمركزها في ليبيا سيناريو استهداف الإخوان لمصر من السودان منذ زمن الرئيس الراحل حسني مبارك.
وسبق أن حذرت القاهرة مبكرا من التدخلات الخارجية، ومن مغبة تمدد الجماعات الإرهابية، ورفضت هيمنة الإخوان على السلطة السياسية في طرابلس، ولم تخف دعمها للجيش الليبي، وينظر إليها الليبيون على أنها الحليف الرئيسي لهم في معركة الدفاع عن بلادهم في وجه التمدد التركي، لكنها إلى الآن تكتفي بتصريحات مقتضبة عن رفض مآلات التصعيد العسكري.
وخلال زيارته للقاهرة، الأربعاء، أجرى حفتر محادثات مع مسؤولين في مصر حول التطورات الأخيرة، لكن ما تسرب يقول إن المحادثات تركزت على العودة إلى المفاوضات العسكرية المعروفة بـ“5 + 5” وترحيب الأمم المتحدة بذلك، مع أن حفتر لم يخف أنه ذهب إلى القاهرة بحثا عن دعم أكبر وأوسع من الإسناد السياسي.
وذكرت أنباء على هامش الزيارة أن قائد الجيش الليبي ذهب إلى القاهرة وهو يرفع من سقف مطالبه لمواجهة الغزو التركي، ومن بينها طلب تحرك سريع من مصر لرفع الحظر عن تسليح الجيش الليبي في الوقت الذي يحظى فيه خصومه في طرابلس بدعم علني غير محدود بما في ذلك مشاركة قوات تركية في المعارك، وفق ما جاء على لسان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الجمعة، في تصريحات لصحف محلية.
وتعتقد مصادر مصرية أن حفتر فقد جزءا من زخمه العسكري والإقليمي، بعد التطورات الميدانية الأخيرة، وهو ما يعد إخفاقا لمن راهنوا عليه مبكرا في القاهرة. لكن لم يتضح إلى الآن لماذا أحجمت مصر عن استخدام آلتها العسكرية لصد الهجوم التركي الذي يهدد مصالحها.
وتبدو القاهرة صامتة أكثر من اللازم على الوجود التركي في فنائها الخلفي، وهي تعلم أن طموح أردوغان لن يقف عند طرابلس، وأن عينيه على النفط، ويهدد هذا الصمت منزلة مصر لدى الليبيين، كما يهدد مواطن العمل لمئات الآلاف من المصريين.
لكن مصادر مصرية تقول إن الجهات المسؤولة عن الملف الليبي بمصر تعرف تفاصيل الأزمة وتقاطعاتها الداخلية والخارجية، ولم تغلق خطوطها مع بعض الخصوم، وهي في أوج انحيازها الواضح إلى الجيش الوطني، بقيت منفتحة على القوى الدولية المعنية، وبعض القوى المحلية التي ليست على وفاق مع الرؤية المصرية العامة، وأن الوضع ليس مواتيا لما هو أكثر من الموقف الحالي.
والتقطت تركيا خيط تردد مصر وتعدد حساباتها وبنت عليه تدخلها المباشر، وهي متأكدة من أن القاهرة غير مستعدة للدخول في حرب عصابات مهما تصاعدت المخاطر في ليبيا.
ولم يثر التردد المصري تساؤلات الليبيين فقط الذين كانوا يعتقدون أن القوات المصرية ستهبّ إلى نجدتهم بالسرعة المطلوبة، بل بات يثير تساؤلات حول “الردع العسكري المصري” الذي تحول إلى عبء؛ فإذا كان الجيش القوي، الذي يعد ضمن أهم عشرة جيوش على مستوى العالم، لا يتحرك وهو يرى تهديدات على مرمى البصر منه في ليبيا، فما الجدوى من تكديس الأسلحة المتطورة؟
ويلح هذا السؤال على أذهان كثيرين داخل مصر وخارجها الآن، ووجدت “العرب” أن الإجابة عنه التي استقتها من مصادر مختلفة، مفادها أن القاهرة على يقين من أن جيشها غير مستعد للدخول في حرب عصابات؛ فإذا كانت حربها على الإرهابيين في سيناء استغرقت كل هذا الوقت، فكم يمكن أن تستغرق مواجهة هؤلاء في ليبيا، وخاصة أن هناك حدودا برية وبحرية مفتوحة، وتمركزا كبيرا لتنظيمات متطرفة؟
وذكرت مصادر سياسية مطلعة لـ”العرب” أن هناك شعورا راسخا لدى دوائر رسمية بالتآمر لجر مصر إلى مستنقع ليبيا، وقد يكون الدخول ممهدا، غير أن الخروج غير مضمون، ما يجر البلاد إلى حرب استنزاف تضيع معها الجهود التي بذلت لبناء دولة حديثة، وتُعِيد التنظيمات المتشددة إلى الحياة مرة أخرى.
يضاف إلى ذلك أن ليبيا منطقة نفوذ لقوى دولية تقليدية لن تسمح بأن يؤدي أي تدخل مصري إلى انتصار رؤية القاهرة السياسية التي تميل إلى دعم الجيوش النظامية ودحر القوى الإسلامية في شمال أفريقيا، ما يعني أن تدخلها مرجح أن تعقبه تحرشات واسعة، ربما تخلق لها موقفا يصعب علاجه مع دول الجوار، كما أن الطيران المصري لن يكون حاسما بمفرده، ما يتطلب الدفع بوحدات كبيرة من المشاة. ومن هنا تأتي الخطورة، حيث يسقط الكثير من الضحايا.
وتدرك القاهرة أن ليبيا لها خصوصية في حسابات بعض القوى، التي من مصلحتها صد الطموحات التركية عند حد معين. وإذا كانوا قد سمحوا بالتوغل التركي وصمتوا على ذلك فعليهم مواجهةُ طموحات أردوغان الذي يهدد مصالحهم الاقتصادية، وتحمّلُ تكاليف رؤاهم القاصرة وحدهم.
وترى دوائر عسكرية في مصر أن الوجود التركي في ليبيا هو تهديد للنظام الحاكم في مصر، بينما يتعلق التهديد المتوقع من إثيوبيا، بسبب بناء سد النهضة، بمصير الدولة المصرية، وهو أولى بالاستعداد للتعامل معه، وأي تدخل عسكري في ليبيا حاليا سيفتح الطريق لإثيوبيا لتنفيذ مشروعها دون اكتراث، وتشجيع دول حوض النيل على تكرار تجربتها.
محمد أبوالفضل
مصدر